على الأرجح، لا أحد، لا أحد أبداً، لا يعرف “بونا يوسف مونس” (وهي التسمية الأحبّ إلى قلبه). هو ابن الشبانية، رفيق الياس سركيس، وعاشق شربل وتقلا وجرجس وسيدة الوجه المنمش- القديسين الذين رافقوه كلّ حياته. بين البداية في الشبانية واللحظة في دير مار أنطونيوس في السوديكو تسعة عقود إلا ثلاث سنوات، فيها كثير من الأحداث والتفاصيل والعِبر، غصنا فيها بقدرِ ما استطاع وهو “الخارج من الموت”. بصوتٍ يستمرّ واضحاً، وبعقلٍ يستمرّ وقاداً، إنما بسحنة صفراء وبجسمٍ خسر وزناً كثيراً استقبلنا. تغيّر بونا مونس؟ تعب؟ أنهكه العمر؟ يبتسم لنا مستعيراً من القديس بولس الرسول عبارة “جاهدتُ وأكملتُ السعي وأتممتُ رسالتي وحفظتُ إيماني وأخيراً قد وضع لي إكليل البرّ”. بابتسامة أصبحت أكثر وضوحاً على وجهه تحدث “بونا” عن الحياة والموت والظلم والكسليك وستراسبورغ وبشير وسمير والتعليم والمسرح والشبانية والزيتون. استراح مراراً ليلتقط الأنفاس خاتماً بآخر قصيدة كتبها: لقد حان وقت رحيلي.
لا يرغب في الكلام. يريد أن يرتاح. لكننا ألحّينا عليه فقبل. دخل إلى القاعة التي استقبلنا فيها حاملاً مسبحة ودفتراً، مرتدياً أجمل عباءة في التاريخ، قال عنها “كريستيان ديور”: “أجمل زيّ رأيته في حياتي هو زيّ الراهب الماروني اللبناني”.
منذ البداية طلب منا أن نناديه “بونا”: “بحب تنادوني يا بونا. بحب كلمة يا إمي ويا بيي ويا خيي ويا رفيقي. بحب كلمة الله يبارك والبركة تحلّ. باركنا وبارك “نداء الوطن” وانطلق بقدرِ ما استطاع في تاريخٍ من الذكريات. يقول “متّ وقمت. أصبتُ بذبحةٍ في أميركا. بكى عليّ إخوتي والأحباء بعدما قال لهم طبيبي الأميركي: he is good for nothing (لم يعد يصلح لشيء). طبيبه اللبناني صرخ فيه: أنت لا تعرف هذا الرجل. إنه ثروة لدينا. هو كنز. وبلا طول سيرة خرجت من الموت. طلّ عليّ مار شربل الذي أديتُ في نعومة أظفاري دوره وقال لي: ماذا تفعل هنا؟ قمّ. أجبته: ألا ترى النباريج في كل عروقي؟ كرّر: قم وغادر. نزع عني النباريج فأتى الأطباء صباحاً ووجدوني من دونها. عدتُ إلى لبنان. قصدتُ جبيل ثم صعدتُ إلى عنايا. وها أنا حيّ”.
إبن ميدان الشبانية
هو ابن الميدان في الشبانية “والميدان هو ميدان الخيالة لأن بيت الأمراء جنب بيتنا. نحن فلاحون. هناك كبرت. أعرف الأرض والطيور والتلّ والفصول والربيع والكروم وكيف يتكسر الصنوبر في الثلج وأعرف الجنازات والعرائس. وكلها أمور كبيرة جداً عشتها في ساحة الخيالة في الشبانية – الإمارة اللمعية- التي هي يا ستي غير كلّ الإمارات في لبنان. لماذا أقول ذلك؟ لأن أرضنا وشرفنا فيها لنا أما سلاحنا وحده للأمير. في الإمارات الأخرى الأرض والناس والسلاح للأمير”.
