كلمة المونسنيور عبده أبو كسم في المؤتمر الدولي: *من الحرية الدينية إلى المسؤولية الدينية: بناء السلام في عالم متصارع*

جهود صنع السلام في لبنان – تجربة مستدامة
عرف لبنان-كما عرفت منطقة الشرق الأوسط- تحولات ومتغيرات جيوسياسية ولّدت توترات وحروباً في محطات عديدة من تاريخه. واتخذت هذه المحطات طابعاً مختلفاً عن سواها في سائر بلدان المنطقة لكون، لبنان بلد متعدّد الطوائف والمذاهب، التي تترك آثارها على نسيجه الاجتماعي وعلى الحياة الوطنية فيه، فالأحزاب العقائدية تتلوّن بألوان طائفية ومذهبية، وغالباً ما تتحوّل” حارسة” لما تراه حقوقاً لطوائفها، فتستنهض جمهورها من جهة وتواجه به الأطراف السياسية من جهة أخرى. وبالرغم من أن الحروب المتوالية على لبنان أخذت البعد الديني في بعض مناحيها الظاهرة إلا أنها كانت حروباً ملازمة للصراعات الدولية المتصلة ببسط الهيمنة السياسية والاقتصادية على المنطقة، ولبنان الحلقة الأضعف فيها، والأرض الخصبة لتظهير هذه الصراعات بسبب طبيعة تكوّنه الاجتماعي القائم بسبع عشرة طائفة مسيحية وإسلامية، وبسبب نظامه السياسي المحكوم بالتوافق بين هذه المكوّنات. وبالرغم من لجوء القوى السياسية المتناحرة، نتيجة الصراعات الدولية المذكورة والتدخلات الخارجية، الى عباءة الطائفة والدين لتحصين مواقعها وتحسين مكتسباتها، فان الطوائف بقياداتها ومرجعياتها تمكنت من المحافظة على تمايزها المبني على رسالتها ودعوتها السماوية. لقد بلغ هذا التمايز حدود الاختلاف التام، في بعض الأحيان، مع القوى السياسية، وبدا تمثيل هذه القوى لطوائفها ومذاهبها تمثيلاً صوريّاً فقط. والأمثلة على هذا الاختلاف عديدة لدى مختلف الطوائف في لبنان. لقد شكّل هذا الاختلاف عناصر قدرة المرجعيات الدينية على توليد مبادرات عمليّة أسهمت في تعزيز السلام وتعميق المصالحة ونشر ثقافة الحوار واللقاء بين مختلف المكوّنات اللبنانية، التي دفعت أثماناً باهظة نتيجة صراعات وحروب داخلية لم تكن سوى الوجه الآخر للحروب والصراعات الخارجية. وبقدر ما كانت الصراعات والحروب تشتدّ على لبنان واللبنانيين بقدر ما كانت المرجعيات الدينية تتشدّد في أمانتها لدعوتها ولرسالتها القائمة على روح المصالحة والسلام. ولقد بلغ دور هذه المرجعيات أن اختصرت ارادات بناء السلام، وباتت بوّابة أمل الخلاص، والصوت المعبّر عن فئات المجتمع المهمّشة الدور، التي تشكل الخميرة في عجين بناء المصالحة المستدامة. وبهذا بدا جليّاً أن المجتمع اللبناني يحتضن بناة للسلام يتوزعون بين قيادات دينية وبين مؤمنين مخلصين لله ولوطنهم لبنان. لقد تمكّن بناة السلام هؤلاء من الاسهام العملي في تحصيل تسويات النزاعات والحروب” اللبنانية”، ولم يكن لهذه التسويات أن تنجح لولا ذلك الإسهام. وكثيرة هي الأمثلة على هذه الحقيقة التاريخية نورد منها في هذه المقالة دور القيادات الدينية المسيحية الإسلامية في تحصين تسوية الحرب اللبنانية التي امتدت من أواسط سبعينات القرن الماضي ( 1975) حتى سنة 1990، باتفاق الطائف. ان هذا الدور هو امتداد لأدوار مماثلة عرفها لبنان في محطات سابقة ( 1840- 1860- 1920- 1943-1958) كما هو حلقة في سلسلة توالت لاحقاً في حروب ونزاعات 2006 وحراك ثورة 2019 وحرب 2024. لقد كانت لبناة السلام، من قيادات دينية ومؤمنين، أدوار معنوية مؤثرة في انجاز تسويات هذه النزاعات. وآخر هذه الأدوار كان ما اضطلعت به المرجعيات الدينية المسيحية والإسلامية في إطار القمة الروحية في الترشيد على تسوية حرب صيف 2024، التي اتصلت بالحرب الإسرائيلية الفلسطينية في قطاع غزة.
