الورشا في قداس لراحة نفس سليمان في روما: نحن أمام مشهد مأسوي وآمل ان يكون سبيلا للخروج من النفق المظلم

ترأس المعتمد البطريركي لدى الكرسي الرسولي في روما المطران يوحنا رفيق الورشا، قداسا في كنيسة مار مارون في المعهد الحبري – روما لراحة نفس باسكال سليمان، عاونه فيه كاهن الرعية الخوري جوزف صفير والخوري فريد مرهج، حضره سفير لبنان لدى الفاتيكان فريد الخازن، رفاق الشهيد، وممثلون عن الاحزاب السيادية ووكلاء الرهبانيات المارونية اللبنانية في روما.
بعد الانجيل ألقى عظة قال فيها: “في أجواء زمن القيامة، فيما العيون شاخصة إلى يسوع المائت-القائم، الذي هزم الموت بالموت، وانتصر على الشرّ والخطيئة، تنكّسُ سماءَ لبنان ومنطقة جبيل فاجعةُ خطف شاب من عقر داره وقتله بشكل شنيع هو الشهيد باسكال سليمان. وقد كان رفيع الأخلاق، ويتحلّى بالنزاهة والعلم والإيمان. إنّها صفحةٌ سوداء جديدة تُضافُ على صفحات تاريخ لبنان الظلماء. ترك بيته الذي أحبّه ولم يعد. عاد إلى بيت الآب في الملكوت حيث يعاين وجه العريس السماوي، وهو العريس الأرضي فيما كان لا يزال في عزّ عطاءاته إن في العائلة أم في المنطقة أم في حزب القوات اللبنانية أم في الوطن”.
أضاف: “نحن اليوم أمام لوحة قياميّة رائعة رسمها لنا لوقا الإنجيلي، تحتوي على الكثير من المعاني اللاهوتية والروحية والليتورجية. وهي تبعث فينا الرجاء والقوّة في ما ينتابنا الخوف والقلق والإحباط. نجدنا اليوم أمام تلميذَي عمّاوس اللّذين بعد أن علّقا كلّ آمالهما على يسوع المخلّص أُحبطا وعادا إلى معترك حياتهما اليومية المتنوّعة في الاختبارات، والموزّعة بين الفشل والنجاح، بين اليأس وخيبة الأمل، بين الصعود والنزول.
فمعكم أتأمّل في ثلاث مراحل من تلك المسيرة التي سارها التلميذان بعد الخيبة التي أصابتهما من جرّاء موت يسوع الناصري.
المرحلة الأولى من تلك المسيرة: وَكانَا يَتَحَادَثَانِ بِكُلِّ تِلْكَ الأُمُورِ الَّتِي حَدَثَتْ….. فَوَقَفَا عَابِسَين. “وكانا يتحادثان”… بكلّ تلك الأمور. ما عساها ان تكون “تلك الأمور”؟ أراهما يقولان في ما بينهما: كيف نقبل أنّ المخلّص يسوع الذي حوّل الماء خمرًا في عرس قانا، وطهّر الأبرص عند طلوع الفجر، وشفى المخلّع وجعله يحمل سريره ويمشي معافى جسديًّا وروحيًّا، يتوارى ويختفي؟ كيف صُلب المعلّم الذي نادى بالملكوت وبشّر به وألقى عظة الجبل، شريعة العهد الجديد، وتنتهي مسيرته مع الصليب والصالبين؟ كيف مات مَن أعطى الحياة؟ وهو مَن اقام لعازر من القبر، وابنة يائين؟ كيف سُفك دمُ مَن أعطى الدم وأعاده لتلك المنزوفة التي كانت تنزف، وما إن لمست رداءه برئت؟ كلّ هذه القصة الجميلة تبدو وكأنّها حلم انتهى على الصليب… فوقفا عابسَين: كم كانت حالتُهما حزينة إثرَ هذا الحدث المؤلم. حتى الطبيعة الجغرافية من أورشليم نحو عمّاوس، عدا عن أنّها طويلة، فهي منحدرة ومتناغمة مع حالة هذين التلميذين. بعد قمة أورشليم والصعود إليها، نزول وانحدار وخيبة أمل. نعم لقد غاب عن الأنظار مَن رأيناه وتعوّدنا على العيش بمعيّته ورافقناه؟.
المرحلة الثاني: «يَا عَدِيمَيِ الفَهْم، وَبَطيئَيِ القَلْبِ في الإِيْمَانِ بِكُلِّ مَا تَكَلَّمَ بِهِ الأَنْبِيَاء! أَمَا كَانَ يَجِبُ عَلَى المَسِيحِ أَنْ يُعَانِيَ تِلْكَ الآلام، ثُمَّ يَدْخُلَ في مَجْدِهِ؟».
