“لنقبل الدعوة التي يوجهها يسوع للعالم من أعلى صليبه: ” تعالوا إليّ جميعًا أيها المرهقون المثقلون، وأنا أريحكم” هذا ما قاله واعظ القصر الرسولي الكاردينال رانييرو كانتالاميسا في عظته في رتبة سجدة الصليب.
ترأس قداسة البابا فرنسيس عند الساعة الخامسة من مساء الجمعة رتبة سجدة الصليب في بازيليك القديس بطرس بالفاتيكان لمناسبة الجمعة العظيمة، وتخللت الرتبة عظة ألقاها الكاردينال رانييرو كانتالاميسا واعظ القصر الرسولي وقد استهلها بالقول “متى رفعتم ابن الإنسان عرفتم أني أنا هو”. إنها الكلمات التي قالها يسوع في نهاية جدال ساخن مع خصومه. هناك تصاعد مقارنة بكلمات “أنا هو” السابقة التي قالها يسوع في إنجيل يوحنا. فهو لم يقُل: “أنا هذا أو ذاك: خبز الحياة، نور العالم، القيامة والحياة… بل قال ببساطة “أنا هو”، بدون تحديد. وهذا يعطي إعلانه بُعدًا مُطلقًا. يذكر عمدا بكلمات سفر الخروج ٣، ١٤ وسفر أشعيا ٤٣، ١٠-١٢ حيث يعلن الله نفسه “أنا هو”.
تابع الكاردينال رانييرو كانتالاميسا يقول إن الحداثة غير المسبوقة لكلمة المسيح هذه لا يمكن اكتشافها إلا إذا انتبهنا إلى ما يسبق إعلان المسيح هذا: “متى رفعتم ابن الإنسان عرفتم أني أنا هو”. وكأنه يقول: ما أنا عليه، وبالتالي ما هو الله، لن يُعرف إلا من خلال الصليب. لأنَّ عبارة “رُفع” في إنجيل يوحنا تشير، كما نعلم، إلى حدث الصليب! نحن أمام انقلاب كليّ لفكرة الإنسان عن الله، وجزئيًا أيضًا لفكرة العهد القديم. إنَّ يسوع لم يأت لكي ينقح فكرة البشر عن الله ويكملها، بل جاء ليقلبها ويكشف وجه الله الحقيقي. وهذا ما كان الرسول بولس أول من فهمه عندما كتب: “فلَمَّا كانَ العالَمُ بِحِكمَتِه لم يَعرِفِ اللّه في حِكمَةِ اللّه، حَسُنَ لَدى اللّه أَن يُخَلِّصَ ألمُؤمِنينَ بِحَماقةِ التَّبشير؟ ولَمَّا كانَ اليَهودُ يَطُلبونَ الآيات، واليونانِيُّونَ يَبحَثونَ عنِ الحِكمَة، فإِنَّنا نُبَشِّرُ بِمَسيحٍ مَصْلوب، عِثارٍ لِليَهود وحَماقةٍ لِلوَثنِيِّين، وأَمَّا لِلمَدعُوِّين، يَهودًا كانوا أَم يونانِيِّين، فهُو مسيح، قُدرَةُ اللّه وحِكمَةُ اللّه”.
