زار بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس يوحنا العاشر يازجي جامعة تشرين، حيث التقى إدارة الجامعة في حضور وزير التعليم العالي الدكتور بسام ابراهيم.
وعبر البطريرك يازجي عن “مشاعر الفرح والسعادة بزيارة جامعة تشرين التي كان أحد طلابها وخريجاً من الدفعة الأولى في كلية الهندسة المدنية”.
بدوره، رحب وزير التعليم العالي بالبطريرك يازجي باسم وزارة التعليم العالي وجامعة تشرين، مؤكداً أن زيارته “خطوة مباركة ويوم مميز في تاريخ جامعة تشرين الصرح المميز بكوادره وخريجيه”.
وألقى البطريرك يازجي كلمة في لقاء حواري بعنوان “كنيسة أنطاكية جذور وحضور”، جاء فيها:
“من جامعة تشرين يحلو لي أن أطل عليكم ومن خلالكم على سوريا وعلى المشرق الذي تسمت به وتكنّت كنيسة أنطاكية على مر العصور. Alma Mater هكذا تسمت الجامعات والمدارس وهكذا اعتاد البحاثة والأكاديميون أن يسموا هذه الصروح العلمية. “الأم المرضعة” هو ما اعتيد على إطلاقه على الجامعة والمدرسة. والمصطلح يعود في أصله إلى الإغريق والرومان الذين استخدموا هذا المصطلح ورقَموا به آلهة عصرهم. فالجامعة والمدرسة هي الأم المرضعة التي تصنع الأجيال والتي تدرُّ غذاء الروح والنفس لأجيال وأجيال فترمم النفس وترصّع المجتمع بالقيم التي تزيّن بها النفس وتغذي بها الروح. ومن هنا نتحسس عظمةَ هذا الدور الذي تقوم به الجامعات “أم العلوم” التي تغذي الإنسان اللبنةَ الأولى في تكوين المجتمع فتبني الوطن وتبني الحضارات.
نطل اليوم من جامعة اتخذت من الكرامة السورية شعاراً. نطل من تشرين الذي أرادته سوريا بقيادة الراحل الحاضر الرئيس الخالد حافظ الأسد عنواناً لكرامةٍ هي أعزُّ ما يملك إنسان هذه الديار. نطل من اللاذقية التي تختصر شموخ الجبل وانبساط البحر. نطل لنقول كلمة حق. نطل من هذا الشرق الذبيح على قارعة المصالح والشاهد على تنوع عبّاد الله في إلفةِ محبةٍ وفي عناق تلاقٍ. نطل من قلب كنيسة أنطاكية. إذا كانت القدس مهد المسيح، فإن أنطاكية هي المهد الفكري لهذه المسيحية التي انطلقت منها، من عاصمة الشرق. وكمسيحيين أصلاء في هذه الأرض، نحن من عتاقة دمشقها ومن حجارةِ حمصها ومن نواعير عاصيها ومن أصالة شهبائها ومن أرز لبنانها. نوافي لنقول إننا من قلب هذه الأرض التي نعشق ونحب. نطل كمسيحيين تتخذُ الأصالةُ من تاريخ حضورهم ههنا محكاً لأصالتها. نحن ههنا مذ كان المسيح في الجسد. نحن من عاصمة ولاية الشرق التي سربلتْ تلاميذ المخلص لقب مسيحيين. نحن من أنطاكية التي زنّرت الكون بحقيقة التجسد وأنبضتْ في الكون بشارة الفرح. نحن من حرمون، الذي من مياه ثلجه اعتمد المسيح في الأردن. نحن من أرز لبنان الذي قُد الخلود من خشبه. ونحن من رحابة سوريا التي تلثم جبين شمس المتوسط.
وهنا، لا بد من التذكير أن كنيسة أنطاكية تأسست من الرسولين بطرس وبولس واتّخذ كرسيُّها هذين القديسين شفيعين له. وفي تقليدنا الكنسي كان بطرس أول أسقف عليها. نقرأ في سفر أعمال الرسل ما يجعلنا نفخر ونشعر بعظم المسؤولية في آن معاً، نقرأ “ودعي التلاميذ مسيحيين أولاً في أنطاكية” (أع 11: 26). وهذا ما تدمغه وتؤكده مدينةُ اللاذقية، فقد عرفت اللاذقية المسيحيةَ منذ القرون الأولى وهذا ما يشهدُ عليهِ تاريخها والكنائس القديمةُ والآثار القائمةُ فيها وفي الجوار حتى اليوم. نذكر منها:
مغارة مار تقلا التي أقامت فيها القديسة تقلا وهي في طريقها إلى القلمون-معلولا.
