روجيه عفيف
في 30 آذار 2023، تمّ الإعلان من روما عن قبول الأعجوبة التي تمّت بشفاعة المكرّم البطريرك إسطفانوس الدويهي (1630-1704)، وهي خطوة أساسيّة في مسار دعوى التطويب، قبل الإعلان النهائي عنها، ومن ثمّ التحضير لموعد تعيين موعد تطويب البطريرك إسطفانوس الدويهي.
وفي 19 تشرين الأول 2023، تمّت موافقة المجمع اللاهوتي على تثبيت الأعجوبة المقدّمة بشفاعة المكرّم البطريرك إسطفان الدويهي، وقد أعلن الخبر-البشرى طالب دعاوى القديسين الأب بولس القزي من روما عاصمة الكثلكة في العالم! وبعده سيُعرَض الملف على مجمع الكرادلة والأساقفة في روما لدراسته والتصويت عليه، في 6 شباط 2024، ثم يعرض على مجمع القديسين وقداسة البابا فرنسيس، ليعلن القبول، وتعيين موعد التطويب، وهذا حسب ما أعلنه طالب دعوى التطويب.
فعشيّة هذا الحدث البارز والهام، وعشيّة عيد مار مارون الناسك شفيع الكنيسة المارونية، ننتظر بفارغ الصبر، وشوق كبير، موعد إعلان تطويب العلاّمة الكبير البطريرك اسطفانوس الدويهي، الذي حفظ تاريخ الكنيسة المارونية وطقوسها، ودرس أصولها وتراثها، ونشر أبهى المؤلّفات عنها وأعمقها، فنضيء على بعض من سيرته العطرة ومسيرته المباركة في العطاء والعمل والقداسة وأهمية هذا الحدث الكبير.
1-السيرة العطرة بالقداسة: إبن إهدن البار (1630)، وخرّيج المدرسة المارونية في روما (1655)، والكاهن الفاضل (1656)، وزائر مدينة حلب (1657 و1663) والقدس (1668)، ومطران قبرس (1668)، وبطريرك الموارنة (1670)، حتى وفاته برائحة القداسة سنة 1704، حيث دفن في مغارة القديسة مارينا الى جانب أسلافه البطاركة في الوادي المقدس قرب دير سيدة قنّوبين مقرّ البطريركية المارونية، بعد حياة جهاد وعطاء وعناء.
ملأ حياته بالنشاط والعمل، فلم يتوانَ عن خدمة شعبه وكنيسته، البشر والحجر، وحرص كل الحرص على صون التراث من الضياع، فجال القرى والضيع المارونية، وحيثما حل، باحثًا ومنقّبا عن كل وثيقة، فكان بذلك رائدًا في المؤرّخين والباحثين للتاريخ اللبناني والماروني وحتى الإسلامي والعربي والشرقي والمسيحي العام!
البطريرك إسطفان الدويهي قمّة في القداسة والفضيلة، ومحطّة أساسيّة لنا، ومصدر دائم وملهِم ومثال وقدوة، في سيرته ومؤلّفاته النفيسة الرائعة، سواء في المجال الطقسي، لا سيّما في كتابه الضخم “منارة الأقداس”، وكتابه التأريخي “تاريخ الأزمنة”، وغيرها من عشرات الكتب، منها ما نشر، ومنها لم ينشر بعد، ومنها قد ضاع للأسف!
تعدّدت مواهبه، فعلّم وكتب في اللاهوت والليتورجيّا والتاريخ والموسيقى المقدسة والإصلاح الطقسي والرعوي والكنسي، فضلاً عن الشؤون الرعوية وتلبية الحاجات الملحّة، من دون كلل أو ملل.
2-المسيرة الملأى بالإنجازات رغم الضيقات والأزمات: رائد في التأليف والتأريخ والاصلاح الطقسي، والبناء والتدشين لعدة كنائس ومقامات ومقرّات مارونية، رجل العمران والبنيان، ورائد تأسيس الرهبنات المارونية الثلاثة: البلدية (اللبنانية)، والحلبية (المريمية فيما بعد)، والأنطونية.
