ترأس بطريرك إنطاكية وسائر المشرق للروم الملكيين الكاثوليك يوسف العبسي، قداسا احتفاليا بمناسبة سنة اليوبيل، وذكرى 300 سنة على إعادة الوحدة مع الكرسي الرسولي، في كنيسة راهبات الخدمة الصالحة في دير جبولة في البقاع الشمالي، بحضور عضو كتلة “لبنان القوي” النائب سامر التوم، رئيس بلدية القاع بشير مطر، مختار جديدة الفاكهة يوسف خوري، المدبر البطريركي لابرشية بعلبك الهرمل المطران ادوار ضاهر، رئيس أساقفة الفرزل وزحلة المطران ابراهيم ابراهيم، راعي أبرشية بعلبك ودير الاحمر المارونية المطران حنا رحمة، مطران حمص وحماة ويبرود يوحنا عربش ، المطران الياس شكور، النائب العام لأبرشية بعلبك الكاثوليكية الإرشمندريت يوسف شاهين، رئيس جهاز مخابرات البقاع الشمالي العميد ملحم حدشيتي، قائد فوج اللواء التاسع في الجيش اللبناني العميد الركن سامر منصور، عضو المجلس الأعلى لطائفة الروم الملكيين الكاثوليك طلال مقدسي، منسق بعلبك الهرمل في “التيار الوطني الحر” جان بولس ولفيف من الكهنة وفاعليات البقاع الشمالي.
بداية كلمة ترحيبية لضاهر أكد فيها “محبة الناس ، وتآخي الأديان وطيبة إلانسان، وقد أتيت الى دير سيدة الخدمة الصالحة، لنبشر بالسلام المنشود بالصلاة والدعاء”. وقال: “قيامة المسيح، أمدتنا بطاقة رجاء، ووثبة حياة، أمام المحن والصعاب والاضطهاد التي نعيشها اليوم، في وطننا الحبيب لبنان، وفي العالم العربي. إنها طاقة نور، تتوهج في قلب كل محب: لكنيسته، ولعمله، ورسالته في هذا العالم. إنها طاقة النعمة، التي تملأ حياة آبائنا وأمهاتنا، وأولادنا وشبابنا، وحياة كل فقير ومحتاج. ونحن في المئوية الثالثة للشراكة مع كنيسة روما، نطلب منكم يا صاحب الغبطة، أن تكرس كنيستنا الرومية الملكية للمعزي الروح القدس، كي تكون منارة للصلاة والحوار والتلاقي بين أبناء المسيح، في الكنيسة الجامعة، فتكون الصوت الصارخ في وجه الباطل والظلم، والقهر والحرمان. وكلنا على يقين، يا صاحب الغبطة، بأن الصعوبات والمشقات والصلبان، ولا بد منها في الحياة، لا ولن تثني من عزمكم ومضيكم في العمل والجهاد، بعونه تعالى، وبشفاعة أمنا العذراء مريم، سيدة الخدمة الصالحة”.
أضاف: “نرفع صلاتنا بالشكر والحمد لله، من يفيض نعمه علينا غزيرة، ونتطلع، إلى أن يكون لنا في هذه الأبرشية المحروسة من الله، مطرانا أصيلا، في القريب العاجل، يظهر خادما وراعيا أمينا على قلب الله”.
وختم: “باسمي، وباسم آباء وأبناء الأبرشية، وباسم العمدة الرهبانية وجميع الأخوات الراهبات، وباسم هذا الحفل الكريم، نرحب بكم، ونهنئ أنفسنا بقدومكم، راجيا غبطتكم أن ترفعوا يمينكم الطاهرة، وتباركوني مع إخوتي الكهنة وأخواتي الراهبات وجميع المشتركين معنا في هذا اللقاء العائلي التاريخي، فزيارتكم هذه، بركة وشرف، وعز وفخر لنا، وإنها صفحة ذهبية جديدة، تسجل في تاريخ هذا الدير”.
العبسي
وألقى العبسي كلمة أكد فيها “وحدة الكنيسة”. وقال: “بالصلاة والتأمل والتفكر نتذكر تاريخ استعادة كنيستنا الشركة مع الكرسي الرسولي الروماني في العام 1724، على أن نؤم هذا الدير المبارك الغالي على قلبنا، بصحبة لفيف كريم من الإخوة السادة الأساقفة ومن الأبناء الكهنة والرهبان والراهبات، بعد انتظار طال إنما من دون أن يخفف الشوق أو يضعف التمني. ثم الشكر لكن أيتها الأخوات الفاضلات على الاستقبال البنوي القلبي الصادق الذي صنعتنه لنا مع جميع من عاونكن ويسر لكن وشارككن وأظهر معكن ما في قلوبكن من محبة كبيرة نقية راهنة للكنيسة. هوذا نحن إذن الآن هنا في أرض طيبة مباركة لنقدم لكن أطيب الأماني وصادق المحبة ولنحتفل معكن بالسيد المسيح القائم من بين الأموات في التاريخ الذي تأسستن فيه، في هذا الأحد الثالث بعد القيامة حيث تذكرنا الكنيسة بالمعجزة الكبيرة التي صنعها لمخلع بيت حسدا، لمقعد كان ينتظر الشفاء منذ ثمان وثلاثين سنة من دون فائدة، فشفاه وأوقفه على رجليه وأرسله طليقا إلى بيته”.
