رعى سمو الأمير الحسن بن طلال، رئيس مجلس أمناء المعهد الملكي للدراسات الدينية، الأربعاء 8 أيار 2024، افتتاح الندوة الدوليّة السابعة للمعهد تحت عنوان “الإنسانية في زمن السلم وفي زمن الحرب”.
وتأتي هذه الندوة بتنظيم من المعهد الملكي للدراسات الدينيّة، ودائرة الحوار بين الأديان في حاضرة الفاتيكان، بالتعاون مع السفارة البابوية في الأردن، بالتزامن مع مرور 30 عامًا على إعلان العلاقات الدبلوماسيّة بين الأردن والفاتيكان وتأسيس المعهد الملكي.
وفيما يلي الكلمة التي ألقاها البطريرك ساكو في جلسة الافتتاح:
أتقدم أولاً بعميق شكري من جلالة ملك الاردن عبد الله الثاني وحكومته وشعب الاردن على استقبالهم العديد من المهجرين العراقيين وغيرهم في الاردن. هذه اللمسات الانسانيّة الرقيقة اتمنى ألّا ينساها المهجَّرون أبداً.
ونيابة عن الوفد الفاتيكاني أتوجه بالشكر والامتنان الى المعهد الملكي للدراسات الدينية والى سموّ الامير الحسن بن طلال، ومدير المعهد وكادرَه، على جهودهم ومبادراتهم المتعددة لتعزيز الوعي بديناميكية الحوار بكل أبعاده بين الأديان، من أجل تحقيق العيش المشترك المتناغم والسلام والوئام، والمحافظة على التنوع الديني والثقافي في المنطقة.
الحوار، حوار الشجعان، هو السبيل الكفيل لحلّ المشاكل وتحقيق السلام الشامل والدائم أمام الحروب التي تقوّض الأخوّة الإنسانية. أملنا أن يساهم كل ذوي الارادة الطيبة في إرساء السلام. لا يمكن ان نبقى لا مبالين أمام موت الآف الابرياء وملايين المهجَّرين كما هي الحال في الاراضي المقدسة واوكرانيا وبلدان اُخرى. ثمة حاجة ماسة الى التوازن الدولي لتوفير فرصة السلام والأمن والأمان في العالم.
كما اُشيد بدور الكنيسة الكاثوليكية وموقف البابا فرنسيس وخطاباته حول أهمية السلام والمحافظة على حقوق الإنسان وحريته وكرامته. إحترام الديانات، والحوار معها غَدَا قيمة أساسية للكنيسة.
وتعدّ وثيقة الأخوّة الإنسانية من أجل السلام العالمي والعيش معاً، الموقّعة من قِبَل البابا فرنسيس وشيخ الازهر الدكتور محمد الطيب في أبو ظبي في الرابع من شباط عام 2019، إنجازاً تاريخياً فريداً بين الديانتين المسيحية والإسلام.
اؤكد ان الاخوّة الانسانية ليست مجرد فكرة، انما هي مشروع حياتي ضروري نتربى عليه، ونطبقه في حياتنا اليومية. ان الحياة فن أنسنة ومباديء وأخلاق التي تتطلب شجاعة. الحرب تتقاطع مع السلام! عالمنا بحاجة الى قياديين يعملون بجد من أجل السلام.
الانسان محور الديانات في السلم والحرب
لقد اوصى المسيح تلاميذه: “وَكَمَا تُرِيدُونَ أَنْ يَفْعَلَ النَّاسُ بِكُمُ افْعَلُوا أَنْتُمْ أَيْضاً بِهِمْ هكَذَا” (لوقا 6/ 31) ونفس العبارة نجدها في الحديث الشريف: “لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه”. هذه هي القاعدة الذهبية للتعامل بين البشر ولترسيخ العيش المشترك المتناغم.
يدعونا الله الذي خَلَقنا الى العمل الدؤؤب من أجل تقليل الظلم والألم، وتغيير اوضاع الناس، واخماد كلّ اشكال الصراع والحرب، وإشاعة مفاهيم الحياة، والمحبة والاخوّة والتسامح والخير العام، والاحترام المتبادل والسلام، وليس الكراهية والتباعد والتقاتل.