ويتابع يسوعُ السير معهما في الطريق، آخذًا المبادرة كعادته، ليُنقذ الإنسان من حالة الضياع او من أيّة حالة سيئة يتخبّط فيها. وهذه فكرة سائدة في إنجيل لوقا: يسوع الرحوم يبحث عن الإنسان التائه، الضائع، ويبادر لإنقاذه وخلاصه. ها هو في آخر إنجيل لوقا 24 يعرف ما يمرّ به تلميذا عمّاوس من حزن وضياع ويأس، فيدخل إلى حياتهما! يفهم معاناتهما وآلامهما، متماهيًا مع الغريب، يرافقهما ويحاورهما ويحدّثهما ويذهب بهما إلى حيث يريدُ هو، لقد اقام معهما الذبيحة الإلهية فشرح لهما الكتب وهو القسم الأول من القداس، وظهر الكاهن المعلّم والواعظ كلمة الله مستشهدًا بالعهد القديم. فالكلمة الإلهية تجعلنا نلتقي المسيح. مَن يجهل كلمة الله يجهل المسيح على حدّ قول القديس جيروم. ثمّ كسر معهما الخبز، وهذا القسم الثاني من القداس، تلك النعمة الخلاصية، ذروة حبّ الله للبشرية المفتداة، والتي ذكّرتهما بالعشاء الأخير فعرفاه. فيا ليتنا، نحن العائشين في هذا الوادي وادي الدموع نعرفه ونختبره فنقيم معه ونلتقيه دائمًا من خلال الكتب المقدّسة وقداس الأحد، يوم الرب.
المرحلة الثالثة: «أُمْكُثْ مَعَنَا، فَقَدْ حَانَ المَسَاء، وَمَالَ النَهَار».
وها هي المرحلة الثالثة، تحاكينا اليوم، نحن المصدومين كتلميذَي عمّاوس باستشهاد الشهيد باسكال. تعالوا جميعُنا مع التلميذَين نصرخُ إلى يسوع قائلين: أُمكث معنا فقد مال النهار”.
وقال: “عندما شاهدتُ عبر وسائل التواصل الاجتماعي ما حدث والغيمة السوداء التي حلّت مع اختفاء باسكال، رأيتها شبيهةً بحالة التلميذين. تأثّرت جدًّا عندما نُقل جثمانه في ساعات المساء الأخيرة إلى ميفوق، فبادرَت إلى ذهني تلك الآيةُ الحزينة: “لقد حان المساء ومال النهار”. ما تحدّث به التلميذان وهما في حالة ارتباك وحيرة وحزن شبيهٌ بحالة كلّ مواطن لبناني. جميعُنا نعيش “حان المساء ومال النهار”. في المساء ظلام وعتمة وخوف. في المساء تضيع الحقيقة كما يقول القديس بولس الرسول: ابناء الليل وأبناء النهار. أبناء الظلمة وأبناء النور. غابت شمس النهار وحلّ الليل”.
وأضاف: “إنّ ما سأقوله لا يندرج في الكلام السياسي بل في ضوء رجائنا المسيحي، نحن القياميّين. سمعنا الكثير في أثناء خطف باسكال تعليقات وتحليلات وتأويلات مختلفة: بدءًا من مَن هو وراء هذه الجريمة النكراء، وما الغاية منها؟ ما هي اسبابها؟ مَن المستفيد منها؟ كما ونبتت مقاربات شتّى: كيف تمّت الجريمة؟ كيف تمّ القتل وأين؟ أين العدالة؟ وأين الحقيقة؟ فهل ستُلفّق وتُخنَق كسابقاتها من الجرائم؟
انّ الاجابة على تلك الاسئلة ليست من اختصاصي ولا من كفاءاتي بل هي مسؤولية الأجهزة الامنية والقضائية والسياسية. قد ننقاد الى قراءات متنوّعة للحدث ما يجعلنا ننسى ما يجب ان نعمل للخروج من ازمات لبنان المزمنة والكثيرة والمتراكمة التي جرّتنا إلى ما نحن عليه اليوم. انّ الحقيقة واحدة وهي انّنا امام مشهد مأساوي دراماتيكي، ويجب الا يكون كسائر الاحداث، بل سبيلٌ الى الخروج من النفق المظلم منذ تسعٍ وأربعين سنة.
أُمكثْ معنا يا ربّ وقد مال النهار: أيها الربُّ يسوع! يا مَن رافقت تلميذَي عمّاوس وانتشلتَهما من واقعهماومستنقعهما! تعالَ ورافقنا على طريق الجلجلة التي نعيش في لبنان. أُمكثْ معنا فنسمعك تقول لنا كما قلت في كلّ ظهورات قيامتك: السلام معكم لا تخافوا. أَرسل أنوار قيامتك إلى جميع المسؤولين عن مصير البلاد: أنرْ عقولهم ليعوا خطورة ما نمرّ به، وأَيقظ ضمائرَهم ليميّزوا الخير من الشّر ويصغوا إلى صوتِك مستنيرين بهديك! ليِّن قلوبهم ليشعروا بجروحات مَن ائتُمنوا على خيرهم وصون كرامتهم. نصرخُ مع التلميذَين من قلوب دامية، وبرجاء وطيد مصلّين: أُمكث معنا، فقد حانَ المساء ومالَ النهار”.
وختم الورشا: “باسمي وباسم إخوتي الوكلاء والكهنة أتقدّم بأحرّ التعازي القلبية من زوجته وعائلته، من والدته الثّكلى وأنسبائه، من رئيس وأعضاء الهيئة التنفيذية في حزب القوات اللبنانية، وبنوع خاصّ من القوات اللبنانية في إيطاليا الذين دعوا إلى هذا القداس لراحة نفس المرحوم باسكال. كما وأتقدّم بالتعزية لكل مواطن لبناني بهذا المُصاب الأليم. وبرجاء القيامة نسأل المسيح القائم من الأموات أن يجعل نصيب الشهيد باسكال مع الشهداء الأبرار في الملكوت، وأن يكون دمُه طريقًا إلى قيامة لبنان واللبنانيين”.