أضاف: “لا شك أن مشكلة هذا المخلع الأساسية كانت أنه كان مخلعا. بيد أننا من قراءتنا للحادثة نرى أنه كان لديه مشكلة أكبر هي غياب من يلقيه في البركة. كان في مستطاعه أن يشفى. يكفي لذلك أن ينزل إلى البركة. غير أنه لم يكن بقادر على الحصول على هذا الشفاء لأنه لم يجد أحدا في ثمانية وثلاثين عاما ليلقيه في البركة: “ليس لي أحد”. كان الشفاء قريبا جدا منه. البركة على بعد سنتيمترات. لكن الناس من حوله كانوا على بعد كيلومترات منه. “ليس لي إنسان إذا تحرك الماء يلقيني في البركة”.نتصور ما هي حالة المرء حين يتفوه بمثل هذه العبارة، حين تخرج هذه الصرخة، هذه الحسرة، من صدره. “ليس لي أحد”: يعني أنه ليس معي أحد، ليس إلى جانبي أحد، ليس أحد ينصرني. “ليس لي أحد”: إنها العزلة، آفة العصر التي غالبا ما تولد اليأس القاتل: ليس من يواسيني أو يفرح معي أو يشعر معي أو من يراني وكأنني غير موجود لا اعتبار لي ولا قيمة. كم يدل هذا الواقع على الأنانية البشرية، إذ كل إنسان يسعى إلى مصلحته أولا من غير أن يفكر بغيره. كثيرون من الذين كانوا يرتادون تلك البركة كانوا يشفون غير أنه ما فكر واحد منهم أن يساعد بعد شفائه المخلع لينزل إلى البركة، بل كان ينصرف مكتفيا بأنه نال هو الشفاء، وسواء عنده من بعد أنال غيره الشفاء أم لا”.
وتابع: “نعاني اليوم من بين ما نعانيه أزمة ثقة. أبناؤنا يفقد بعضهم الثقة بنا ولكل سببه أو أسبابه وصاروا لذلك بعيدين عنا. إنجيل اليوم يعلمنا كيف يمكن أن نعيد الثقة إليهم أو بعضا من هذه الثقة وأن لا يبتعدوا بالتالي عنا. أن نكون نحن قريبين منهم، أن نذهب نحن إليهم، أن نبادرهم، كما فعل الرب يسوع مع المخلع: “أتريد أن تشفى؟”. أشياء كثيرة قد تحول دون أن يأتي أبناؤنا إلينا، أن يتقربوا منا، من يسوع، أن يرتاحوا إلينا، وقد تكون هذه الأشياء ليست كلها وجيهة وصحيحة ومقنعة. بالرغم من ذلك علينا نحن نبادرهم أولا وأن نذهب إليهم وأن نكتشف شيئا فشيئا ما الذي يمنعهم من المجيء إلينا. ما نريد، ما يجب أن نقول لهم قبل كل شيء هو أن لهم من يفكر بهم ويريد الخير لهم والسعادة: إنه يسوع ونحن أيضا، نحن تلاميذ يسوع الذين اختارهم ليكونوا على مثاله”.
وقال: “في الآحاد التي تلي أحد القيامة، ومن بينها أحد اليوم الذي نحن فيه، تتلو الكنيسة علينا أناجيل من يوحنا يظهر فيها يسوع آتيا بنفسه إلى الناس المعذبين المتألمين المضايقين اليائسين المخذولين الحائرين الضائعين: إلى المخلع، إلى السامرية، إلى الأعمى من مولده، إلى توما والرسل، إلى تلميذي عماوس… ذلك لكي ترينا الكنيسة أن الذي قام من بين الأموات وصعد إلى السماوات ما زال معنا بالقرب منا يتفقدنا كما وعد: “ها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر”. الرسالة التي تقوم بها راهبات الخدمة الصالحة هي هذه: أن نخفف من وحدة الناس، من شعور الناس بأنهم مهمشون متروكون ليس من يكترث لهم لأنهم ضعفاء وفقراء. بالخدمة التي يخدمن بها يجعلن الناس يشعرون بأن لهم كرامة في عيوننا وفي عين يسوع. هكذا يعدن إليهم الثقة أو يمنحن لهم الثقة فيعود الناس إليهن، إلى يسوع”.