ترك الشبانية بعمر السادسة عشرة ودخل الرهبنة ويقول “قلقتُ دائماً لأمر مضمونه: ما هو الثابت؟ في الحياة والكون كلّ شيء عابر يزول، الموت يأخذ كل شيء. لذا بحثتُ منذ كنت طفلاً عن الثابت في الحياة. وحده يسوع المسيح الثابت وما عداه لا شيء. بيتنا لم يكن بعيداً عن كنيسة السيدة. كنت أركع أمامها وأناديها وأطلب منها بإلحاح: أريد جواباً عن ما هو ثابت. قصتي مع سيدة الشبانية كبيرة جداً. أغرمت بها ولم اعرف لماذا. وأتذكر أنني يوم أصبحت عميد كلية الفنون في الكسليك أتوا بلوحة السيدة وقالوا: نريد ترميمها. كانت أربعة أمتار بستة أمتار. دنوت منها كثيراً فرأيتُ وجهها كما لم أره يوماً. كانت منمشة الوجه. هي العذراء الوحيدة في تاريخ الإيكوغرافيا منمشة الوجه. يسمونها سيدة العرش. كتبتُ عنها: إنها سيدتي سيدة الوجه المنمش. وانتشر الخبر عن سيدة الوجه. إلى جانب كنيسة السيدة كانت كنيسة مار جرجس. كنتُ أحبّ هذا الفارس الممتطي حصاناً لكنني كنتُ خائفاً أن يقضم التنين قدميه. كنت أصرخ: يا ما رجرجس أبعد عنك التنين. كنت أمرّ أيضاً على كنيسة مار الياس الحامل سيفاً وأخاف أن يفلت سيفه من يده (يبتسم لذلك) ويتابع: أتذكر والدتي يوم طلبت مني أن نقصد مار تقلا في عيدا “لنعيّدها”. قالت لي: جيب يا ابني شمعتك لنذهب. ذهبتُ معها وأنا أضع يدي وراء ظهري. وحين وصلنا رأت معي قضيب رمان لا شمعة. سألتني لماذا أتيت بقضيب رمان؟ أجبتها: ألا ترين السباع تحت أقدام مار تقلا. أريد أن أدافع عنها. قالت لي: إحمل الشمعة والقديسة هي من تدافع عن نفسها”.
يصرّ على الإسهاب عن المحيط الذي عاشه طفلاً قائلاً “ليست ذكرياتي ما بقي لي بل الحياة. حياتي هكذا كانت مع الطبيعة. تعلمت الكرم من أهلي الذين كانوا يحصدون القمح والزيتون ويتركون في الأرض الكثير منهما. وكانت والدتي تقول لي: يا ابني هول للطيور التي خلقها الله وللمحتاجين. انطبعتُ بتلك التفاصيل. الغربة لم تفعل معي شيئاً. قد تكون زادتني ثقافة لكن علاقتي بالتراب والأرض والناس والطيور والشتاء والعواصف والطواحين كانت في الشبانية”.
مع الياس سركيس
لا يمرّ مرور الكرام على “الطيبين” في الشبانية والياس سركيس، فخامة الرئيس سركيس، كان واحداً منهم “قصصي معه كانت كثيرة. كان بيننا ودٌّ وحميمية واستشارة في الظروف الصعبة. وسأخبرك قصة: كان سايروس فانس (وزير الخارجية الأميركي السابق) قادماً إلى لبنان يريد من الرئيس سركيس التوقيع على توطين الفلسطينيين في لبنان. إتصل بي الرئيس ليلاً طالباً رؤيتي. كانت القذائف تنهمر “متل الشتي” والطرقات مقطوعة. صعدت إلى القصر الجمهوري بين زخات القنابل فرأيته جالساً في الطبقة الثالثة. بدا كئيباً. قلت له: ما بالك؟ كانت العادة بيننا أن أجلس مستمعاً إلى همومه وإذا أراد جواباً يقول لي: ما رأيك؟ وإذا لم يرد يقول لي: قوم فلّ. سمعت كل أخباره في أشد اللحظات حراجة خصوصاً في أيام بشير. يومها قال لي: سايروس فانس يريد توقيعي على توطين الفلسطينيين فما رأيك؟ أجبته أستاذ (كنت أتوجه إليه بهذا اللقب) هل يمكنني أن أقول كل ما يخطر في بالي؟ هزّ رأسه بالإيجاب. قلت: حين تموت يفترض أن ندفنك في الشبانية. ولا يمكن لإبن الشبانية التوقيع على خيانة لبنان. نظر إلي! قائلاً: لا، لن أوقّع. فلّ. ولا أنسى وجهه وهو يودعني في تلك اللحظات قائلاً: لا تنسى دفني في الشبانية. وهذا ما حصل يوم مات صعدتُ وحدي وراء النعش وكانت الطرقات مقطعة الأوصال. أوصلته إلى هناك حيث دفن”.
