أيها الاخوة الأحباء،
قبل أيام احتفلنا بعيد الميلاد، عيد تجسد كلمة الله الذي أصبح إنسانًا مثلنا، “فالكلمة صار بشرًا وسكن بيننا” (يوحنا 1، 14)، كما يقول لنا انجيل القديس يوحنا. ظهر الطفل يسوع أولاً للرعاة الذين بشّرهم الملائكة من السماء بظهور المخلص. ثم ظهر للمجوس الغرباء الذين تبعوا النجم الذي قادهم إلى حيث الطفل وأمه. وهذا ما نعيده في عيد الغطاس أو عيد ظهور الرب للأمم.
وهذا الظهور مرتبط ارتباطًا وثيقًا بعمّاد الرب، ففي هذا العيد يظهر السيد المسيح للعالم بشهادة السماء له: “هذا هو ابني الحبيب، عنه رضيت” (مرقس 1، 11). وقد كانت معموديّة المسيح في القرون الأولى جزء من عيد الظهور قبل فصله عنه.
نزل السيد المسيح إلى نهر الأردن لينال معمودية عن يد يوحنا المعمدان، هذه اليد التي قال يوحنا نفسه أنها لا تستحق أن تحلّ رباط حذاء المسيح، هذه اليد التي وضعها المسيح على رأسه. “اليد التي أكد أنّها غير مستحقة أن تمس حذاءه سحبها المسيح على رأسه” (القديس يوحنا الذهبي الفم).
بعماده في نهر الأردن، انطلق المسيح في رسالته، فكانت بدء الرسالة.
بعمّاده قدّس مياه الأردن، قدّس المياه التي نعمّد فيها. إذًا كانت كل مياه الأرض تحتاج الى تقديس لنستخدمها في المعمودية، فهذه المياه من نهر الأردن لا تحتاج إلى تقديس، فقد قدّسها منشئ العمّاد نفسه، قدسها من نزل فيها ونال المعمودية منها.
بعماده ظهر السيد المسيح ليوحنا وتلاميذه ولكل الشعب أنّه المرسل من الله ليخلص العالم. بعماده شاركنا المسيح إنسانيتنا، هو الذي كان بلا خطيئة، حمل خطايا العالم. “فقد أحصى مع العصاة، وهو حمل خطايا كثيرين وشفع في معاصيهم” (النبي أشعيا).
بميلاده ولد إنسانًا مثلنا، وبنزوله إلى نهر الأردن وعماده شاركنا في حالنا، وحمل هو خطايانا. تنازل إلى أقصى حد، حتى جغرافيا، نزل إلى أخفض نقطة في العالم، وادي الأردن، ليصعد بنا إلى جلجلة القدس، وإلى قيامة القدس. ففي هذا المكان سمعت هذه الكلمات: “هوذا حمل الله، الذي يحمل خطايا العالم” (يوحنا 1، 35).
هنا يلتقي تاريخ الخلاص بجغرافية المكان، أو كما دعاه البابا بولس السادس بـ”جغرافية الخلاص”.
هنا تعمّد السيد المسيح وانطلق يبشر يدعو إلى التوبة وإلى ملكوت الله.
هنا سمع صوت الله مؤيدًا ومعلنًا “أنت ابني الحبيب، عنك رضيت”.
هنا انشقت السموات، فزال الحاجز بين الله والناس. ففي يسوع يقبل الله البشرَ من جديد كأبناء له. ولا يقول لنا الإنجيل “انفتحت السموات”، بل “انشقت السموات”. فلو قال انفتحت السموات لكان من الممكن إغلاقها. ولكن السموات انشقت، ولن تغلق أبدًا من جديد.
ويعود الإنجيلي مرقس في نهاية إنجيله، وفي لحظة موت يسوع على الصليب ليقول لنا: “انشق حجاب الهيكل شطرين من أعلى إلى أسفل” (مرقس 15، 38). وحجاب المقدِس هو ما يفصل قدس الأقداس في الهيكل، مكان حضور الله، عن باقي الهيكل. فلم يعد الله بعيدًا محتجبًا، بل قريبًا من أبنائه البشر.
وعندما نقول “هنا”، فهذه ليست مجرد إشارة جغرافية، “هنا” تعني أنّ الله اختار هذا المكان وهذه الأرض. تعني فخرنا بانتمائنا لهذا البلد وهذه البقعة الجغرافية التي قدّسها الله. هنا عبر الشعب مع يشوع إلى الأرض المقدّسة، هنا نزل نعمان السوري حسب طلب النبي أليشاع ليتطهّر من البرص، هنا عبر إيليا النبي قبل عن تنقله العربة الناريّة إلى السماء.
هنا جذورنا، هنا خلاصنا، هنا فخرنا ورسالتنا.
أخيرًا، تعمّد السيد المسيح في نهر الأردن لننا نحن جميعًا المعمودية، ونصبح أتباعه وحاملي رسالته. نلنا هذا الشرف العظيم لنصبح أبناء الله، لنصبح جماعة مسيحية متحدة مبشرة برسالة السماء، أن نمجّد الله في الأعالي، والسلام في الأرض لبني البشر. فلا يمكن أن يكون الله “أبًا” لنا إن لم يكن الإنسان “أخًا” (كما قال غبطة البطريرك في عظة عيد الميلاد).
حلّ الروح القدس على المسيح خلال عماده، هذا الروح الذي قال عنه السيد المسيح: “رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ لأنّه مَسَحَني لِأُبَشِّرَ الفُقَراء وأَرسَلَني لأُعلِنَ لِلمَأسورينَ تَخلِيَةَ سَبيلِهم ولِلعُميانِ عَودَةَ البصَرِ إِلَيهِم وأُفَرِّجَ عنِ الـمَظلومين وأُعلِنَ سَنَةَ رِضًا عِندَ الرَّبّ” (لوقا 4، 18). ليكن انتماؤنا إلى أرض المعموديّة رسالة نعلنها في حياتنا ولجميع البشر، على مثال السيد المسيح. آمين