فيما يلي مداخلة المونسنيور خالد عكشة، أمين سر لجنة العلاقات الدينية مع المسلمين في دائرة الحوار بين الأديان بحاضرة الفاتيكان، خلال المنتدى الإسلامي العالمي العشرين الذي عقد في العاصمة الروسيّة موسكو من 20 إلى 22 أيلول 2024.
لا يدركُ أهوالَ الحربِ إلاّ مَن اختبرَ بعضًا من ويلاتها٬ كفِقدانِ عزيزٍ٬ أو الإصابةِ بإعاقة٬ أو دمارِ منزلٍ ضحّى في سبيلِ بنائِه سنواتٍ٬ أو الاضطرارِ إلى نزوحٍ داخل الوطن أو لجوءٍ إلى بلدٍ آخر. وأعظمُ الأهوالِ هو بالطبعِ أنْ يفقِدَ الانسان حياتَه بشكلٍ مِنَ الأشكال. ومِن هُنا ضرورةُ الحِفاظِ على السلامِ وتعزيزِه إنْ وُجِد، وإعادةُ بِنائه إذا فُقِد.
الإخوةُ والأخواتُ الأحبَّاء،
لمّا كانت ملايينٌ من البشر في عشراتِ من الدولِ تعيشُ اليومَ حروبًا ونزاعاتٍ بدرجاتٍ وأشكالٍ مختلفة٬ وبنتائجَ مأساويةٍ هي أيضًا مختلفةٌ في حِدّتها ونتائِجها٬ فإني أحيّي المنتدى الإسلاميَّ العالمي ومجلسَ مفتيي روسيا لمبادرتِهم بعقدِ هذا الملتقى الهام في ظروفٍ بالغةِ الحساسيةِ والخطورة.
ويسرّني أن أكونَ بينكم مُمثِّلا عن دائرةِ الحوارِ بين الأديانِ في الفاتيكان٬ وأنْ انقلَ إليكم تحياتِ رئيسِها٬ نيافةِ الكاردينال ميخيل أيوسو. كما يُسعدني أن يشاركَنا هذا اللقاءَ الخيّرَ السفيرُ البابويُّ لدى الاتحادِ الروسي٬ سيادةُ رئيسِ الأساقفةِ جوفاني دانييلّو.
استلهمُ مداخلتي من الرسالةِ العامّةِ للبابا يوحنا الثالث والعشرين “السلامُ على الأرض”، التي وجّهها في الحادي عشر من شهرِ نيسان عامَ ٬1963 في ظروفٍ شبيهةٍ إلى حَدٍّ كبيرٍ بالتي نعيشُها اليومَ٬ أعني توتراتٍ دَوليةٍ شديدةٍ وضعتِ البشريةَ على شفيرِ حربٍ مدمِّرة٬ شاءتِ العنايةُ الإلهية أن تحمي البشريةَ من شرورِها. ومِن اللافتِ أنّ قداسَته لم يخاطبْ من خلالِ رسالتِه أتباعَ الكنيسةِ الكاثوليكيةِ فَحسبْ٬ بلِ “الناسَ ذوي الإرادة الحسنة جميعاً” كذلك.
يرتكزُ السلام٬ُ على يرى الحبرُ الأعظم٬ على أربعةِ أركانٍ هي: الحقيقةُ والعدلُ والمحبّةُ والحريّة.
1) الحقيقة
يؤكّدُ البابا أنَّه “لا يَنتظمُ مجتمعٌ ولا تُحترمُ فيه الشخصيةُ الإنسانية، ولا يكونُ مصدرَ خيرٍ، ما لم يرتكزْ على الحقيقة” (رقم 18). ويستشهدُ بقولِ بولسُ الرسول: “ولذلك كُفّوا عَنِ الكذِب وليَصْدُق كلٌ منكم قريبَه ، فإنّنَا أعضاءٌ بعضُنا لبعضٍ” (أفسس 4 ،25). ويخلُص قداستُه إلى أنَّ “هذا يفرِض أنّ الحقوقَ والواجباتِ المتبادَلة يُعترفُ بها في إخلاصٍ”.
2) العدل
يُصرِّح البابا القديس بأنَّ “هذا المجتمعَ ينبغي أيضاً أن يتأسّسَ على العدلِ، أي على الاحترامِ الفعليّ لهذه الحقوقِ وعلى القيامِ المُخلِصِ بهذه الواجبات” (رقم 18). ونعي جميعُنا الأهميةَ الكبيرةَ التي يوليها الإسلامُ للعدل٬ مقدِّما إيّاه على الإحسانِ وعلى إيتاءِ ذي القُربى (راجع سورة النحل 90).
3) المحبة
يؤكد البابا: “كما أنّه يجِبُ أن يُحيا بالمحبّة، أي بهذهِ العاطفةِ التي تجعلُ كلَّ واحدٍ يحِسُّ حاجاتِ القريبِ وكأنَّها حاجاتُه هو، ويشرِكُه بخيراتِه، وتدفعُ إلى تبادلٍ يتزايدُ معَ الزمنِ في مَيدانِ القيَمِ الروحيّة” (رقم 18). والمحبّةُ، كما هو معلومٌ٬ هي وصيةُ السيدِ المسيحِ لأتباعِه (راجع الانجيل بحسب يوحنا ٬15 12) وهي موجزُ الشريعةِ بِحَسبِ القديسِ بولس٬ لإنَّها لا تُنزِلُ الضّررَ بالقريب (راجع الرسالة إلى أهل رومة ٬13 10).