أحبّ الياس سركيس بشير كثيراً. كان مطلعاً يراقب ويسمع ويقرأ. كان سركيس قارئاً نهماً ويحب الموسيقى. أحبّ فنّ عمر أنسي. الثقافة كانت “شي كبير” في حياته. عاش فقيراً ومات فقيراً. في أحد الأيام توجهت إليه بعدما كُتب على جداران بيروت: الياس سركيس جبان. قلت له: يا فخامة الرئيس هذا ما يكتب على الجدران. أجابني: كم سعر الخبز؟ كم سعر الغاز والقمح والرز والسمنة واللحمة؟ لا تعتل هماً لن أدع الفقراء يجوعون. وسيأتي يوم يمحون ما كتب بدموع العينين. كنت أقول له: لا تملك جيشاً ولا حزباً ولا قبيلة فيجيبني: أملك قراري، كان صاحب قرار، هل تعرفين أنه أبى ان يقبض راتبه وتركه في خزينة الدولة. هو من اشترى الذهب. كنت أنظر إليه مدهوشاً قائلاً: ماذا تفعل؟ هو من اشترى الذهب الذي يضمن حياتنا وحقّ لبنان”.
لا يتعب من الكلام عن راهب الشبانية الآخر الياس سركيس “هو أخذ حقه اليوم. الجميع يقولون نريد رئيساً مثل الياس سركيس. كان محاطاً بفؤاد بطرس وبأشخاص نظيفي الكف والرأس والقرارات. ويوم أتت اللجنة الثلاثية لتفرض عليه ما لا يريده. دعاني طالباً أن آتي ببشير وأطلب منه عدم ارتداء ربطة عنق بل بالبزة العسكرية وأن يعطي رأيه ويضرب على الطاولة وأن لا يدع أحداً يتكلم. أتى بشير وتكلم عن وجهة النظر المسيحية “لبط وشبق وكسر الطاولة” فخاف من يتكلمون باسم اللجنة الثلاثية وركضوا نحو الرئيس مرددين: ما هذا؟ أجابهم: هذا أفضل من يتكلم باسم المسيحيين. وهكذا “ظمط” سركيس من تلك المرحلة الصعبة التي حشروه فيها”.
بشير رئيساً
اقتنع الياس سركيس ببشير كثيراً. أحبه كثيراً كثيراً ويتذكر الأب مونس “هنا، في هذا الشارع، شارع عبد الوهاب الإنكليزي، اجتمعنا مع الأباتي بولس قزي والأباتي بولس نعمان والأب أنطوان كرم في بيت المهندس جورج غريب. إنضمّ بشير إلينا. تحدثنا مطولاً قلنا له إننا نفكر بأن يكون الرئيس المقبل. رفض وقال: لا يمكنني التقدم على خيّي (أمين الجميل). هناك داني (شمعون) أيضاً أكبر مني. مرّت الايام وصار اللي صار. وأصبح بشير رئيساً. ويوم انتخب فرح الرئيس سركيس كثيراً. ويوم استشهد بكى عليه كثيراً كثيراً. وعاد الحمل كبيراً على منكبيه”.
يوم انتخب أمين الجميل رئيساً للجمهورية ترك الياس سركيس الوديعة وغادر. قام بما عليه و”فلّ”. كانت لديه ذهنية الموظف يقال؟ يرفض مونس هذه المقولة “كان دقيقاً وليس موظفاً تابعاً”.
بعدما غادر سركيس واستشهد بشير خرج مونس من “الدق” “بناء لرغبة البطريرك. أصبحت الأمور بين أيدي البطريرك”.
حدثت بعدها أمور كثيرة. المسيحيون مروا في لحظات إحباط وشعروا بالظلم. سُجن سمير جعجع. وغادر ميشال عون إلى فرنسا و… يقاطعنا الأب مونس بالقول “لا، المسيحيون لا يفترض أن يشعروا بالظلم. أنا إنسان أتكل على الكتاب المقدس ونصوص الكتاب المقدس. وفي هذا الإطار أقول لك نصاً إحفظيه وردّديه من صفر تثنية الإشتراع الفصل 25/3 لا ينتبه أحد إليه: يقال كان موسى آتياً عبر في الصحراء وصعد في اتجاه جبال لبنان فرأى جبلاً أخضر جميلاً فانبهر فصرخ: ما هذا الجبل الأخضر ألا تريد يا الله أن تعطينا إياه؟ فغضب الله قائلاً: “أغمض يا موسى عينيك. هذا الجبل لن تطأه قدماك، لا أنت ولا الذي سيأتي من بعدك”. يضيف مونس “اتكلت في حياتي على هذا النصّ لا على التحاليل. أؤمن بنصوص الكتاب المقدس وعليها استندت. قرأتُ بإمعان نصّ الرؤيا: ورأيتُ سماء جديدة والأيام القديمة قد مضت. وهناك نص أشعيا: ورأيتُ أرضاً جديدة ويكون لنا سماء جديدة وأرض جديدة. مار بطرس في رسالته الثانية قال أيضاً: وتكون لنا سماء جديدة وأرض جديدة. لهذا كله ليس عندي أي شعور بالظلم أبداً ابداً أبداً”.
