مسيحيو غزّة: أرقام مخيفة… حوّلتهم “هنودًا حمرًا”!

في أحد خطاباته أمام الجمعية العمومية للأمم المتّحدة، وجّه البابا فرنسيس إنتقادًا إلى القوى الدولية، مشيرًا إلى أنّ «أعداد ضحايا الحروب لا تهزّها بقدر ما يُحرّكها هبوط أرقام البورصة». وبات الرأي العام العالمي والمنظّمات الإنسانية أشبه بعدّاد لتسجيل بيانات وحواصل الموت من جهة، وحفظ الأماكن المستهدفة، لا سيّما المستشفيات والمدارس ودور العبادة في سجلّات الإستنكار من جهة أخرى.
لا معايير أخلاقية في قوانين الحرب، فتسحق وتُدمّر كلّ شيء وتدفن كل ما تحتها من حجر وبشر. لكنها في المقابل، تُبرز بالدماء والمعاناة والمآسي ملفّات إنسانية كانت تحت ركام التهميش. هذا ما حصل مع العدوان الإسرائيلي على غزّة. إذ سلّط استهداف المشفى الأهلي العربي المعمداني التابع للكنيسة الأسقفية الأنغليكانية ومحيط كنيسة القديس برفيريوس التابعة للكنيسة الأرثوذكسية التي تُعدّ واحدة من أقدم ثلاث كنائس في العالم بعد كنيستي أورشليم وصور، الضوء على الواقع المسيحيّ في القطاع: أعدادهم، دورهم ومصيرهم.
أرقام تُهدّد بالإنقراض
يعود وجود المسيحيين في فلسطين إلى الزّمن الميلادي الأول مع انطلاق البشارة المسيحية في مهدها إلى جميع الأمم. وأسست كنيستها الأولى في غزّة حوالى عام 250م. ثمّ أخذت تنمو وتتوسّع مع القدّيس برفيريوس (الذي تحمل الكنيسة المُستهدفة إسمه ولا يزال قبره فيها حتّى اليوم)، في القرن الرابع، حتّى أطلق الفيلسوف المسيحي إينيس من غزّة على مسقط رأسه: «أثينة آسيا». أصابهم ما أصاب أهل الشرق مع توالي الإحتلالات والغزوات والفتوحات على مشاربها، شرقًا وغربًا.
تقلّص حضورهم حتى باتوا في هوامش التاريخ. غُرباء في مواطنهم الأصلية. أقلية تدفع أثمانًا كثيرة. ومع النكبة الفلسطينية الأولى سنة 1948، ثمّ الإحتلال الإسرائيلي للضفّة الغربية والقدس وغزّة، انتكست أعدادهم إلى ما دون الـ35%. واليوم، تُشير بعض التقديرات إلى أنّ عدد المسيحيين في الضفّة الغربيّة المحتلة يبلغ نحو 50 ألفًا، يتوزعون على مدن القدس الشرقية، وبيت لحم وبيت جالا وبيت ساحور، ورام الله، وعلى بلدات وقرى بيرزيت، والطيبة، وجفنا والزبابدة، بينما يبلغ عدد المسيحيين في القطاع نحو 1200 (وفق المركز الفلسطيني للدراسات).
«ملائكة غزّة»
«لم يعد هناك سوى أقل من ألف مسيحي في غزّة»، هذا ما لفت إليه مدير المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن الأب رفعت بدر لـ«نداء الوطن». الخوف من أن تقضي الحرب الدائرة على آخر وجود لهم. فالغارة الإسرائيلية الأخيرة على مباني الكنيسة أدت إلى استشهاد عدد منهم. احتمى المسيحيون والمسلمون في كنيسة العائلة المقدّسة للاتين والكنيسة الأرثوذكسية، اللتين تقعان في المدينة القديمة وسط غزّة، حيث يتركّز الوجود المسيحي هناك، ومع بداية العدوان، توزّع المسيحيون وفق بدر بين الكنيستين للإحتماء في كنفهما.
أمّا التواصل معهم، فيشير بدر إلى أنّه «مرهون بالتيّار الكهربائي لشحن هواتفهم الخلوية». تضمّ كنيسة اللاتين، راهبات مرسلات المحبة للقديسة تيريزا أو كما يسمّونهنّ «ملائكة غزّة»، فهنّ نعمة كبيرة للقطاع والمجتمع الفلسطيني ولكل المسيحيين والمسلمين. وصلن إلى غزّة قبل خمسين عامًا (شباط 1973). ويُدرن ملجأ للمسنين والمرضى ويهتمّون بمساعدة الفقراء والذين فقدوا منازلهم وممتلكاتهم.
في غزّة أيضًا راهبات الوردية المقدّسة، القيّمات على أكبر مدارس القطاع الخاصّة في حيّ تلّ الهوى (وسط المدينة)، حيث كانت تستقبل ما يقارب الـ2000 طالب، معظمهم من الغزّاويين المسلمين، مقابل 180 تلميذًا مسيحيًّا. يقدّمن خدمتهن من دون تفرقة. صحيح أن وجودهنّ العددي ضئيل جدًّا، لكن حضورهن ودورهنّ الثقافي والإجتماعي والإنساني، يتخطّى واقعهنّ الضعيف. وأوضح الأب بدر أنه «عندما تلقّت الكنائس إنذارات بالإخلاء، حالت الظروف والإمكانيات دون ذلك. إلى أين سيتوجّهون؟ وكيف سيتمكنون من نقل المرضى والمسنّين؟».
