أعربت لجنة “العدل والسلام”، التابعة لمجلس الأساقفة الكاثوليك في الأرض المقدسة، عن “الغضب الشديد”، “إزاء قيام الجهات المختصة في إسرائيل والخارج بتوظيف نظرية ’الحرب العادلة‘ من أجل إدامة الحرب المستمرّة في غزة وإضفاء الشرعيّة عليها”.
وفي وثيقة جديدة نشرت في 30 حزيران 2024، أكّدت اللجنة الأسقفيّة بأنّه وفي خضم الأوضاع التي تشهدها الأرض المقدّسة، فإنّنا “نشعر بالحاجة إلى كلام صريح يندّد بسوء استخدام مصطلح في تعليم الكنيسة الكاثوليكيّة، وهو ’الحرب العادلة‘، وهو مفهوم ظهر ثمّ تطوّر منذ العصور القديمة قبل المسيحيّة، ويثير قلقنا كمسيحيين، لأنّه يستخدم كسلاحٍ لتبرير الحرب المستمرّة في غزة”.
⮜ اللاعنف.. في قلب العقيدة المسيحيّة
بداية، أكدت الوثيقة بأنّ “اللاعنف هو في قلب عقيدتنا المسيحيّة”، إلا أنّ “المفكرين الكاثوليك حاولوا على مرّ القرون تحديد الظروف التي تصير فيها الحرب أمرًا محتومًا، بل أيضًا عادلة. ونتيجة لذلك، منذ عهد القديس أغسطينوس والقديس توما الأكويني، تبنّت الكنيسة مفهوم الحرب العادلة”.
وتورد الوثيقة بأنّ التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكيّة (رقم 2309) قد حدّد شروط الحرب العادلة، بقوله إنّ “الضرر الذي يلحقه المعتدي بشعبٍ أو مجموعة من الشعوب يجب أن يكون باقيًا وجسيمًا وأكيدًا. ويجب أن يثبت أن جميع الوسائل الأخرى لوضع حدٍ للاعتداء غير عمليّة أو غیر فعالة، ویجب أن تكون هناك احتمالات جدیّة للنجاح. وأخیرًا یجب ألا یؤدي استخدام الأسلحة إلى شرور واضطرابات أعظم من الشرّ الذي یراد القضاء عليه”.
⮜ الحرب الحاليّة ليست حربًا عادلة
وتشير اللجنة في وثيقتها إلى أنّه و”منذ الھجمات المرّوِعة التي شنّتھا حماس، ومسلّحون آخرون، في 7 تشرين الأول أكتوبر على منشآت عسكریّة ومناطق سكنیّة ومھرجان موسیقي في جنوب إسرائیل، ومنذ الحرب الكارثیّة التي شنّتھا إسرائیل ردًا عليها، فقد دعا القادة الكاثولیك، بدءًا من البابا فرنسیس، إلى وقف فوري لإطلاق النار والإفراج عن الرهائن. كما أوضح اللاهوتيون الأخلاقیون الكاثولیك في مختلف أنحاء العالم أن لا الھجمات التي شنتّھا حماس في السابع من أكتوبر، ولا الحرب الإسرائیلیّة المدمِّرة ردًّا عليها، تفي بمعايير ’الحرب العادلة‘ بحسب تعليم الكنيسة الكاثوليكية”.
وأضافت: “لا نريد أن نكرّر هنا الحجج التي تمّ تقديمها حتّى الآن – وهي أنّ المفاوضات لم تستنفذ في كل مرّة، قبل استخدام القوّة، وثانيًا أنّ أهداف إسرائيل المعلنة تجعل من المستحيل ’احتمالات النجاح المتوقّع‘. والأهمّ من ذلك، فإنّ الحروب العادلة يجب أن تميّز بوضوح بين المدنيين والمقاتلين، وهو مبدأ تجاهله الطرفان في هذه الحرب، فأدّى ذلك إلى نتائج مأساويّة. ثمّ أنّ الحرب العادلة یجب أن یكون فیھا استخدام متناسب للقوة، وهذا لا یمكن أن یُقال في حربٍ، عدد القتلى الفلسطینیین فیھا یزید بعشرات الألوف على القتلى الإسرائیلیین، وإنّ أغلبیة الضحایا الفلسطینیین هم من النساء والأطفال”.