كان مثالاً في الكهنوت والأسقفيّة والبطريركيّة. تفانى في حُب رعيّته وكنيسته وشعبه ووطنه، وفي احترام كل مكوّنات بلاده. عاش في مرحلة مزدهرة من تاريخ لبنان إبّان الإمارة المعنيّة، رغم المآسي والاضطهادات التي مرّت عليه وعلى شعبه الصغير، وبفضل فضائله ووعيه وغيرته وحكمته ومواهبه ومعارفه، نسج العلاقات الجيّدة مع النسيج اللبناني المميّز، فاستطاع الموارنة في عهده المبارك، التوسّع والانتشار في جبل لبنان، من الشمال، فالجبل، حتى الجنوب اللبناني!
جمع في شخصه وشخصيّته كل الفضائل الحميدة والمزايا الرفيعة، وملأ حياته كلها عملاً وصلاة من أجل الخدمة والتدبير والشهادة للحق، والتعليم والتقديس، الموعظة والتأليف، فحضن شعبه كمعلّمه يسوع والأم العذراء مريم!
سهلٌ علينا جدًا اليوم أن نقرأ سيرة البطريرك إسطفان الدويهي المتلألئة بالقداسة والإنجازات! لكنّنا نحتاج أن نتعلّم من هذه السيرة، أكثر من أي وقت مضى، لنغرف منها كنوز الحياة الروحية والوطنية الأصيلة، بدءًا من خدمته الكهنوتية والاسقفيّة والبطريركيّة التي طبعت التاريخ اللبناني عامة، والماروني خاصة، جهدًا وعملاً مباركًا والمآثر الخالدة التي لا تزال حاضرة وحيّة الى يومنا هذا.
3-تطويب البطريرك إسطفان الدويهي علامة أزمنة: في أجواء عيد مار مارون، ووسط هذه الأيام الحالكة، يشّع علينا الطوباوي الجديد البطريرك الدويهي، ليؤكّد لنا هوية الكنيسة المارونية الأصيلة، وتجذّرها في لبنان، وإيمان شعبها ووفائه وصموده عبر الزمن، رغم كل الإضطهادات والضيقات والتعدّيات!
ها هو لبنان يمرّ اليوم بأسوأ مرحلة من تاريخه، على الصعد كافة! لكن أيضًا، ها هو وجه البطريرك الكبير مار إسطفانوس الدويهي، يُشرق علينا نورًا وبهاءًا ومجدًا للبنان كي يُنهض شعبه ويتجدّد بالحرّية والسلام والعمل الصادق والشريف.
تطويب البطريرك الدويهي يؤكّد لنا صلابة الشعب الماروني، وكنيسته، وبطريركيته، في وجه كل الأعاصير والمحن، ليكون لنا خير شفيع، لتخطّي كل هذه الصعاب والوصول الى الميناء الأمين!
تطويب البطريرك الدويهي، عودة مباركة وصافية الى الأرض والتراث والتاريخ العريق، المضمّخ بالقداسة والجهد والعطاء والتضحية! وعودة الى الناسك مار مارون، والبطريرك يوحنا مارون، والى الآباء القديسين والرهبان العابدين والنساك الزاهدين الذين خدموا الشعب والكنيسة، وصانوا الإيمان ولبنان!
تطويب البطريرك الدويهي علامة مشعّة لنا، تنبّهنا على ضرورة العودة الى التراث الأصيل، بعيدًا عن ضوضاء العالم وصخبه وترّهاته وسخافاته وأطماعه، للّحاق بدرب الأبطال، في الزهد والتخلّي والسموّ والبركات والعمل الحق، في مساحة حرية وقيم وأخلاق!
تطويب البطريرك العلاّمة إسطفانوس الدويهي، نفحة رجاء، وجرعة صمود، وبارقة أمل لغد أفضل في لبنان، وبدء مسار جديد مغاير لهذا الواقع المأزوم! نعم، تطويبه علامة أزمنة لنهوض لبنان وقيامته، وازدهاره! علّنا نتلقّف هذا الحدث-العلامة، ونطبّقه في عيش الرسالة والدور، ونعمل جاهدين بشفاعته وهديه، في مسار الإنقاذ والإصلاح!