تنطلق المرجعيات الدينية في سعيها الدائم الى السلام من رسالتها أولاً، ومن خبراتها المعيوشة ثانياً . ان رسالة الأديان، في هذا المجال، تحضّ على الحوار والعمل المشترك بين أتباعها، على اختلافهم، لأنها ترى في ذلك الأساس المتين لقيام مجتمع أخوّي متصالح مسالم؛ كما تحضّ على احترام حقوق الانسان الأساسية كشرط جوهري لقيام عالم أكثر انسانية تسوده السلام والعدالة والحرية. أما الخبرات المعيوشة فقد ميّزت الصيغة اللبنانية القائمة على العيش الواحد المشترك الإسلامي المسيحي، وطبعتها بفرادة قادت البابا القديس يوحنا بولس الثاني الى إطلاق ” تسمية ” لبنان أكثر من وطن، إنه رسالة حضارية للعالم أجمع “. يقول البطريرك الكردينال بشارة الراعي ” أن شائبتين تشوبان صيغة لبنان الرسالة، الأولى مسيحية ناجمة عن تزايد شعور المسيحيين بأنهم باتوا أقليّة في عالم يتراجع فيه الشعور بالانتماء القومي لمصالحة الانتماء الديني، والثانية إسلامية ناجمة عن انحسار مسافة التمييز بين الغرب والمسيحية لدى المسلمين”… إلا أن النتاج الثقافي المتنوّع لمفكّري مختلف الأديان والطوائف في لبنان يشكل أحد حصون الوحدة حيث يتجسد السلام. ان هذه القاعدة ثابتة تترجم بالمثل الشائع القائل ” ان الانسان عدوّ ما يجهل”، وبقدر معرفته بالآخر بقدر ما يتكمن من بناء السلام معه. من هنا كانت للمرجعيات الدينية مبادرات ثقافية رائدة تندرج في هذا السياق، الى جانب مؤسساتها التعليمية والتربوية، دعمت قيام المنتديات الثقافية جامعة النخب الفكرية المتنوعة الانتماءات الدينية والطائفية لتشكل أطراً عملية تدفع بعملية بناء السلام دوماً الى الأمام.
ويتكامل الدور الثقافي في بناء السلام مع دور الخدمة الاجتماعية من خلال مبادرات العناية الإنسانية والتنموية كمكافحة الأميّة ونشر التوعية ورعاية المرأة والأطفال وذوي الاحتياجات الخاصة والمسنين الى التدريب المهني والتنمية وخلق فرص العمل والإنتاج لتطوير الموارد المعيشية والمحافظة على الإرث الثقافي كمكوّن في الهوية وكل هذه تعزز ثقافة اللقاء الحضاري وبناء السلام، على قاعدة أن ” التنمية هي الوجه الآخر للسلام”.
تتجلى مبادرات بناء السلام على المستويات المذكورة، مستوى رسالة الأديان، ومستوى دورها الثقافي والاجتماعي، الذي يحرك طاقات المؤمنين ويوحدها في مسيرة بناء السلام وتحصينه بمقتضيات الأمن الاقتصادي الاجتماعي. بهذه الصورة تتضح جهود صنع السلام في لبنان. لقد أثبتت هذه الجهود طوال تاریخ لبنان القديم والحديث أنها الأقوى في صراعها مع “جهود ” الحروب والنزاعات، وان سيطرت هذه الأخيرة على المشهد فان الغلبة في النهاية هي لارادة السلام.
هذا ما أظهرته التجارب اللبنانية في مختلف الحقبات التاريخية، حين كانت تندلع شرارة الحرب والنزاع وما تلبث ان تنطفیء بإرادة قوية راسخة في هوية جميع اللبنانيين وفي سلوكياتهم، ارادة اللقاء والسلام. ان التدخلات الخارجية وقوى الهيمنة والسيطرة قادرة على تحجيم الارادة اللبنانية هذه لبعض من الوقت المتغيّر، لتعود بعده تلك الارادة الى البروز في” الوقت الثابت”. بهذه المعادلة باتت الحروب محطات متحوّلة متغيّرة في تاريخ لبنان وبات السلام محطة الثابت الراسخ. مما لاشك فيه إن ارادة السلام اللبنانية كانت، ولا تزال، تلتقي بإرادات خارجية مماثلة، نذكر منها، على سبيل المثال لا الحصر، اتفاق الطائف (١٩٩٠) الذي عدّل الدستور اللبناني بما يضمن الاستقرار الداخلي، ويعزّز روح الميثاق الوطني الذي ارتضاه اللبنانيون، أي المساواة في الحكم بين المسلمين والمسيحيّين على أساس المناصفة، وهذا ما يضمن الاستقرار الداخلي.