⮜ نظرية مشكوك فيها
إنّ تطبیق نظریة ’الحرب العادلة‘ على الصراعات الحدیثة أمر مشكوك فيه، وخاصة الصراعات التي تمتد على عقود من الزمن، وقد أدى هذا الواقع إلى التأكید أن شروط الحرب ’العادلة‘ لا تتحقّق إلا في حالات نادرة جدًا. ویصحّ هذا الكلام بصورة خاصة في زمننا الحاضر الذي یؤدي فیه تطور صناعة الأسلحة المعاصرة القادرة على التسبّب في الموت والدمار على نطاق غير معروف، إلى ترجيح كفّة الميزان لعدم إمكانيّة وجود حرب عادلة. ومن ثمّ، يجب أن نكون حذرين من الذين يتلاعبون بمفهوم الحرب العادلة بحسب حاجاتهم.
وتقتبس الوثيقة أيضًا كلمات البابا فرنسيس ونداءاته المستمرة ابتداءً في مقابلته العامة، يوم 11 تشرین الأول 2023، بعد أربعة أیام بعد الھجمات الفلسطینیّة على جنوب إسرائیل، ذكر البابا فرنسيس حقّ إسرائیل في الدفاع عن النفس في أعقاب هجوم حماس. وقال ’إنّ من حق المعتدَى علیه أن یدافع عن نفسه‘. لكنه أضاف على الفور: ’لكنني أشعر بقلق بالغ إزاء الحصار الشامل الذي كان یعیش معه الفلسطینیون في غزة، حیث سقط أیضًا العدید من الضحایا الأبریاء‘.
وتضيف الوثيقة الجديد بأنّه “وفي وقت لاحق، بدلاً من استخدام نظريّة الحرب العادلة للتغاضي عن الحرب في غزة، استخدمها الكرسي الرسولي لمطالبة إسرائيل بالمحاسبة. على سبيل المثال، أكد رئيس الأساقفة غابريالي كاتشا، المراقب الدائم للكرسي الرسولي لدى الأمم المتحدة، أمام مجلس الأمن، في 24 كانون الثاني 2024، أنّ ’أي إجراء يتم اتخاذه للدفاع عن النفس يجب أن يسترشد بمبادىء التمييز والتناسب، وأن يتوافق مع المعايير الدوليّة للقانون الدولي”.
⮜ هل يجب أن تعلن الحرب أم لا؟
وتورد وثيقة لجنة “العدل والسلام” الاسقفيّة، “انتقاد آخر لنظرية الحرب العادلة، هو أنها يمكن أن تحوّل السؤال إلى: هل يمكن أن يكون التصرّف في الحرب آخلاقيًا أم لا؟ وبهذا، يتم تجنّب السؤال الأساسي: هل يجب أن تعلن الحرب أم لا؟”.
وفي هذا السياق، تشير إلى أنّ “البابا فرنسيس كرّر بانتظامٍ إصراره على أنّ الحرب هي في النهاية هزيمة للجميع. وكان البابا يوحنا بولس الثاني قد أطلق صرخته من قبل: ’لا للحرب! الحرب ليست أمرًا محتومًا. إنّها هزيمة للإنسانيّة‘. وذهب البابا فرنسيس إلى أبعد من هذه الانتقاد، فقال إنّ الحرب ’كذبة‘، ودعانا إلى إعادة توجيه جهودنا نحو بناء الأخوّة الإنسانيّة. وفي 29 كانون الثاني 2024، أوضح البابا في مقابلة مع الصحيفة الإيطاليّة ’لا ستامبا‘: ’إنّ الدفاع عن النفس حقّ مشروع، نعم. ولكن من فضلك دعونا نتحدّث عن الدفاع عن النفس، ونتجنّب تبرير الحروب، التي هي دائمًا خطأ‘”.
