كلمة صاحب السيادة المطران شارل مراد السامي الوقار رئيس اللجنة الأسقفية للحوار المسيحي الإسلامي في لبنان في المجلس العاشورائي- بنهران

أصحاب الفضيلة والسماحة، الآباء الكرام
المقامات الرّوحيّة والسياسيَّة والإداريَّة والإجتماعيَّة والعسكريَّة
أيّها الإخوة والأخوات المباركون
اسمحوا لي أولاً ان اتقدم بشكرٍ خاص من الدكتور ماهر حسين، نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الذي شرّفني ان ألقي كلمة امامكم في ذكرى عاشوراء، ذكرى مقتل الحسين بن علي وأهل بيته وأصحابه الابرار في معركة كربلاء، وبهذه المناسبة الاليمة أقدم التعازي لعموم المسلمين في جميع أنحاء العالم.
عبارة “شهيد” تدلُّ على “الشَّهادة”، وفي الفكر المسيحي تشيرُ إلى أولئك الذين شَهِدوا للإيمان حتّى الموت، مؤكِّدين حقيقة الإنجيل رغم الاضطّهاد والتَّنكيل وصُنوف التعذيب… لقد حَملوا لواء الحقيقة وضَحُّوا في سبيلها حتّى الدم.
والشُّهداء رمزٌ للأمانة والتَّضحية والجرأة والتكرُّس لله وإحقاق الحقّ وبناء أُسس العدالة، ليَكونوا منارةً مُضيئةً لامعةً للأجيال اللاّحقة.
لقد طَوَّب المسيحُ يسوعُ الشَّهادة والشُّهداء بقوله: “طوبى للمضطَّهدين من أجل البِرّ، لأنّ لهم ملكوت السماوات. طوباكم إذا اضطَّهدوكم وعَيًّروكم وقالوا عليكم كلَّ كلمة سوءٍ من أجلي… افرحوا وابتهجوا لأنّ أَجركم عظيمٌ في السماوات! لأنّه هكذا اضطَّهدوا الأنبياء من قَبلكم!” (متى 5 / 10 – 12).
إنّ هذا الوعد الذي فاه به الربُّ، يُقدِّم للمؤمن به عزاءً وبَلسمًا لجراح الذين يُضطَّهدون لأجل وفائهم لله ولتعاليمه وحِفظ وصاياه؛ لا سيّما في مواجهتهم للاضطرابات والقلائل والمِحَن وعاديات الزمن وأمام جور الجائرين وظُلم الظالمين.
هذا ما يؤكِّد عليه المخلِّصُ يسوع المسيح بقوله في مكانٍ آخر: “إن كان العالمُ يُبغضكم فاعلموا أنّه أَبغضني قَبلكم. لو كُنتم من العالم، لكان العالمُ يُحبُّ خاصّته. لكن، إذ إنّكم لستُم من العالم بل أنا اخترتكم من العالم، لذلك يُبغضكم العالمُ. أُذكروا الكلام الذي قُلته لكم: ليس عبدٌ أفضل من سيّده، فإن كانوا اضطَّهدوني، فسوف يضطَّهدونكم أنتم أيضًا!” (يوحنّا 15 / 18 – 20)
لقد حضّر الفادي الإلهي تلاميذه للمرحلة الآتية، مُدرِكًا أنّهم إن أرادوا السَّير خلفه على دروبه، فلا بُدّ لهم- لتلمُّس خُطاه – من احتمال أَصناف الشَّدائد والضيقات.
هذا التعليم إنّما يُسلِّطُ النُّور على الرابط الوثيق العُرى بين المعلّم والتلميذ.
الحقيقة أنّ الاستشهاد يُضيءُ بأنواره البهيَّة صفحات الكتاب المقدّس بعهدَيه القديمِ والجديد، لأنَّ السواد الكبير من الأنبياء لقي مصرعه دفاعًا عن الحقيقة ولنا في الإنجيل شهادةُ الشمّاس استفانُس (أع 7: 54 – 60) الذي رجمه اليهودُ حتّى الموت ومات غافرًا لأعدائه، وشهادة القدّيس يوحنّا المعمدان السابق والصَّابغ الذي لَقِي حَتفه لأنّه وَقفَ في وجه السُّلطة الزمنيّة الظَّالمة والمتعدّية الشَّريعة والنَّاموس والمتجاوزة على حدود الأخلاق والقِيم الأُسَريّة والشَّرائع الإجتماعيَّة… ناهيك من أمثلة كثيرةٍ كمَثل القدّيس الشَّهيد إغناطيوس الأنطاكي والقدّيس الشَّهيد بوليكاربوس أسقف سميرنا والقدّيس الشهيد يوستينوس الفيلسوف… جميعهم تمثّلوا بالمعلِّم الذي عُلِّق على خشبة لأجل فداء الكَون والبشريَّة الخاطئة.
أيّها الإخوة،
لقد رأت الكنيسة في الإستشهاد مشاركةً فعليّةً في آلام المسيح، إذ يتبع الشُّهداء المسيح خطوةً خطوةً على دروب تضحيته الكبرى حينما جاد بنفسه عن أحبّائه. لذلك يقولُ بولس الرسول: “إذا كُنّا أبناءً فنحن ورثةٌ أيضًا لله ووَرثةٌ مع المسيح، فإن تألّمنا معه فإنّنا نَتمجَّد معه أيضاً!” (روما 8: 17).
هكذا يرى الإناءُ المُصطفى بولسُ الرسول أنّ الآلام تربطنا بالمسيح وتجعلنا بالشَّهادة والإستشهاد وَرثةً للميراث الآتي. فالآلامُ ليست إذًا هدفًا بحدّ ذاته، بل هي طريقٌ يُفضي بنا إلى القيامة وإلى نَوال أَكِلَّة المجد والظَّفر في الملكوت المُعَدِّ لنا قبَلَ إنشاءِ العالم.