4) الحريّة
“هذا المجتمعُ أخيراً – والكلامُ للحبرِ الأعظم – يجبُ أن يتحقَّقَ في الحريّةِ، أي بالطّريقةِ التي تليقُ بكائناتٍ عاقلةِ خُلقَتْ لتتحمّلَ مسؤولياتِ أعمالِها” (رقم 18). وفي غيابِ الحريّةِ ضررٌ كبيرٌ على الفردِ وعلى المجتمعِ وتَعدٍ سافرٍ على إرادةِ الخالقِ الذي أنعمَ على بني البشرِ دونَ سائرِ الخلائقِ بهذهِ العطيّةِ السامية٬ جاعًلا مِنَ الإنسانِ خليقةً حرّةً ومسؤولةً في آن.
ويركّز قداسَتُه على أنَّ” الحياةَ الاجتماعيةَ،…، يجبُ أن يُنظرَ إليها أولاً مِن حيثُ هي واقعٌ روحي. لأنَّها تَبادُلُ معرفةٍ في ضُوءِ الحقيقة، وتمرُّسٌ بحقٍ وقيامٌ بواجبٍ، وتنافسٌ في السعي إلى الخيرِ الأدبيّ، واشتراكٌ في التنعّمِ النبيلِ بالجمالِ في كلَّ مظاهرِه المشروعة، واستعدادٌ دائمٌ لأنْ نُشرِكَ الغيرَ بأحسنَ ما فينا، ونزعةٌ مٌشترَكةٌ إلى اغتناءٍ روحيِّ ثابت” (رقم 19).
تلكَ هي القيمُ التي يجب أن تُحيي وتوجِّه كلَّ شيء: الحياةَ الثقافيةَ والاقتصاديةَ، والتنظيمَ الاجتماعي في كلِّ مظاهرِه وتطوراتِه الدائمةِ، والحركاتِ والأنظمةِ السياسية (راجع رقم 19).
ويسرُّني أن أُطلعَكم على أنَّ هذه الرسالةَ العامَّةَ كانت موضوعًا لمؤتمرٍ معَ إحدى المؤسساتِ الإسلاميةِ التي تربِط دائرتَنا بها علاقاتٌ مؤسسيةٌ منتظَمة٬ وهي كثيرةٌ بفضل الله وتعاونِنا المشترَك٬ ومنها المعهدُ الملكي للدراسات الدينية (عمّان٬ الأردن)٬ الرابطةُ المحمدية للعلماء وأكاديميةُ المملكة المغربية (الرِّباط٬ المغرب) ٬ رابطةُ العالم الإسلاميّ (مكة)٬ الأوقافُ العراقية٬ (بغداد)٬ اللجنةُ الفِلَسطينية لحوارِ الأديان (رام الله)٬ رابطةُ الثقافةِ والعلاقاتِ الإسلامیّة (طهران٬ إيران) ٬ مجلسُ حكماء المسلمين (أبو ظبي)٬ مركزُ نورِ سلطان نزارباييف لتنميةِ الحوارِ بين الأديان والحضارات٬ المنبثقِ عن مؤتمرِ زعماءِ الأديانِ العالميةِ والتقليديةِ (أستانا٬ كازاخستان). ولا يغيبنَّ عَنّا حضورُ الدائرةِ في مَساحاتٍ أُخرى للحوار٬ كمَركزٍ الملكِ عبدِ الله بنِ عبدِ العزيز للحوارِ بين أتباعِ الدياناتِ والثقافاتِ٬ المعروفِ ب “الكايسيد” ( لشبونة٬ البرتغال) ٬ واللجنةِ العليا للأخوّةِ الإنسانيةِ (أبو ظبي) ٬ ومركَزِ الملكِ حَمَد العالمي للتعايشِ السلميّ (المنامة٬ البحرين) وغيرِها.
ولا يفوتُني أن أذكُر أنّ المبادرةَ الأقدمَ والأشملَ والأهم لدائرتي في عَلاقتِها معَ المسلمين هي الرسالةُ التي نوجهها إليهم بمناسبةِ شهرِ رمضانَ وعيدِ الفطر منذُ عامِ 1967. وقد اختارَ قداسةُ البابا فرنسيس أنْ يوقِّعَ هذه الرسالةَ بنَفسِه في السنةِ الأولى لحبريتّه عامَ 2013.
تجمعُنا اليومَ٬ بالإضافةِ إلى موضوعِ بناءِ السلامِ عن طريقِ الحوار٬ مناسباتٌ أخرى تبعثُ الرجاءَ والفرحَ في قلوبِنا٬ أخصُّ مِنها بالذكرِ الذكرى العشرين لتأسيسِ المنتدى الإسلاميّ الدَّولي٬ والذكرى الثلاثين لتأسيسِ مجلسِ مسلميّ الاتحادِ الروسيّ. وكمْ هي مميَّزةٌ الذكرى الأربعون للخدمةِ الدينيةِ لفضيلةِ الشيخِ راوي عينِ الدِّين٬ متمنيًا له طولَ العمرِ والسكينةَ واستمرارَ العطاء٬ محييًا كذلكِ الاستاذَ الدكتور دامير مُحيي الدّين٬ الذي وجّهَ إليّ الدعوةَ معَ فضيلَتِه لحضور هذا المؤتمر.
أسألُ اللهَ تعالى أن يرافقَنا بدوامِ رضاه٬ وأنْ يوفِّقَنا في ما اجتمعنا مِن أجْلِه. ولكمْ مني السلامُ ومِنَ اللهِ الرحمةُ والبرَكات.