عظة البطريرك الكردينال مار بشاره بطرس الرَّاعي
جورة الترمس –الجمعة 6 أيلول 2024
“إنّ أمّي وإخوتي هم الذين يسمعون كلمة الله ويعملون بها” (لو 8: 21) .
1. بهذه الكلمات شرح الربّ يسوع سرَّ أمومة مريم: لقد سمعت الكلمة الإلهيّة في روحها وقلبها، بإيمان ورجاء ومحبّة، وحفظتها في قلبها، وجسّدتها في أعمالها. فأصبحت هذه الكلمة جنينًا في حشاها، قال عنها يوحنّا الرسول: “الكلمة صار بشرًا” (يو 1: 14).
وبيّن في الوقت عينه أنّ أمومة مريم هي في الأساس أمومة روحيّة، قبل أن تكون أمومة جسديّة. ما يعني أنّ الربّ يدعونا لنكون نحن أيضًا مشاركين في “الأمومة والأخوّة”، روحيًّا، بسماع كلام الله، مثل مريم.
2. يسعدني أن نحتفل معًا بهذه الليتورجيا الإلهيّة، لمناسبة الزيارة الراعويّة التي أقوم بها لرعيّة جورة الترمس العزيزة. وفيها نحتفل بوضع الحجر الأساس للقصر البلديّ الذي يتضمّن صالة باسم الخورأسقف بطرس قرقماز، أوّل كاهن مارونيّ مرسل إلى الولايات المتّحدة الأميريكيّة من المثلّث الرحمة البطريرك يوحنّا الحاج برسالة مؤرّخة في 22 أيّار 1890. وفي غضون أقلّ من سنة، تحديدًا في 18 كانون الثاني 1891، كان للموارنة أوّل رعيّة في الولايات المتّحدة، في محلّة Manhattan – نيويورك بالقرب من بنايتي التجارة اللتين هدمهما إرهابيّون في 11 أيلول 2001، وقد هًدمت الكنيسة معهما، ثمّ وجدوا أثارها عند تنظيف المحلّة من بقايا الهدم.
وفي مشروع القصر البلديّ مكتبة ثقافيّة، ومركز للخدمات الإجتماعيّة، ومكتب للسياحة، ومركز رياضي.
3. فيسعدنا أن نهنّئ حضرة رئيس البلديّة النقيب شربل قرقماز، وأعضاء المجلس البلديّ الأعزّاء على بداية هذا الإنجاز بالإضافة إلى مركز للنادي ومستوصف سانت تريز وتجهيزه بعيادة طبّ الأسنان ووجود أطبّاء من جميع الإختصاصات، وتأهيل ملعب رياضي، وتقدمة مذبح جديد للكنيسة. ذلك بالإضافة إلى العمل البلديّ من تحسين البنى التحتيّة، وتوسيع الطرقات وسواها من الأمور الإنمائيّة.
4. لقد أعطت مريم كلمة الله جسدًا بشريًّا، أمّا نحن فمدعوّون لنعطي كلمة الله حياة فينا، حسب قول بولس الرسول: “أنا أحيا، لا أنا، بل المسيح يحيا فيَّ” (غلا 2: 20). بل نستطيع القول أنّ يسوع يريد منّا، لا أن نعطيه جسدًا، بل أن نكون نحن جسده، بحيث يفكّر في عقولنا، ويقول الحقيقة في ألسنتنا، ويحبّ بقلوبنا، ويعمل الخير بإرادتنا، ويبارك بأيدينا. وفي كلّ حال نحن أصبحنا بالمعموديّة والميرون أعضاء في جسده.
5. إنّ كلمة الله التي نسمعها ونعمل بها، هي كلمة نعلنها في قانون الإيمان؛ ونحتفل بها كسرّ مسيحيّ في الليتورجيا؛ ونعيشها بحياة جديدة بالمسيح، بالفضائل والوصايا العشر، وسط الجماعة البشريّة، وتصبح صلاة تنعش حياتنا.
6. كلمة الله التي نسمعها ونعمل بها هي ثقافتنا المعاشة، بل حضارتنا التي نجسّدها في الوطن اللبنانيّ، وتقتضي من الإخوة المسلمين عيش ثقافتهم وحضارتهم. هذه هي ميزة لبنان وخصوصيّته كبلد الوحدة في التعدّديّة الثقافيّة والدينيّة.
هذه الوحدة في التنّوع تستوجب الولاء الجامع للوطن اللبنانيّ. غريب حقًّا كيف يوالي لبنانيّون غير لبنان. فمجرّد أن يفكّر اللبنانيّ بعظمة الفكرة اللبنانيّة، من المفترض أن يصبح لبنانيًّا بالإعجاب قبل الولاء، وبالمحبّة قبل الشراكة، وبالإفتخار قبل الوطنيّة. لا يوجد مبرّر لأيّ لبنانيّ ليخون لبنان، فيما لديه جميع المبرّرات ليُخلصَ له.
إنّ صيغة لبنان النموذجيّة التي كانت نقطة قوّته تحوّلت نقطة ضعفه، بعد مئة سنة تقدّمت السلبيّات وتراجعت الإيجابيّات. لكن الإجماع على فشل الصيغة اللبنانيّة أو إفشالها، يوازيه تعثّر شامل في إيجاد بديل منها يُجمع عليه اللبنانيّون.
7. إنّ إعلان حياد لبنان هو نظام ملازم وجود لبنان. فإنّه لا يحمي لبنان من الدول الأجنبيّة فحسب، بل يقيم السلام بين المكوّنات اللبنانيّة. علاوة على الحياد، انقاذ لبنان يستلزم دورات تثقيفيّة مكثّفة. فبعد إن كانت لدينا تخمة ثقافة أمسينا نشكو من نقص فيها. وليس صدفة أنّ نسبة الإنهيار الوطنيّ توازي نسبة الإنهيار الثقافيّ، ما يؤكّد التلازم بين لبنان الوطن ولبنان الثقافيّ.
8. فلنصلِّ، أيّها الإخوة والأخوات، من أجل أن يمنّ علينا الله نعمة سماع كلامه بإيمان ورجاء، ونحفظه ثقافة في عقولنا، ونعيشه حضارة في حياتنا اليوميّة. للثالوث القدّوس الآب والإبن والروح القدس كلّ مجد وشكران الآن وإلى الأبد.