علاقتهم مع «حماس»
أمّا في العلاقة مع حركة «حماس»، فأشار بدر إلى أنّ نيافة البطريرك لرعية اللاتين سابقاً ميشال صبّاح كان قد لعب دوراً مهمّاً في محاولة توحيد الصفّ الفلسطيني، لا سيما بين حركتي «حماس» و«فتح». وقد التقى أكثر من مرّة في غزّة زعيم ومؤسّس «حماس» الشيخ أحمد ياسين الذي اغتيل من قبل إسرائيل عام 2004، لتعزيز التقارب بين الغزّاويين من مسلمين ومسيحيّين.
كما أن الأب مانويل مسلّم (راعي كنيسة اللاتين في غزّة سابقًا) قد خدم لمدّة 20 عامًا ونسج وفق تحديد وتشديد الأب بدر «علاقات إنسانيّة» مع حماس. تجدر الإشارة إلى أن مسلّم (85 عامًا)، قد دعا قبل أسبوع في رسالة مصوّرة، الفلسطينيين في غزة «للصمود على كل شبر من الأرض»، قائلاً إن «قصفوا منازلكم فاحذروا أن يقصفوا إرادتكم وشجاعتكم. إن رحل بيتكم بالهدم فلا ترحلوا أنتم، اليوم يوم التحرير وقهر الغزاة». أضاف: «إن رحلت أنت فعودتك ستكون شبه مستحيلة… إن حيينا أو متنا فللرب والقدس وفلسطين وشعبنا نموت أو نحيا».
في المقابل، تشير مصادر كنسية أخرى إلى أن «تقلّص الحضور المسيحي في غزّة تتحمّل «حماس» مسؤوليته أيضًا، فالحركة التي سيطرت على القطاع قد أرست حكمًا إسلاميًّا، وتعرّض المسيحيون في بعض الأوقات لمضايقات، خصوصًا مع ظهور بعض الجماعات السلفية داخل القطاع، واستهدافها مؤسسات مسيحية بالحرق أو التفجير عامي 2007 و2009. كما عانوا من تهميش وتمييز في توزيع فرص العمل بشكل عادل. فالضغط النفسي والواقع الإقتصادي والعدوان الإسرائيلي ساهمت في هجرة المسيحيين». أما في الضفة الغربية، فيقول المصدر إنّ «واقعهم أحسن حالاً، ولم يعانوا مضايقات أو تعدّيات كثيرة، لا سيما أن «فتح» كانت تضمّ قيادات مسيحية سياسية وعسكرية، ما عكس تعايشًا أفضل بين مكوّنات الشعب الفلسطيني في الضفّة».
المطران كفوري
لم يتفاجأ متروبوليت صور وصيدا ومرجعيون وراشيا الوادي وتوابعها للروم الأرثوذكس المطران الياس كفوري، من الإجرام الإسرائيلي بحق المدنيين واستهداف الكنائس والمدارس والمستشفيات والأماكن العامّة. واعتبر أن دماء المسيحيين امتزجت مع إخوانهم المسلمين. فتعانق مصيرهم وتوحّدت معاناتهم. وشدّد على أن «دعوة المسيحيين هي الشهادة للحقّ والتضحية في سبيل أوطانهم مهما كانت الظروف والأثمان».
ورأى كفوري الذي يتابع معاناة الغزّاويين المحاصرين تحت القصف والنيران، من خلال أبرشية عمان (الأردن)، أن «الصهاينة» (لن نقول اليهود)، لديهم عقدة تاريخية تجاه المسيحيين تحديدًا، فيبغضونهم عقائديًّا ودينيًّا، لذلك لا نستبعد قصفهم الكنائس ودور العبادة، فمن صلب المسيح لن يتوانى عن فعل أي شيء آخر». ولفت إلى أن تهديم غزّة هو تدمير لإرث مسيحيّ متجذّر في تاريخ الكنيسة. فخرج منها العديد من آباء الكنيسة في الأزمة المسيحية الأولى، كبرفيريوس ودوروثيوس وسيلفانوس وغيرهم. حتّى أن رسول الأمم القديس بولس قد زارها، وبشّر فيها تلميذه فيلبّس».
إستئصال حضورهم
في الخلاصة، يتخوّف المسيحيون من أن يؤدّي العدوان على غزة، إلى استئصال آخر حضور لهم في القطاع. فالمسار التاريخي للصراع الإسرائيلي–العربي / الإسرائيلي–الفلسطيني / الإسرائيلي-الحمساوي، أرخى بظلاله ونتائجه المأسوية على الفلسطينيين عمومًا والمسيحيين خصوصًا، فبعد كل حرب كانت أعدادهم تتراجع وانتشارهم يتقلّص.
من يرحل لا يعود، ومن يعود ينتظر فرصة الخروج مجدّدًا. لا أرضية ثابتة للبقاء والإستقرار طالما أن القضية الفلسطينية لم تُحلّ، ولم يُعط الشعب الفلسطيني حقّه بإقامة دولته وتطبيق مقررّات قمّة بيروت العربية للسلام (2002).