أيّها الحفلُ الكريمُ،
الإستشهادُ ليسَ التعبيرَ الأفضلَ عن الإيمان فحسبُ، بل هو مواجهةٌ للظُّلم وتَصدٍّ لانعدام العدالة ولكافة أنواع الاستبداد والتسلُّط والعُنصريّة ومحَو الآخر وتهميش الحريّات وعدم قبول الإختلاف.
إنّ أحداث كربلاء الموجعة التي تَشهدُ على استشهاد الإمام الحُسَين حفيد الرَّسولِ محمَّد ورفقائه، على يد الخليفة الأُمويّ يزيد؛ لهو تعبيرٌ صارخٌ عن مسؤوليَّة المؤمن الحقّ في نِضاله ومحاولته مُناهَضة الظُّلم ببأسٍ وبسالةٍ.
مجزرةُ كربلاء الحزينة مفترقٌ تاريخيٌّ هامٌّ في مسيرة الإسلام والمسلمين، لا بل في مسيرة كلّ الشعوب التي تَتُوق إلى إحقاقِ السَّلام على أُسس العدالة ونُصَرة الضعيف.
إذ نحزن في عاشوراء، فإنَّ حزننا ليس استذكارًا لحوادث تاريخيّة أَليمةٍ فحسبُ، بل هو أَسفٌ على ما نَعيشه اليوم أيضًا من تَقَهقُرٍ للقِيَم والمبادئ الأخلاقيَّة والإنسانيَّة ومن انتشارٍ واسعٍ لشَريعةِ الغاب وسَطوة الظَّالم على المظلوم، لا في ربوعنا العربيّة فقط، بل في أرجاء المسكونة طُرًّا حيث يُعتَقَد أنّها تدعو إلى رَفعِ لواء حُرّية الإنسان وتحَصين حقوق المرأة والطفل المُعوَّق واللآجئ والغريب…!
استذكارُ أحداث كربلاء مناسبةٌ لتأوين الدعوة إلى الجهاد في سبيل الحقّ، لضَحد المظالم والتصدّي للسياسات السوداء والشَّيطانيّة، التي تُعيث في الأرض فسادًا وتحاول تَضليل الكثيرين وتَفكيك الأُسرة ونَشر التعاليم المنحرفِة وتَشويه الحقائق وتَبديل الأُسس التي يَتعارفُ على صحّتها القاصي والداني لا سيّما على المستوى الأدبي والأخلاقي.
إنّ ما يحدُثُ اليوم في غزّة من إبادةٍ للشعب الفلسطيني الحبيب، لهو تَعدٍّ صارخ على كرامة الحياة البشريّة بكافة أشكالها وتخطّ لكافة الشَّرائع الدُّوليّة والدساتير العالميَّة، فيما العالمُ أجمع والوطن العربيّ أيضًا… في صَمتٍ مريب!
لقد أطلّ موسمُ العاشر من مُحرَّم هذا العام، على ربوع الجنوب اللبناني الحبيب والشريط الحدودي على وجه الخصوص ، بحرٍّ تحرّق لوافِحُهُ، فهصَر الأدمغة وبثّ في الصدور أَوارَ الأحقادٍ المشحونةِ بالسلاح وآلآتِ الموت والوغى والعدوان الغاشم، الذي ترك القُرى والبلداتِ الخلاّبة المنحوتةَ في جبلنا الأشمِّ … أثراً بعد عين، فتفرّق الأهلون ونَزَح الكثيرون وماتَ أعدادٌ من الشيوح والنساء والأطفال يَندى الجبين لذكراهم.
إنّ ما يشهده الجنوب اللبنانيّ أيُّها المباركون، لهو مشاركةٌ حقّةٌ في نضال الحُسين، لأنها تحملُ لواء قضيّةٍ إنسانيّةٍ دخلت التاريخ من بابه الواسع ولم نجد لها حلاًّ مُرضيّاً إلى يومنا هذا، إذ قد غُشيت أبصارُ قادة العالم عن رؤية الحقيقة وجزعوا من القوى السياسيّة العُظمى علّها تُهدِّد مصالحهم الضيّقة … فصَمّوا آذانهم عن صوت الحقّ وتجاذبتهم هواجسُ الباطل البائدة. مَقتلُ الحُسَين دعوةٌ مُدويّةٌ في صحراء ضمائر القَادة والشُّعوب والأُمم، للنُّهوض بمجتمعٍ دوليٍّ لا ازدواجيّة ولا مُراءاة في مواقفه، دعوةٌ لرفعِ مداميك الخير بما فيه من نهَي عن الباطل وأمرٍ بالمعروف وسعيٍ إلى بناء حضارة المحبّة والمصالحة والسلام.
مَقتلُ الحُسَين دعوةٌ للتَّصدّي لكُلّ ما من شأنه أن يمنع انتخاب رئيسٍ جديدٍ للجمهوريّة اللبنانيَّة وأن يُعيق محاولة الكثيرين الحميدة لوضع حَدٍّ لتدابير الدولة الإصلاحيّة في ميادين شتّى.
مقتلُ الحُسَين دعوةٌ لإعادة النَّظر بما خَلَّفَته يدُ الإجرام في شرقنا العزيز… وبجدوى دوران الحرب في غير صُقعٍ من المعمورة.
ألا استجاب اللهُ دُعاءنا وعَظَّم أجوركم وشكر مساعيكم وأجزل ثوابكم في الدّنيا والآخرة وجعلنا وإيّاكم من البرَرة المختارين. آمين.