“أشجعكم على مواصلة رسالتكم، أقوياءَ في الإيمان، ومنفتحين على الجميع في الأخُوّة، وقريبين من الجميع في الشفقة” هذا ما قاله قداسة البابا فرنسيس في كلمته إلى الأساقفة والكهنة والمكرَّسين والإكليركيّين وأساتذة التّعليم المسيحيّ في أندونيسيا
في إطار زيارته الرسوليّة إلى أندونيسيا التقى قداسة البابا فرنسيس عند الساعة الرابعة والنصف بالتوقيت المحلي الأساقفة والكهنة والمكرَّسين والإكليركيّين وأساتذة التّعليم المسيحيّ في أندونيسيا في كاتدرائيّة سيّدة الانتقال وبعد الإصغاء إلى شهادات حياة بعض المكرسين وأساتذة التعليم المسيحي وجّه الأب الأقدس كلمة قال فيها إنَّ الشّعار الذي تمّ اختياره لهذه الزّيارة الرّسولية هو “إيمان، أخُوَّة، وشفقة”. أعتقد أنّها ثلاث فضائل تعبِّر جيِّدًا عن مسيرتكم ككنسيّة وعن طبيعة شعبكم المتنوِّعة عرقيًّا وثقافيًّا، والتي تتميّز بميل طبيعي إلى الوَحدة والتعايش السّلميّ، كما تشد المبادئ التّقليديّة للبانشاسيلا. أوَدّ أن أتأمَّل معكم حول هذه الكلمات الثّلاث.
تابع البابا فرنسيس يقول الأولى، الإيمان. أندونيسيا هي بلد كبير، وله موارد طبيعية كبيرة، في النّبات والحيوان والطّاقة والمواد الخام، وما إلى ذلك. إذا نظرنا إلى هذا الغنى الكبير، بنظرة سطحيّة فقط، يمكنه أن يتحوّل بسهولة إلى دافع للفخر والغرور. لكن إذا نظرنا إليه بعقل وقلب منفتحين، فيمكنه أن يكون تذكيرًا بالله، وحضوره في الكون وفي حياتنا، كما يعلِّمنا الكتاب المقدس. إن الرب في الواقع هو الذي يعطي كلّ هذا. لا يوجد شبر واحد من هذه الأراضيّ الإندونيسيّة الرائعة، ولا لحظة واحدة في حياة كلّ واحد من ملايين السّكان فيها، إلّا وهي عطيّة منه، وعلامة لحبِّه الأبوي المجاني، الذي يستبق حاجاتنا. وبالتالي فإذا نظرنا إلى هذا كلّه بعيون الأبناء المتواضعين، فستساعدنا هذه النّظرة لكي نؤمن ونعترف بأننا صغار ومحبوبون، ولكي نعزز مشاعر الامتنان والمسؤوليّة. وقد حدثتنا أغنيس، حول علاقتنا مع الخليقة ومع الإخوة، ولاسيما الأكثر عوزًا والتي علينا أن نعيشها بأسلوب شخصيّ وجماعيّ مطبوع بالاحترام والحضارة والإنسانيّة، وبالرصانة والمحبّة الفرنسيسكانيّة.
أضاف الأب الأقدس يقول إن الكلمة الثّانية في الشّعار بعد الإيمان هي الأخُوَّة. استخدمت شاعرة من القرن العشرين تعبيرًا جميلًا جدًّا لوصف هذا الموقف: وكتبت: “أن نكون إخوة يعني أن نحِبَّ بعضنا بعضًا، ونعترف بأنّنا مختلفون مثل قطرتَين من الماء”. وهكذا هو الأمر تمامًا. لا توجد قطرتان من الماء متشابهتان، ولا يوجد شقيقان، ولا حتّى توأمان، متطابقان تمامًا. وبالتالي فإن عيش الأخوَّة يعني أن نقبل بعضنا البعض، ونعترف بأنّنا متساوون في الاختلاف. وهذه هي أيضًا قيمة عزيزة على تقليد الكنيسة الإندونيسيّة، وتتجلَّى في الانفتاح الذي تتواصل فيها مع الحقائق المختلفة التي تكوِّنها وتحيط بها، على المستوى الثّقافي والعرقيّ والاجتماعيّ والدّينيّ، وتقدِّر مساهمة الجميع، وتقدم بسخاء مساهمتها في كلّ مجال. وهذا أمر مهمّ، لأنّ إعلان الإنجيل لا يعني أن نفرض إيماننا على إيمان الآخرين، وإنما أن نعطي ونتقاسم فرح اللقاء مع المسيح، ودائمًا باحترام كبير ومودّة أخويّة لأي شخص. وفي هذا أدعوكم لكي تبقوا هكذا على الدوام: منفتحين وأصدقاء مع الجميع – “يدًا بيد”، كما قال الأب ماكسي – أنبياء شركة ووحدة، في عالم يبدو فيه أنّ الميل إلى الانقسام وفرض الذّات، والاستفزاز المتبادل آخذ بالتزايد.