لكن المسيحيين شعروا على الرغم من كل ذلك بنوعٍ من الظلم. هم وحدهم من حوكموا وسجنوا واضطهدوا… يقاطعنا الأب مونس بالقول “ألم تسمعوا ما فعلوه بالمسيح؟ ألم يضربوه؟ ألم يجلدوه؟ ألم يصلبوه؟ هل هناك ظلم أشدّ في الدنيا؟ هو ظلم لأنه أحبنا وافتدانا. وكل الظلم اللاحق يهون أمام ما حدث ليسوع”.
هكذا تواجهون الظلم
المواجهة تكون “بالصلاة والمحبة”. يقول الأب مونس ذلك ويضيف “نحن كمسيحيين لا يمكننا أن نعيش بلا محبة. والصلاة تفعل كل شيء. صلوا ولا تملوا. يسوع صلّى وعلمنا أن نصلّي. الجنرال فوش (فرديناند فوش) العظيم كانت الحرب دائرة وهو يصلّي مسبحته. يوسف بك كرم صلّى مسبحته أيضاً إبان الحرب. مار شربل فعل ذلك أيضاً والدم يسيل منه”. هنا يتذكر فيلم مار شربل الذي شارك فيه في أولى خطواته “طبع ذلك كل حياتي. كان دوراً صعباً. قلت له: يا مارشربل ليتك تلعب دورك أنت وهذا ما حصل. لولاه لما نجحت في الأداء. هو دور صعب جداً خصوصا في مرحلة المحبسة حين وقع على المذبح. يا الله كم أحبّ هذا المشهد. كان عليّ تأدية دوره بوجهه المضيء. طبع الفيلم كل حياتي. ومنذ ذاك الحين والقديس يرافقني ليل نهار. التصقت به”.
أدى “بونا مونس” 34 مسرحية وله ثمانية كتب. ماذا عن المرحلة الأحبّ إلى قلبه؟ “كل المراحل أحبها. أحبّ طفولتي في الشبانية. أحبّ سفري إلى ستراسبورغ. أغرمت في كاتدرائيتها وعظمتها وتاريخها. أحبّ مرحلة التعليم التي أمضيت فيها نحو أربعين عاماً. وأفتخر بمرحلة الكسليك ومعركة إنقاذ الكسليك. أحبّ مرحلة السكون الأخيرة في جبيل ثم مرحلتي هذه في بيروت. أحبّ الأشرفية وشوارعها وبيوتها القديمة وتراثها. هي مدينة ساحرة. هي أشبه بجبل في مدينة. وأحبّ رؤية الناس في الأشرفية وهم يحملون المسابح ويتوجهون مشياً إلى الكنائس”.
كان “بونا مونس” رياضياً بامتياز “لعبت كرة السلة درجة أولى. شاركت في بطولات لبنان طوال خمسة عشر عاماً. كنت أدرس وألعب وأسبح وأتسلق الجبال”. هل يمكننا إذاً وصفه بالراهب الثائر؟ يجيب “أنا أؤمن بالتغيير لا بالثورة”. لكن أي تغيير يتطلب ثورة؟ يوافق مع تشديده على النتيجة.
هو يمضي أوقاته اليوم في دير مار أنطونيوس في السوديكو “أستيقظ عند الخامسة. أستحمّ. اقرأ. وأقدّس وأتناول فطوري ثم أعود إلى غرفتي. أتناول الغداء وأعود وأصعد إلى غرفتي ولا أعود أخرج منها إلى اليوم التالي. مواعيدي جدّ محدودة…. ويطلب بإلحاح: تعبت من الكلام… لم أعد قادراً على المتابعة… سامحيني”.
قبل أن نختم نسأله عن خلاصة تجربته في تسعين عاماً؟ “أتممتُ رسالتي وحفظتُ إيماني ولم أكن كسولاً في حياتي”. هل يخيفه الموت؟ يبتسم قائلاً “كتبتُ آخر قصائدي “حان وقت رحيلي… فانشدوا أناشيدي وتراتيلي”.