أضاف واعظ القصر الرسولي يقول وفي ضوء ذلك، تكتسب كلمة المسيح بُعدًا عالميًّا يسائل الذين يقرؤونها، في أي عصر وموقف، بما في ذلك عصرنا. إنَّ هذا الانقلاب لفكرة الله في الواقع، هو أمر يجب أن نقوم به على الدوام. لسوء الحظ، نحن جميعًا نحمل في داخلنا وفي لاوعينا فكرة الله التي جاء يسوع ليغيرها. يمكننا أن نتحدث عن إله واحد، وروح طاهر، وكائن أسمى، وما إلى ذلك. ولكن كيف يمكننا أن نراه في اندثار موته على الصليب؟ الله كلي القدرة بالطبع؛ ولكن أي قدرة؟ إزاء المخلوقات البشرية، يجد الله نفسه بدون أي قدرة، ليس فقط قسرية، بل دفاعية أيضًا. ولا يستطيع أن يتدخل بالسلطة لكي يفرض نفسه عليهم. ولا يمكنه أن يفعل أي شيء سوى أن يحترم بمقدار لامتناهي الخيار الحر للإنسان. وهكذا يكشف الآب الوجه الحقيقي لقدرته في ابنه الذي ينحني أمام التلاميذ لكي يغسل أقدامهم؛ فيه، هو الذي، بعد أن وصل إلى العجز الجذري على الصليب، يستمر في المحبة والمغفرة، بدون أن يدين أبدًا.
تابع الكاردينال رانييرو كانتالاميسا يقول إن قدرة الله المطلقة الحقيقية هي العجز التام للجلجلة. لا يتطلب الأمر سوى القليل من القوة لكي نتباهى؛ ولكن يتطلب الأمر الكثير من القوة لكي نتنحى جانبًا وننمحي. والله هو هذه القوة غير المحدودة لإخفاء الذات! لقد تجرد من ذاته. وعارض “إرادتنا في السلطة” بعجزه الطوعي. يا له من درس لنا نحن الذين، بوعينا نوعًا ما، نريد دائمًا أن نتباهى! يا له من درس لاسيما لأقوياء الأرض! للذين من بينهم لا يفكرون ولو حتى عن بعد في الخدمة، وإنما فقط في السلطة من أجل السلطة؛ هؤلاء، كما يقول يسوع في الإنجيل، هم الذين “يسودون الأمم” و” يريدون أن يُدعوا محسنين”.
أضاف واعظ القصر الرسولي يقول ولكن ألا يقلب انتصار المسيح في قيامته هذه الرؤية، ويؤكد مجدّدًا قدرة الله التي لا تقهر؟ نعم، ولكن بمعنى مختلف تمامًا عما نعتقده عادة. يختلف تمامًا عن “الانتصارات” التي كان يتم الاحتفال بها لدى عودة الإمبراطور من الحملات المنتصرة. لقد كان هناك، بالطبع، انتصار في حالة المسيح، انتصار نهائي لا رجعة فيه! ولكن كيف يتجلى هذا الانتصار؟ لقد تمّت القيامة في السر، بدون شهود. فيما شهد موته – الذي سمعناه في رواية الآلام – حشدًا كبيرًا وشاركت فيه أعلى السلطات الدينية والسياسية. بعد قيامته، ظهر يسوع فقط لعدد قليل من التلاميذ، بعيدًا عن الأضواء. وبهذا أراد أن يقول لنا أنه أن نكون قد تألّمنا، لا يجب أن نتوقع انتصارًا خارجيًا مرئيًا، مثل المجد الأرضي، لأنَّ الإنتصار يُعطى في اللامرئي وهو ذو ترتيب أسمى بلا حدود لأنه أبدي! وشهداء الأمس واليوم هم الدليل على ذلك.
تابع الكاردينال رانييرو كانتالاميسا يقول يظهر القائم من بين الأموات من خلال ظهوراته، بطريقة كافية لكي يوفِّر أساسًا ثابتًا للإيمان للذين لا يرفضون الإيمان مسبقًا؛ ولكنها ليست مباراة العودة التي تهين خصومه. فهو لا يظهر بينهم لكي يظهر خطأهم ويسخر من غضبهم العاجز. إن كلَّ انتقام لا يتوافق مع المحبة التي أراد المسيح أن يشهد بها للبشر بآلامه. وهو يتصرف بتواضع في مجد القيامة كما في إندثار الجلجلة. إن اهتمام يسوع القائم من بين الأموات ليس إرباك أعدائه، وإنما أن يذهب فورًا ويطمئن تلاميذه الضالين، وقبلهم النساء اللاتي لم يتوقفن أبدًا عن الإيمان به.