دير الفاروس من القرن الخامس الميلادي، وإنجيل الفاروس الذي يعود إلى القرن العاشر الميلادي والمحفوظ في مطرانية اللاذقية. وقد ذكرَ هذا الديرَ أبو العلاء المعري الذي سكن فيه وعاش مع رهبانه. وذكره أيضاً الرحالة ابن بطوطة.
كنيسة السيدة من القرن الخامس الميلادي.
كنيسة مار نقولا من القرن الخامس الميلادي.
عمود السنكلست، أي عمود القديس ألكسي نهاية القرن الرابع الميلادي.
حي السكنتوري أي سانت كاترين أي القديسة كاترينا الكلية الحكمة.
نذكر أيضاً أن أساقفة اللاذقية وجبلة شاركوا في المجامع المسكونية من القرن الرابع إلى القرن الثامن.
ولا أحلى أن أذكر هنا ما قاله القديس يوحنا الذهبي الفم الأنطاكي في مديح القديس الشهيد العظيم إغناطيوس خليفة مار بطرس:
“وكأني به (المسيح) جعل مدينتنا في كفة ميزان والعالم كله في كفة أخرى لأن امتياز مدينتنا على كل المدن قائم على اتخاذها من الأصل هامةَ الرسل معلماً وراعياً. لأنه لاق أن يكون أولُ الرعاةِ في الرسل راعياً للمدينة التي دعي فيها المسيحيون أولاً بهذا الاسم الشريف… أما أنتم أيها الأنطاكيون فإذا دار الكلام في الرئاسة فيليق بكم التقدم على كل المسكونة لأن مدينتكم هي المدينة الأولى التي سمي فيها اسم المسيح”.
نطل اليوم على هذا الوطن من قلب جامعةٍ. والجامعة هي التي تجمع. هي التي تجمع العلوم وتجمع الأفراد إلى معينِ العلم والمعرفة. نطل في زمنٍ يُمتهن فيه العلم وتُمتهن فيه المعرفة عندما تُفرَغ من مبرر وجودها. نطل في زمنٍ يُسخَّر فيه العلم لبث سائر الشرور وتُستخدم فيه المعرفة على غير مشيئة الله. لقد أبدع الله هذا الكون ورصّعه بسائر الآلاء والنعم. وائتمن الإنسانَ المخلوق على هذه الخليقة. وبقدر ما ابتعد الإنسان عن الله بقدر ما دمّر هذه الخليقة وما عبث فيها وما أفسد من حسنٍ. نطل اليوم لنؤكد ومن هذه الجامعة أن المعرفة عندما تتجرد من القيم تتجرد من ذاتها وتتغرب عن كينونتها التي أرادها الله. نحن ههنا لنؤكد على أهمية العملية التربوية وعلى محورية دور الجامعات في بناء إنسان الوطن، إنسان الحضارة والثقافة المتعمدة دائماً بقيم الخير العام والأخلاق والمتغرّبة عن غرور وتبجح الإنسان بنفسه وعن الكبرياء البشرية التي تؤله، ولو باطنياً، فكر الإنسان وعقله وتسخّر التكنولوجيا للتدمير وللشرور لا لخير الإنسان وحسن سير حياته.
لقد تحسست كنيسة أنطاكية أهمية العملية التربوية في هذا البلد. فكانت المدارس الآسية في دمشق الذائعة الشهرة وكانت المدرسة الغسانية في حمص الغنية عن التعريف. لقد تفيأت مدارسها ببوابات الأديار واستظلت بقبب الكنائس وضمت الطلاب من كل الأطياف. فأقيمت المدارس في الأديار ومثالها مدرسة دير القديس جاورجيوس الحميراء ومدرسة دير سيدة البلمند وغيرها الكثير. كيف لا ومن هذه البلاد خرج الحرف إلى المعمورة! كيف لا ومن الشرق، كما تقول المقولة اللاتينية، خرج النور إلى الدنيا!
