عودة دعا إلى عدم ربط مصير بلدنا بأي قضية مهما كانت محقة: هل مات أحد من أجلنا عندما كنا في الأزمات والحروب وتحت نيران العدو وغير العدو؟

ترأس متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الارثوذكس المطران الياس عودة، خدمة القداس في كاتدرائية القديس جاورجيوس، بحضور حشد من المؤمنين.
بعد الإنجيل ألقى عظة قال فيها: “أحبائي، نسمع في إنجيل اليوم عن حادثة شفاء البرص العشرة، الذين التجأوا إلى الرب يسوع ليشفيهم، إلا أن واحدا منهم فقط رجع، بعدما برئ، لكي يشكر الشافي. نقرأ في سفر اللاويين أن المصاب بالبرص «تكون ثيابه مشقوقة، ورأسه يكون مكشوفا، ويغطي شاربيه، وينادي: نجس، نجس… يقيم وحده. خارج المحلة يكون مقامه» (الإصحاح 13). لذا، نرى البرص العشرة في إنجيل اليوم ينتظرون الرب عند تخوم القرية التي كان يقصدها، ولما رأوه نادوه «من بعيد» طالبين رحمته. كان واحد من البرص العشرة سامريا، واليهود لا يخالطون السامريين، لكن المرض والعزلة والإقصاء أزالوا حواجز العداوة. مأساتهم وحدت عزمهم ونظرهم إلى مخلص وحيد، يسألونه الشفاء”.
أضاف: “تحرم الشريعة اقتراب البرص من سائر الناس، لكن العشرة، وإن وقفوا بعيدا، فقد جاؤوا ينتظرون الرب. هذه حال التائب الحقيقي الذي تشعره خطيئته بالبعد، لكنه لا ييأس من رحمة الله، فيقف صارخا وطالبا الرحمة بسبب ألمه، كما صرخ داود في المزامير: «من الأعماق صرخت إليك يا رب»، (١٢٩: ١). يتضح من تصرف البرص أنهم يثقون بالمعلم ويضعون رجاءهم عليه. «يا يسوع المعلم ارحمنا». لافت أنهم لم يسألوه إلا الرحمة التي لا تسأل إلا من الله. لم يسألوا الرب شفاء، بل رحمة، وهذا ما علينا فعله عندما نتوب حقا ونرجع إلى المسيح، باحثين عنه في الإنجيل، ومفتشين عن كيفية السلوك بحسب مشيئته. عندئذ، نضع ذواتنا باتضاع بين يدي الرب، ولا نسأله إلا الرحمة، الأمر الذي تختصره صلاة يسوع: «ربي يسوع المسيح ارحمني».
وتابع: “نقرأ في سفر اللاويين أيضا (١٣: ١-٤٦) أن التأكد من شفاء الأبرص، والسماح له بالعودة إلى المجتمع، كان من اختصاص الكهنة. الرب يسوع، سيد الناموس، الذي لم يأت لينقض الناموس بل ليكمله، لم يستثن البرص من القاعدة. الشفاء تحقق فورا، لكنه أمرهم بالذهاب إلى الكهنة. كان في أمره الإلهي وعد قاطع بالطهر، و«فيما هم منطلقون طهروا». يقول القديس كيرللس الإسكندري إن «البرص، في لغة الكتاب المقدس، هو الرمز الأوضح للخطيئة. فكما أن البرص يصيب أعضاء الجسد باهتراء يشبه اهتراء جثة الميت، وهو معد للغاية، كذلك الخطيئة التي، متى انسلت إلى روح الإنسان، تمدد فيها الاهتراء، فيصبح الإنسان ميتا وهو حي. الخطيئة أيضا، كالبرص، معدية للغاية، وهي أيضا تقصي صاحبها عن جسد المسيح، كما يقصي البرص حامله عن بيئته. لذا، متى أدرك الإنسان خطيئته وعزم على التوبة صارخا: «يا يسوع المعلم ارحمني» وجب عليه أن يسلم ذاته كليا لمشيئة الرب وحكمته، وأن ينطلق فيري نفسه للكنيسة، ممثلة بمن أقامهم الرب نفسه رعاة لكنيسته». السامري الغريب، المعتبر نجسا ممن كانوا يعتبرون أنفسهم شعب الله، ما إن لاحظ شفاءه، سارع بالعودة عفويا ليشكر السيد. الباقون لاحظوا فأسرعوا لإتمام واجبات الشريعة بهدف العودة سريعا إلى المجتمع الذي نبذهم، أما هذا فقاده فرحه للسجود عند قدمي المعلم «ليعطي مجدا لله». قال له الرب: «قم وامض، إيمانك قد خلصك». يقول القديس يوحنا الذهبي الفم إن «الرب يرفع المتواضعين ليطلقهم محصنين بمفاعيل اتضاعهم»، مضيفا أن «حفظ الجميل لله وتذكر عطاياه دوما يحفظ الذات مهيأة لاقتناء الفضائل، ويحميها من الفتور والتهاون اللذين يعيدان إلى الخطيئة». لقد حصل السامري على نعمة هي أكبر من شفاء الجسد. حصل على الشفاء الروحي عندما قال له الرب: «إيمانك قد خلصك»، وهذا هو الأهم”.