أضاف: “في رسالة اليوم يقول سفر أعمال الرسل إن الصبية ظبية التي أقامها بطرس من بين الأموات “كانت غنية بالأعمال الصالحة”. على مثالها، انطلقت هذه الرهبنة عام 1954 على يد المثلث الرحمة المطران يوسف المعلوف راعي أبرشية بعلبك للروم الملكيين الكاثوليك، للقيام بالأعمال الصالحة فسميت “رهبنة سيدة الخدمة الصالحة”. ومنذ ذلك التاريخ إلى اليوم، على مدى سبعين عاما، انبرت الراهبات بتفان وتواضع وصمت وتعب لخدمة من طلب منهن الخدمة في الإكليريكيات والأديار والمطرانيات والبطريركية والمياتم والمدارس والمشافي، موجهات عنايتهن بنوع خاص للفقراء والمحرومين في لبنان وسورية من دون تمييز في الدين وفي المنشأ. على هذا النحو كانت خدمتهن أعمالا صالحة من تلك الأعمال الصالحة التي طلب السيد المسيح ومن بعده الرسل أن نتحلى بها نحن المسيحيين بنوع خاص: “هكذا فليضئ نوركم قدام الناس ليروا أعمالكم الصالحة. ويمجدوا أباكم الذي في السماوات” (متى 5: 16)، يقول لنا الرب يسوع في الإنجيل، ويضيف بولس قائلا إننا نحن المسيحيين قد “خلقنا في المسيح يسوع للأعمال الصالحة” (أف 2: 10) وإن يسوع قد “بذل نفسه لأجلنا ليفتدينا من كل إثم ويطهر لنفسه شعبا خاصا غيورا على الأعمال الصالحة” (تي 2: 14)، ويردف الرسول بطرس قائلا: “اسلكوا بين الأمم مسلكا حميدا، حتى إنهم فيما يفترون عليكم كأنكم أشرار، يلاحظون أعمالكم الصالحة فيمجدون الله في يوم الافتقاد” (1بط 2: 12).
وتابع: “أجل ما يميز بناتنا وأخواتنا الفاضلات اللواتي نحتفل معهن بهذا العيد المقدس هو أن خدمتهن هي صالحة، مستقاة من السيد المسيح الراعي الصالح والمعلم الصالح الذي علمنا كيف تكون الخدمة صالحة. في العالم خدمات كثيرة ومتنوعة وأناس كثيرون يعملون في هذه الخدمات. خدمات تقوم على تتميم الواجب، وفي أفضل الحالات على القيام بالعمل المطلوب خير قيام. غير أن الخدمة الصالحة التي وضع الرب يسوع أساسها مختلفة. إنها خدمة المحبة التي لا ترتبط بوظيفة أو بواجب بل تنبع رأسا من القلب وتأتي من الكبير إلى الصغير، من القوي إلى الضعيف، من الكامل إلى الناقص، من المكتفي إلى المحتاج. هذه هي الخدمة الصالحة التي تخدم بها راهبات هذا الدير المقدس منذ سبعين عاما، خدمة مخالفة للخدمة المعهودة في العالم من مرؤوس إلى رئيس، من ضعيف إلى قوي، من محتاج إلى غني، خدمة أوضحها المعلم الصالح بقوله: “لم يأت ابن الإنسان ليخدم بل ليخدم” (متى 20: 28)، “وإذا كنت أنا الرب والمعلم قد غسلت أقدامكم كان عليكم أنتم أيضا أن تغسلوا بعضكم أقدام بعض[…] ليس العبد أعظم من سيده […] فإذا علمتم ذلك فطوبى لكم إذا عملتم به” (يوحنا 13: 14-17). وإلا يقول لنا السيد “فأي أجر لكم؟ أليس العشارون أنفسهم يفعلون ذلك؟ أليس الوثنيون أنفسهم يفعلون ذلك؟” (متى 5: 46-48). الخدمة الصالحة، خدمة المحبة، أجل، “فالإنسان الصالح من كنز قلبه الصالح يخرج الصالحات” (متى 6: 45)، يقول يسوع الراعي الصالح”.
وختم: “بهذه الغاية، بهذه الرؤية، بهذه الفضيلة، أراد المؤسس أن تتميز الرهبنة الذي كان مزمعا أن يطلقها. ولكي تكون هذه الميزة مترسخة وحاضرة دوما في أذهان الراهبات لم يبن لهن الدير في مدينة أو بلدة أو حتى قرية، أو بالقرب منه أو من رعيته بل في مكان منعزل فقير يكاد يشبه المزرعة، كل شيء فيه وكل حي في حاجة إلى خدمة، إلى محبة، إلى حنان، فيه خصوصا أناس طيبون استطاعت الراهبات أن ينشئن معهم علاقات صافية نقية من الود والصداقة والأخلاق الدمثة والتعاون البناء، وأن يتقاسمن معهم ما في السراء وما في الضراء، فكن وكانوا مثالا في كيف يعيش المرء منفتحا متقبلا مفتخرا فرحا بمن يريه وجها آخر من الأشياء والحياة، وكن نموذجا حيا رائعا من نماذج كنيستنا الرومية الملكية الكاثوليكية التي لا تعرف الانكماش والفئوية والاستئثار والتقوقع وما إلى ذلك”.