نحن أمام بطريرك عظيم وحدث عظيم بإعلانه طوباويًا ينبغي لنا التخشّع والإعتبار وعدم اليأس والخوف والقنوط! فالبطريرك الدويهي هو حاجة ملحّة لنا، ومثال نقتدي به، وشفيع عظيم للكنيسة ولبنان، وقوّة نقوى بها لمواجهة التحدّيات والأزمات والضيقات!
فلننفض كل الغبار الذي غطّى لآلىء تراثنا وكنوزنا التي تسلّمناها من آبائنا القديسين، ولننتفض عبر القيم والصفات التي عاشها البطريرك الدويهي لكل عمل جدّي وصالح، وليكن لنا البطريرك الدويهي خير مثال وشفيع لنا في هذا الوقت العصيب الذي نمرّ به، يرافقنا في هذه المرحلة الصعبة، وكل المراحل الآتية.
فلنتجذّر ولنصمد في أرضنا ووطننا، ونصونه من أي إهمال أو اعتداء، ولنجعل أرضنا جنّة غنّاء! فلبنان بحاجة إلى سواعد الآباء والأبناء والأحفاد، للعمل والجهد، حفظّا وحرصًا على أرض القداسة التي حضنت رفات القديسين الذين عاشوا عليها بملء الطهر والعطاء، ليبقى لبنان أرض الحرية والإشعاع والإبداع!
-في الختام، “الكثير المطلوب” منّا نحن الموارنة: في هذا الظرف العصيب، وأمام هذا الحدث المهيب، والنعمة الكبرى، بإعلان تطويب البطريرك الدويهي. كم نحن محظوظون بأنّنا سنشهد حدث هذا التطويب، وأن نكون من أبناء هذه الكنيسة العريقة الممتزجة بتراث القديسين والتاريخ المشرّف!
علينا اكتشاف البطريرك الدويهي والتعمّق بسيرته والتعلّم من مسيرته المباركة وإنجازاته الخالدة وفضائله الكثيرة!
علينا أن نتخلّى عن كل هذا التراخي والإهمال والاستسهال والخوف، تجاه حقيقة وجودنا في لبنان والشرق، فنقوم بالجهد المطلوب والعمل الحثيث لإنهاض الهمم وبثّ روح الإيمان الحقيقي على مثال مار مارون والبطريرك الدويهي!
علينا أن نغتني من سيرة البطريرك الدويهي وإرثه وعلومه ومؤلّفاته، ونتمثّل بفضائله ونشاطه، ونصون ما تركه لنا من إنجازات، وهكذا نأخذ القوة والنور لنتابع مسيرة النضال والجهاد في لبنان أرض البطريرك الدويهي التي عاش عليها، وحضن شعبه، ومات فوق أرضه، ودُفن في ترابه المبارك في وادي القدّيسين جنب أسلافه الصالحين!
كان البطريرك الدويهي قولاً وفعلاً، رجل الإيمان، والأب الحنون الذي بذل نفسه –كما معلّمه المسيح- من أجل شعبه، فعاش في منتهى الفقر والتواضع والبساطة والتخلّي، في حياة ملأى بالبذل والعطاء. لم يبغِ شيئًا لنفسه، بل سخّر علومه وطاقاته ومواهبه في سبيل كل خير، وكرّس حياته لخدمة شعبه أينما حلّ! تحمّل المشقّات والصعاب، وصمد أمام الازمات والضيقات، وتلألأ بالقداسة والمبرّات، وجال بين القرى والدساكر، حاملاً الهموم ومتحمّلاً الأتعاب والمسؤوليّات، عاملاً مجاهدًا في خدمة ربّه وشعبه، بملء المحبة والإيمان والرجاء والوفاء والنقاء!
(دراسات معمّقة في التاريخ من الجامعة اللبنانية (2012)، أصدر كتابه الأول بعنوان:”الأعياد المريمية الثلاثة: سيّدة الزروع والحصاد والكرمة، دراسة تاريخية-ليتورجية” (بيروت 2019)، كاتب وباحث).