أضاف واعظ القصر الرسولي يقول في الماضي كان يتمُّ التحدث كثيرًا عن “انتصار الكنيسة المقدسة”. وكانت ترفع الصلوات من أجل ذلك وكان يتمُّ التذكير بتلك اللحظات وأسبابها التاريخية. ولكن ما هو نوع الانتصار الذي كان يدور في الأذهان في ذلك الوقت؟ أما اليوم فنحن نعرف مدى اختلاف هذا النوع من الانتصار عن انتصار يسوع. لكن دعونا لا نحكم على الماضي. هناك دائمًا خطر ألا نكون عادلين عندما نحكم على الماضي بذهنيّة الحاضر. ولكن لنقبل الدعوة التي يوجهها يسوع للعالم من أعلى صليبه: ” تعالوا إليّ جميعًا أيها المرهقون المثقلون، وأنا أريحكم”. قد نُفكّر في إلى الأمر تقريبًا على أنه سخرية، واستهزاء! الشخص الذي ليس لديه حجر ليضع عليه رأسه، الشخص الذي رفضه خاصته، المحكوم عليه بالموت، الشخص “الذي يُستر الوجه عنه”، يخاطب البشرية جمعاء، في كل مكان وفي كل زمان، ويقول: “تعالوا إليَّ جميعًا وأنا أريحكم!”. تعال أيها المسن والمريض والوحيد، أنت الذي يتركك العالم لكي تموت في الفقر أو في الجوع أو تحت القنابل؛ أنت الذي من أجل إيمانك بي، أو كفاحك من أجل الحرية، تقبع في زنزانة السجن؛ تعالي أنت أيتها المرأة، ضحية العنف. باختصار، الجميع، بدون استثناء أحد: “تعالوا إليَّ جميعًا وأنا أريحكم!” ألم أقطع لكم وعدًا رسميًا: “وأنا إذا رفعت من الأرض جذبت إليَّ الناس أجمعين”؟ ولكن أي راحة يمكنك أن تقدمها لنا يا رجل الصليب، أنت الأكثر إرهاقًا وتعبا من الذين تريد أن تعزيهم؟ “تعالوا إلي، لأني أنا هو! أنا الله! لقد تخليت عن فكرتكم عن القدرة المطلقة، لكنني أبقيت على قدرتي المطلقة، وهي القدرة المطلقة للحب. وقد ورد في الكتاب: “إنَّ الضُّعْفَ مِنَ اللّه أَوفَرُ قُوَّةً مِنَ النَّاس”. أنا بإمكاني أن أُريحكم، حتى بدون أن أزيل التعب من هذا العالم. اسألوا من قد اختبر ذلك!
وختم الكاردينال رانييرو كانتالاميسا عظته بالقول نعم أيها الرب المصلوب، بقلوبنا المليئة بالشكر، في اليوم الذي نتذكر فيه آلامك وموتك، نعلن مع رسولك بولس بكل أصواتنا: “فمَن يَفصِلُنا عن مَحبَّةِ المسيح؟ أَشِدَّةٌ أَم ضِيقٌ أَمِ اضْطِهادٌ أَم جُوعٌ أَم عُرْيٌ أَم خَطَرٌ أَم سَيْف؟… وإِنِّي واثِقٌ بِأَنَّه لا مَوتٌ ولا حَياة، ولا مَلائِكَةٌ ولا أَصحابُ رِئاسة، ولا حاضِرٌ ولا مُستَقبَل، ولا قُوَّاتٌ، ولا عُلُوٌّ ولا عُمْق، ولا خَليقَةٌ أُخْرى، بِوُسعِها أَن تَفصِلَنا عن مَحبَّةِ اللهِ الَّتي في المَسيحِ يَسوعَ رَبِّنا”.