⮜ توظيف النظرية لإدامة الحرب
وتقول: “نحن الكاثوليك في الأرض المقدّسة، نشارك رؤية البابا فرنسيس من أجل عالم ينعم بالسلام، وإنّنا نشعر بالغضب الشديد إزاء قيام الجهات المختصة في إسرائيل والخارج بتوظيف نظرية ’الحرب العادلة‘ من أجل إدامة الحرب المستمرّة في غزة وإضفاء الشرعيّة عليها. إنّهم يستخدمون هذه النظرية بطريقة لم تكن هي المقصود على الإطلاق: أي تبرير موت عشرات الآلاف من أصدقائنا وجيراننا”.
وتضيف: “وهناك من يدّعي أنّ الحرب تتبع قواعد ’التناسب‘ فيقولون إنّ الحرب التي تستمرّ حتى النهاية المريرة قد تنقذ حياة الإسرائيليين في المستقبل، وتضع آلاف الفلسطینیین الذین تُزهق أرواحھم الآن على الجانب الآخر من الميزان. وبهذه الطريقة، يتم إعطاء الأولوية لأمن أشخاص افتراضیین في المستقبل على حیاة كائنات بشریة حیّة تُقتل الآن في كل یوم. باختصار، التلاعب بمصطلح ’الحرب العادلة‘ لیس تلاعبًا بالكلمات فقط، بل هو كلام على نتائج قاتلة ملموسة”.
⮜ علينا جميعًا أن نحمي سلامة العدل
وتتابع الوثيقة أنّه “على الرغم من أنّنا جماعة صغيرة في الأرض المقدّسة، إلا أنّنا نحن الكاثوليك جزءًا لا يتجزأ من هويّة هذه الأرض. ونودّ أن نوضّح أننا، وتقاليدنا اللاهوتيّة، لا يجوز أن نُستخدم لتبرير هذه الحرب. إنّ الشھادة التي نحملھا لیست شھادة حرب، بل شھادة محبة تبدّل الإنسان، إنّھا شھادة حریة ومساواة، وشھادة عدل وسلام، وحوار ومصالحة. وبروح الرجاء الذي يسكننا، لا يمكن أن نسمح بتوظيف كلمة ’حرب عادلة‘ لتبرير ما هو ظلم وقاسٍ ومبيد”.
كما أشارت إلى الواجب بـ”أن ندافع عن سلامة اللغة، لانّنا ما زلنا على اقتناع بأنّ العدل الحقيقي ما زال ممكنًا، هذا إذا تمكنا من التمسّك به. فعندما تحرّف الكلمات، تصبح اللغة نفسها غير قادرة على رسم مستقبل خالٍ من ويلات الحاضر. إنّ ’الحرب العادلة‘ المفترضة التي تدين الظلم وتعمّق الدمار وتزيد الإبادة، توشك بأن تجعل كلمة ’العدل‘ موضوع سخرية. لكنّ العدل ليس أمرًا يستخفّ به، ووعده باقٍ. وعلينا جميعًا أن نحمي سلامة العدل طالما أنّنا نؤمن بمستقبل أفضل. لقد حان الوقت لإنهاء هذا الصراع، ولمنع انتشاره، ولإزالة تهديده بحربٍ عالميّة. آن الأوان لحشد لغة تفتح آفاقًا جديدة”.
وخلصت وثيقة لجنة “العدل والسلام” الأسقفيّة إلى القول: “إنّنا نرجو على غير رجاء أنّ هذه الحرب ستنتهي، وأنّ الإسرائيليين والفلسطينيين معًا، سيعيشون في حريّة ومساواة، وسيسعون إلى تحقيق العدل الحقيقي، وإلى صنع السلام الحقيقي. وذلك نردّد مع صاحب المزامير: ’قد سمعتَ يا ربّ بغية الوضعاء وأملت أذنك فثبت قلوبهم، لتقضي لليتيم والمظلوم فلا يعود من الأرض إنسان إلى الطغيان‘ (مزمور 10: 17-18)”.