ثم كان المجمع الراعوي الخاص بلبنان، (١٩٩٥-١٩٩٧) الذي دعا اليه البابا القديس یوحنا بولس الثاني، وكانت خلاصة أعماله ارشاد رسولي ” رجاء جديد للبنان” يمكن اختصاره بكلمتين،”بناء السلام في لبنان”. لقد جاء هذا الارشاد ليتكامل مع المفهوم الذي أطلقه الامام موسى الصدر حول “الطوائف النعمة” في لبنان، ومع ما كان ينادي به مفتي الجمهورية الراحل الشيخ حسن خالد، ولا يزال خلفاؤه على نهجه. إن كل مفاهيم السلام هذه تجسدت في تلك المصالحة التاريخية التي قادها البطريرك صفير في الجبل مع الدروز سنة 2001، والتي طوت صفحة الحرب اللبنانية، واستكملت اتفاق الطائف. ثم جاءت المبادرة القطرية بعد حرب 2006، وأعادت إعمار لبنان وجنوبه، وأرست أسس السلام، وجمعت اللبنانيين على شعار “شكراً قطر”.
وأمام الأزمات المتتالية حول انتخاب رئيس الجمهورية الناتجة عن التدخلات الخارجية والخلافات الداخلية كان هناك أيضاً تدخل خارجي لحل هذه الأزمات اسهاماً في بناء السلام المستدام. ونذكر هنا اتفاق الدوحة في 21 أيار 2008 والمبادرة الخماسية 2024 – 2025 الأخيرة التي أثمرت انتظاماً متجدداً للمؤسسات الدستورية مشكّلة أساساً متيناً للسلام. نخلص لنقول أنه في مواجهة كل الحروب التي عاشها لبنان، كان هناك إرادة داخلية وخارجية لنشر السلام فيه، وكان للمرجعيات الدينية تأثير كبير في إعادة اللّحمة بين أبناء الطوائف وتعزيز فرص السلام، بتعزيز العيش المشترك وتعزيز ثقافة اللقاء. وهدم جدران التباعد وبناء جسور التواصل والتكامل.
لا يمكننا في ما نقاربه اليوم من إغفال الحديث في من تجوز تسميتهم ” ببناة السلام المجهولين”، ان هؤلاء البناة متواجدون في شرائح المجتمع اللبناني الشعبية التوّاقة دوماً الى عيش قيم الأخوّة والتضامن والتعاون في سبيل الخير العام . ان الأمثلة الواضحة حول هذا الأمر تجسدت في سلوك الشعب اللبناني بأكمله تجاه بعضه البعض سواء خلال فترات الحروب الداخلية والخارجية أو بعد انتهاء هذه الحروب. خلال الحروب الخارجية، كحرب اسرائيل الأخيرة ( صيف ٢٠٢٤) كانت بيوت اللبنانيين خارج مناطق الحرب والقتال منازل محبة واستضافة كريمة لكل من هجّرته هذه الحرب من مكان سكنه الأصلي، لقد شكلت هذه الظاهرة أبهى الصفحات المشرقة في العلاقات المسيحية الاسلامية، وأعمق ارادة صادقة للسلام، لأنها أكدت ان بناء السلام متجذر متأصل في نفوس اللبنانيين أكثر بكثير من كل أوجه الاختلاف السياسي.
ان ما جسّده الشعب اللبناني خلال الحروب الخارجية جسّده أيضاً خلال الحروب الداخلية، حين بقيت خطوط التواصل والتعاون قائمة بين أبناء مختلف المناطق والطوائف بالرغم من حواجز قوى الأمر الواقع المسلّحة المتحاربة. ولم تكن جولات الحرب لتنتهي حتى تظهر صورة لبنان الحقيقية بارادة السلام بين أبنائه، فيروحون يلتقون بحرارة الايمان بوطنهم وبصيغة عيشهم المشترك فيه، التي جعلته للعالم كله واحة لقاء وسلام، وجواباً عملياً معيوشاً على مقولة صراع الحضارات.
إن المسار التاريخي للشعب اللبناني يؤكد ان السلام هو رسالة لبنان، وان الاسهام في صنع السلام ملازم لوجود هذا ” اللبنان” ولبقائه.