تابع البابا فرنسيس يقول من المهمّ أن نحاول بلوغ الجميع، كما ذكّرتنا الأخت رينا، مع أمنية أن نتمكَّن من أن نترجم إلى لغة الـ “Bahasa” الإندونيسيّة بالإضافة إلى نصوص كلمة الله، تعاليم الكنيسة أيضًا، لكي نجعلها في متناول أكبر عدد ممكن من الأشخاص. وقد سلّط الضوء على ذلك أيضًا نيكولاس، واصفًا رسالة أستاذ التّعليم المسيحيّ بصورة “الجسر” الذي يوحِّد. لقد أثّرت فيَّ هذه الصّورة، وجعلتني أفكِّر في المنظر الرائع، في الأرخبيل الإندونيسيّ الكبير، لآلاف “جسور القلب” التي توحِّد جميع الجزر، وكذلك في ملايين “الجسور” التي توحِّد جميع الأشخاص الذين يسكنون فيه! إنها صورة أخرى جميلة للأخُوّة: قطعة قماش كبيرة مطرَّزة بخيوط المحبّة التي تعبر البحر، وتتخطّى الحواجز وتعانق الاختلافات، وتجعل من الجميع “قلبًا واحدًا ونفسًا واحدة”.
أضاف الأب الأقدس يقول ونصل إلى الكلمة الثّالثة: الشفقة، والتي ترتبط جدًّا بالأخُوّة. كما نعلَم، في الواقع، إنَّ الشفقة لا تقوم على توزيع الصّدقات على الإخوة والأخوات المعوزين فيما ننظر إليهم من فوق، من ضماناتنا وامتيازاتنا، وإنما على الاقتراب من بعضنا البعض، وتجريد أنفسنا من كلّ ما يمكنه أن يمنعنا من الانحناء لكي ندخل حقًّا في علاقة مع الذين هم على الأرض، فنرفعهم ونعيد إليهم الرجاء. وليس ذلك فحسب: بل هي تعني أيضًا أن نعانق أحلامهم ورغباتهم في الفداء والعدالة، ونعتني بهم، ونجعلهم معزّزين ومعاونين، وأن نشرك غيرهم أيضًا، فنوسِّع “الشّبكة” والحدود في دينامية محبّة كبيرة ورحبة.
تابع البابا فرنسيس يقول هناك من يخاف من الشفقة، لأنّه يعتبرها ضعفًا، بينما يمدح، كما لو وكانت فضيلة، دهاء من يسعى لتحقيق مصالحه الخاصة عن طريق الابتعاد عن الجميع، وعدم السماح لأي شيء أو أي شخص بأن يؤثِّر عليه، معتقدًا بذلك أنه أكثر وعيًا وحرية في تحقيق أهدافه. لكنها طريقة خاطئة للنّظر إلى الواقع. إنَّ ما يجعل العالم يسير قدمًا، ليست المصالح والحسابات- التي تؤدّي عمومًا إلى تدمير الخليقة وتقسيم الجماعات – بل المحبّة التي تبذل نفسها. إنَّ الشفقة لا تحجب الرّؤيّة الحقيقيّة للحياة، لا بل، تجعلنا نرى الأشياء بصورة أفضل، في ضوء الحبّ. في هذا الصّدد، يبدو لي أنّ بوابة هذه الكاتدرائيّة، تلخِّص جيّدًا في هندستها ما قلناه، من وجهة نظر مريميّة. فهي مدعومة، في وسط القوس المُدبب، بعمود عليه تمثال للعذراء مريم”. وهكذا هي تُظهر لنا والدة الإله أوّلًا كنموذجّ للإيمان، فيما تعضد بشكل رمزي، بالـ “نعم” الصغيرة التي قالتها، بناء الكنيسة بأسره. في الواقع يبدو أنّ جسدها الضّعيف، المستند إلى العمود، الصّخرة التي هي المسيح، يحمل معه ثقل البناء بأسره، وكأنّه يقول إنّ الكنيسة، عمل الإنسان وإبداعه، لا تقدر أن تعضد نفسها بنفسها. ثمّ تظهر مريم كصورة للأخُوّة، تستقبل، في وسط البوابة الرّئيسية، جميع الذين يريدون الدّخول. وأخيرًا، هي أيضًا أيقونة شفقة، في سهرها وتحميّ شعب الله الذي بأفراحه وأحزانه، وتعبه وآماله يجتمع في بيت الآب.
وختم البابا فرنسيس كلمته بالقول أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، يطيب لي أن أختتم هذا الحديث باستعادة ما قاله القدّيس يوحنّا بولس الثّاني، الذي زار هذا البلد لعقود خلت، عندما توجَّه إلى الأساقفة والكهنة والمكرّسين. لقد استشهد بآية من المزمور: “لتَفْرَحِ الجُزُرُ الكَثيرة!” ودعا مستمعيه إلى تحقيقها، “ولكي يشهدوا لفرح القيامة ويبذلوا حياتهم فتتمكّن هكذا الجزر البعيدة أن تفرح أيضًا بسماع الإنجيل، الذي أنتم له مبشرين حقيقيين ومعلّمين وشهود”. أجدِّد لكم أيضًا هذه التّوصيّة، وأشجعكم على مواصلة رسالتكم، أقوياءَ في الإيمان، ومنفتحين على الجميع في الأخُوّة، وقريبين من الجميع في الشفقة. أبارككم وأشكركم على الخير الكثير الذي تقومون به كلّ يوم! أصلّي من أجلكم، وأسألكم من فضلكم أن تصلّوا من أجلي.