لقد تحسست كنيسة أنطاكية أهمية التعليم الجامعي فكانت جامعة البلمند. وفي وقتٍ كانت الحرب في لبنان وكان الدمار والخراب، شاءت كنيسة أنطاكية أن تعلي راية بناء فكانت جامعة البلمند. هي أرثوذكسية الهوية والطابع والرسالة والانتماء، لكنها لم تكن حكراً على الأرثوذكس لا إدارةً ولا طلاباً. كانت منارةً أرادها البطريرك إغناطيوس الرابع حاملةً رسالَةَ كنيسة أنطاكية إلى كل الأطياف. أردناها مشرقيةً تنهل من سائر الحضارات روميةً يونانيةً ولاتينيةً غربيةً وعربيةً. أردناها متأصلةً في التراث ومنفتحةً على المستقبل. أردناها في جوار الدير الخالد وبعيداً عن ضوضاء المدينة. وفي الوقت ذاته أردناها داخل المدينة وممتدةً إلى سائر الطوائف والمكونات والبلدان. أردناها متعمقةً في الأصول الشرقية وفي الدراسات العربية. أردناها حواراً حضارياً مع الإسلام والمسلمين. وأردناها غير متغربةٍ عن عالمٍ عربيٍّ نعيش فيه. أردناها عيناً على الفلسفة والتاريخ والجغرافية وعلى سائر الآداب والعلوم الأخرى التي لا تقل شأناً عن العلوم التطبيقية. لا بل اعتبرنا ولا زلنا نعتبر أن هذه، أي الأدب والشعر والفلسفة واللاهوت، هي عماد روح الجامعة وقوام فلسفة وجودها والمحدد الأول لهويتها ولرسالتها.
فإذا أردنا التوقف عند دور هذه الكنيسة الأنطاكية في مجتمعها ومحيطها، وحتى من الناحية الوطنية فإن الكلام يطول. لذا سنكتفي بذكر بعض الأمور في العصر الحديث. لقد عرفت كنيسة أنطاكية الأعلام الكبار ومنهم على سبيل المثال:
البطريرك ملاتيوس الثاني الدوماني الذي كان مطراناً على اللاذقية وقد عرفت اللاذقيةُ وكنيسةُ أنطاكية على عهده نهضةً روحيةً وكنسيةً كبيرة.
البطريرك غريغوريوس الرابع حداد الذي خلف البطريرك الدوماني والذي لُقب بـ “بطريرك الرحمة” و”أبي الفقراء” وذلك خاصةً لإطعامه الجياع أثناء مجاعة السفر برلك. والكل يذكر كيف باع صليبه المهدى من القيصر الروسي له. والذي كان على أطيب علاقة مع الملك فيصل وأراد أن تكون لهذه البلاد كلمتها الاستقلالية فأيد الحكم الوطني. ولدى وفاته سنة 1928 أوفد الملك فيصل الذي كان قد تولى حكم العراق حينها مائة من الخيالة للمشاركة في جنازته والتي ضمت حوالي خمسين ألفاً من مسلمي دمشق.
البطريرك ألكسندروس الثالث طحان ابن دمشق الذي عاصر الحكم الوطني بعد الاستقلال. نذكر هنا تأبين هذا البطريرك للبطل جول جمال سنة 1956 وذلك في الكاتدرائية المريمية بحضور رئيس الجمهورية شكري القوتلي. ونذكر أيضاً كيف احتفلت، قبل ذلك، دمشق والدولة السورية كلها بتكريم البطريرك ألكسندروس الذي تقلد وشاح بني أمية الأكبر، وهو أرفع الأوسمة، احتفالاً بذكرى اليوبيل الذهبي لأسقفيته في خمسينيات القرن الماضي.
البطريرك الياس الرابع معوض صاحب الكلمة النارية في مؤتمر لاهور الإسلامي سنة 1974 والذي لُقّب بِ “بطريرك العرب” نظراً لمواقفه الوطنية وتلك الداعمة للقضية الفلسطينية.
البطريرك إغناطيوس الرابع هزيم الذي حضر قمة الطائف الإسلامية سنة 1981 وكان له الباع الطويل في الحوار المسيحي – المسيحي والمسيحي – الإسلامي. وهو الذي أسس جامعة البلمند سنة 1988. بنى الجامعة وأرادها أن تكون باكورة إعمار لبنان بعد الحرب. قيل له: أتبني جامعة والدمار يحيط بنا من كل جانب. فأجاب: قدر البعض أن يدمر وقدرنا أن نبني ونبقى.
ومنذ العصر الرسولي، قدمت كنيستنا الأنطاكية كوكبةً من الأعلام القديسين والشهداء واللاهوتيين. نذكر ههنا العلامة يوحنا الدمشقي منصور بن سرجون الملقب “دفاق الذهب” لفصاحة لسانه. وكان والده أمين بيت مال المسلمين في العهد الأموي.
وطالما أننا في اللاذقية، فلا بد من الإشارة إلى أن ثلاثةً من مطارنتها ارتقوا عرش البطريركية الأنطاكية في العصر الحديث وهم ملاتيوس الثاني الدوماني وأرسانيوس حداد وإغناطيوس الرابع هزيم.