المحبة دليل محبتنا لله تعالى وعبادتنا الحقّة له. فان الله خَلَقنا مختلِفين، لذلك ينبغي إحترام تصميمه، وليس إقامة أنفسنا قضاة لتصنيف الناس، لنترك الحكم لله (المحبة والرحمة). من المؤسف ان الانجرار وراء التطرف هو السائد في المنطقة، لذا ثمة حاجة اليوم أكثر من أي يوم مضى لخلق شعور جماعي قوي مشترك بأهمية نشر ثقافة الاعتدال والسلام والعيش المشترك والمحافظة على حقوق المواطنين على أساس اخوّتهم في الخلق ووحدتهم في الإيمان بـ الله. لذا فاختلاف الديانات كما ذكرنا تصميم الهي، والفكر المتطرف لا يساعدنا على التعامل مع التحديات وإدارة الزوايا.
التوعية والتربية
أجد أن المشكلة الحالية في التباعد والتطرف تكمن في (نقص أو قلة) وغياب ثقافة الوعي والتجديد والتربية الدينية والمجتمعية عندنا. فان كانت التربية واعية ومتماسكة ومنفتحة على الآخر، والاعتراف به وقبوله كأخ في البشرية وكمواطن، ستؤدي لا محالة الى نتائج إيجابية حقيقية وتُجنِّب مواطنينا الخلافات والافعال السيئة.
التربية هي الطريق نحو المستقبل والسلام. لنعلّم أولادنا استعمال الفاظ المحبة والاحترام بدل الفاظ التكفير والتخوين والاقصاء، التي لا تستند عموماً الى رسالة الدين الذي يهدف الى تقريب الناس من بعضهم البعض وليس الى تقسيمهم. فالمطلوب منّا هو تطبيق استراتيجية متكاملة لتجديد الفكر والخطاب الديني في المنطقة، الذي سيجنّبنا العديد من الصراعات والنزاعات.
إن ظروفاً كثيرة تُغذّي وتيرة العنف في منطقتنا العربية، سببها ما نحمله من فكر “متوارَث” عن الآخرين المختلفين عنّا، والحكم عليهم غيبياً. خصوصاً لأننا نحن الشرقيين عموماً نميل الى التسلُّط / السلطة والصاق التُهَم والأخذ بالثأر بالقوة والسيطرة على الآخر بدل اللجوء الى القضاء والحوار والتفهّم.
هذا الموقف المتشدّد يخلق حالة من عدم الاستقرار والتوتر، وقد يقود الى حرب يصعب إخمادها، حرب تدمّر ما أنجزه الانسان خلال قرون. ناهيك عن الخسائر البشرية والمادية والحضارية والثقافية الهائلة التي تفرزها هذه الحروب العبثية كما حصل في العراق وسوريا واليمن وما يحصل في الأراضي المقدسة اليوم. المشهد جداً خطير ومقلق جداً.
رسالة رجل الدين
رجل الدين ينبغي ان يكون عقله مستنيراً لانه يحمل رسالة سامية. رجل الدين يزرع المحبة في قلوب الناس بدل الكراهية، لان المحبة هي الزاد الذي يغذي العيش المشترك والتعاون والسلام والاستقرار، بينما الحرب لا تنسجم مع رسالة الأديان ولا مع إرادة الله.
رجل الدين هو من يتكلم باسم الله، ويفعل ما يريده الله، لذا عليه أن يقول ما لا يجرؤ الآخرون على قوله. وبعكس ذلك، فإن سلطة رجال الدين إذا خرجت عن نطاق النصح بالأخلاق الحميدة، وإشاعة القيم الانسانية والروحية، غدَت كارثية!
تنشئة الناس رسالة سامية من خلال برامج التعليم في المناهج الدراسية لمادة الدين والتاريخ في المدارس والجوامع والكنائس وورشات العمل والاعلام. اعتماد تفسير سليم للنصوص المقدسة في سياقاتها التاريخية والثقافية والاجتماعية، ضروري لسد الباب أمام من يفسّرها خارج إطارها ويشحن عقول الناس بتفاسير مشوهة. بهذه الطريقة المنفتحة والمستنيرة يمكن تفكيك الايدولوجية المتطرفة ومكافحة الإرهاب واعداد المستقبل وضمان أوضاع افضل للبشر.