وقال: “كم نحن اللبنانيين بحاجة إلى رحمة الله لكي نشفى من حب الأنا وابتغاء المجد، والتسلط، وملاحقة المطامع والمكاسب. نحن نصلي طيلة الصوم الأربعيني الكبير: «أيها الرب وسيد حياتي، أعتقني من روح البطالة والفضول، وحب الرئاسة والكلام البطال…» هذه الصلاة يجب أن يكررها كل لبناني عند إشراقة كل شمس، لكي يسمح الرب أن نتخلى عن أنانيتنا ونتخطى انقساماتنا، ونوحد نظرتنا إلى بلدنا، فنرى فيه وطننا الوحيد، وملجأنا الوحيد، وحاضننا الوحيد، نخلص له، ونعمل من أجله، نصونه ونحميه، وندافع عنه وحده. هذا الموقف يستدعي منا احترام الدول الأخرى، ونصرة القضايا العادلة وفي طليعتها قضية فلسطين، إنما عدم السماح لأحد بالتدخل في شؤوننا الداخلية، وعدم ربط مصير بلدنا، وبشكل خاص انتخاب الرئيس، بأية قضية، مهما كانت محقة، وبأية دولة مهما كانت قوية أو غنية أو فاعلة. لبنان بحاجة إلى بنيه، كل بنيه، إلى أدمغتهم وسواعدهم، إلى نبوغهم وعلمهم وعملهم من أجل إعادة بنائه على أسس متينة تحفظ لجميع أبنائه من الشمال إلى الجنوب، ومن السهل إلى البحر، حقوقهم وأمنهم وحريتهم واستقرارهم ومستقبلهم. وعلى كل لبناني أن يحفظ طاقاته من أجل بلده، فلا يضحي بنفسه ولا يستهين بحياته من أجل قضية، مهما كانت عادلة، غير قضية وطنه. ثم هل مات أحد من أجلنا عندما كنا في الأزمات والحروب وتحت نيران العدو وغير العدو؟ فلم على اللبنانيين، وأهل الجنوب بشكل خاص، تكبد الخسائر في الأرواح والممتلكات، ودفع أثمان هم بغنى عن دفعها، بالإضافة إلى النزوح والتشرد؟”
أضاف: “إذا بقي اللبنانيون منقسمين حول رؤيتهم للبنان وسيادته ودوره، متلهين بمصالحهم، وخدمة مطامع الآخرين ببلدهم، سوف يخسرون لبنان وأنفسهم ومستقبل أولادهم. عوض ذلك، عليهم تجميع طاقاتهم من أجل إنقاذ بلدهم الغارق في المشاكل وفي السيول، الرازح تحت عبء المواقف السياسية المتناقضة، والحالة الإقتصادية الصعبة، وتحت الإنهيارات المتنوعة، والإنزلاقات المختلفة، الطبيعية منها والسياسية”.
وسأل: “هل كثير على أطفالنا أن يحلموا بمستقبل واعد؟ أن يذهبوا إلى المدارس وأن يلعبوا بسلام وأن يناموا ويحلموا دون خوف أو قلق؟ وكيف يتم ذلك وبلدنا بلا رئيس وبلا حكومة فاعلة ومع مجلس نيابي عاجز عن انتخاب رئيس؟ لقد مضى عام على وجود مستمر في مجلس النواب لنائب لا يطالب إلا بتطبيق الدستور وانتخاب رئيس، لكن لا نية لدى زملائه النواب، وذوي السلطة، للتأمل في موقفه، والإحتكام إلى الدستور وتطبيقه دون تأويل أو تشويه، وانتخاب رئيس. بهذا نخلص لبنان، في هذه الظروف، ويكون عندها قادرا على الدفاع عن قضاياه، وعلى مساندة كل ضعيف ومظلوم ومقهور”.
وختم: “دعوتنا اليوم أن نتمثل بالسامري «الغريب»، وأن نرجع دوما ممجدين الله «بصوت عظيم»، بأقوالنا وأفعالنا وأفكارنا وكل كياننا المتجدد بالتوبة الحقيقية وبرحمة الله”.