واشتهر منها أيضاً العلامة جراسيموس مسرة مطران بيروت مطلع القرن الماضي.
واشتهر منها أيضاً الأرشمندريت الياس مرقص والشماس المحامي اسبيرو جبور.
نذكر أيضاً أخانا بالجسد المطران بولس يازجي مطران حلب.
نذكر المؤرخ الياس صالح صاحب كتاب “آثار الحقب في لاذقية العرب”.
نذكر العلامة جبرائيل سعادة الذي أهدى مكتبته إلى هذه الجامعة.
نذكر أيضاً الأستاذ الموسيقار راوول فيتالي الذي أعطى وصفاً كاملاً للسلالم الموسيقية البابلية وقدم قراءة للتدوين الموسيقي المكتشف في مدينة أوغاريت الأثرية والمعتبَرِ أولَ تدوين موسيقي معروف في التاريخ.
نذكر هنا الدور الكبير الذي كان للأرثوذكس في الحياة الوطنية وفي الحركة القومية. ولا ننسى أن ألحان متري المر ابن ميناء طرابلس وقصائد المطران أبيفانيوس زائد ابن دير عطية استقرت دائماً في مسامع أبناء هذه الديار. فإن النشيد “نادت الأوطان هيا” هو أول نشيد وطني سوري رسمي تم اعتماده سنة 1922، قام بتأليفه وتلحينه متري المر. وأما النشيد “يا بني قومي صعوداً” هو نشيد ألفه المطران أبيفانيوس زائد ولحنه متري المر ضد تقسيم سوريا إلى دويلات وكيانات صغيرة. وكذلك النشيد “يا بلادي يا بلادي” هو نشيد الحربية السوري وقد ألفه ولحنه متري المر، وكان يوسف العظمة ورفقته ينشدونه في طريقهم إلى معركة ميسلون.
نذكر أيضاً الدور الكبير للأرثوذكس في تأسيس وقيادة أحزابٍ ضمت مختلف أطياف النسيج الديني والمجتمعي. نذكر ميشيل عفلق مؤسس حزب البعث ورائد القومية العربية. ونذكر أيضاً أنطون سعادة مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي ورائد فكرة القومية السورية. ونذكر أيضاً جورج حاوي أمين عام الحزب الشيوعي اللبناني. نقول هذا لنؤكد أن الأرثوذكس كانت لهم ولا تزال مساهمتهم وبصمتهم في الحياة الوطنية والاجتماعية والسياسية وكان لهم الدور الكبير في هذا الشرق وفي العالم العربي.
في لاهوت كنيسة أنطاكية يحتل الملموس جوهر القضية. يحتل المدرك والملموس والمرئي والتجسديّ لب الأمور. هي آرسطية بمعنى أنها تنطلق من المدرك بالحواس لتناجي غير المدرك وغير المحصور. ومن هنا كان اهتمامها بالإنسان وبالمخلوق لتناجي غير المخلوق. لقد نظرت الكنيسة الأنطاكية الله من خلال نظرتها إلى الأخ في الإنسانية. لقد ناجت الله من خلال خليقته، من خلال الإنسان، ومن خلال الآخر. لقد وجدت في الإنسان سبيلاً لتناجي ربّ الإنسان. ترجمت محبتها أفعالاً وسكبت لاهوتها أفعال رحمةٍ.
لقد ترجمت الكنيسة الأنطاكية كل هذا من خلال تأسيسها دائرة العلاقات المسكونية والتنمية بُعيد الأزمة العراقية. وتابعت رسالتها بعد الأزمة السورية. ومدت يد المساعدة والإغاثة لكل من في ضيقٍ وبمعزلٍ عن الانتماء الطائفي. وقد وسعت الدائرة شراكاتها وانتشارها الجغرافي لتصل في الوقت الحالي إلى 58 مركزاً مجتمعياً و29 مكتباً موزعاً في كافة المحافظات السورية ليبلغ عدد متطوعيها ما يفوق 1630 متطوعاً ومتطوعةً يعملون في كافة قطاعات العمل الإنساني، من برامج تعليمية، صحية، سبل عيش، برامج حماية، ترميم منازل، مستشفيات، مدارس .. الخ. وقد حصلت الدائرة على شهادة CHS التي تعتبر من أرفع شهادات العمل الإنساني عالمياً. لتكون بذلك المنظمة الأولى في الشرق الأوسط التي تحصل على شهادة عالمية بهذا المستوى. نحن نرى وجه المسيح في وجه أخينا في الوطن وفي وجه أخينا في الإنسانية. هذا ما نتعلَّمه وهذا ما نعلِّمه. كنا دوماً إلى جانب الملهوف والمشرد. هذا واجبنا لا بل هذا جوهر تعليمنا. ومن هذا المنطلق فقط، تعمل كل مؤسساتنا الكنسية وعلى رأسها المستشفيات والمدراس والجامعات التي نريدها لخدمة إنسان هذه الديار ومن كل الأعراق.
نحن ههنا لنقول للعالم إننا معجونون من تراب هذا الشرق. نحن من هذه الأرض التي لامست أقدام رسل المسيح. نحن من دمشق التي سمعت مع شاول عتبَ المسيح: شاول لِم تضطهدني. نحن من الشارع المستقيم الذي بدد غشاوة بصيرة شاول وجعل منه بولس رسولَ الأمم. نحن من الفرات ومن العاصي الآتي من لبنان ليلثم وجنة أنطاكية. نحن من أفاميا ومن تدمر. نحن من أرز لبنان الذي يلثم وجه الشمس بشموخ. نحن من صيدنايا ومعلولا التي يزين الصليب جبالها. نحن من هذه الشطآن ومن تلك الروابي التي تمسحنت أولاً فمسحنت الدنيا. نحن من أنطاكية ومن الإسكندرون. نحن من الجولان ومن الجنوب ومن صور وصيدا. نحن من السويداء ومن شموخ جبلها. ونحن من هذه الأرض قومٌ عشقوا الأصالة وعاشوا الانفتاح دون الاختناق في القوقعة ودون الذوبان في المحيط. نحن من هذه الأرض التي نعتبرها هويةً لنا. شهدنا للمسيح منذ ألفي عام وإلى الآن نشهد وسنشهد. علقنا أجراسنا على مر التاريخ ونحتنا حجر كنائسنا من صخر هذه الأرض. هذه الأرض لنا هي جرن معمودية، به اغتسلنا للمسيح وبه تسربلنا المسيح. عشنا مع إخوتنا المسلمين في لقيا وتآخٍ. جمعتنا وتجمعنا وإياهم أخوّة الأرض وجيرة التاريخ والتماس رحمةِ أبي الأنوار وسيد المراحم. نقول هذا لنؤكد إننا باقون هنا رغم كل شيء. نقول هذا لنؤكد أن الهجرة والتهجير هي حربةٌ تنكأ جنب المسيح من جديد. ورغم كل هذا، باقون وسنبقى شهادةً لمن غرستنا يمينه في هذه الأرض، للمسيح، ليسوع المخلص، لمن عليه الاتكال وحده.
يتباكى العالم على السوريين وعلى سواهم، ويتناسى أن حل مشكلة الهجرة الشرعية واللاشرعية هو واحد. ارفعوا الحصار عن هذا البلد. ووفروا عليكم وعلى حكوماتكم وعلى المنظمات الدولية ضريبة الهجرة وآثارها ونتائجها على المجتمعات المضيفة.
لقد دفعت سوريا من أقدار أبنائها ضريبة الإرهاب والعنف والخطف والتهجير والحصار الاقتصادي. أما آن لجلجلة هذا البلد أن تصل إلى نور قيامة؟ أما آن لجلجلة هذا المشرق أن تصل إلى بشرى خلاص؟ أما آن لملف المطرانين بولس يازجي، خريج هذه الجامعة، ويوحنا إبراهيم، مطراني حلب المخطوفين منذ نيسان 2013، أما آن لهذا الملف أن يجد خاتمته بعد كل هذه السنين؟ نقول هذا وفي قلبنا غصةٌ ممزوجةٌ دائماً بالرجاء. نحن أبناء الرجاء وأبناء وعد المسيح: أنا معكم طول الأيام.
من هذا المنبر نرفع التحية إلى سيادة الدكتور بشار الأسد رئيس الجمهورية العربية السورية. ومن هنا أيضاً نرفع صلاتنا من أجل العين الساهرة على هذه الأرض. نستمطر رحمات الله على شهداء هذا البلد. نعزي عائلاتهم وذويهم.
بوركت اللاذقية وبورك شعب اللاذقية. بوركت جامعة تشرين. بوركت نفوسكم الطيبة إخوتي أبناء هذا الوطن: بوركت نفوسكم الشامخة التي تُصدق مقولةَ النشيد الوطني
نفوسٌ أباةٌ وماضٍ مجيد، وروح الأضاحي رقيبٌ عتيدْ. عشتم وعاشت راية العلم خفاقةً وعاشت سوريا عريناً للكرامةِ وأرضاً نعشق ونحب”.