في المركز الاسلامي-الثقافي مجمّع الامامين الحسنين-قاعة الزهراء- بيروت.
أصحاب السيادة والسماحة،
الآباء الكرام،
أيّها السيدات والسادة الأفاضل،
نجتمع اليوم في هذه الدارة الكريمة، رمز التلاقي والعيش معًا، لنرفع سويًا لواء المشاركة والاخوّة والسّير الحثيث الخطى على دروب القيم الدينيّة والروحيّة المشتركة، في ظلال اليوم العالمي للأخوّة الإنسانيّة الذي يرعاه الإسلام والمسيحيّة في سعيهما إلى شدّ أواصر الإلفة والتّحاب بين أبنائهما، ولاسيّما على مساحة الوطن الحبيب لبنان.
نحتفل اليوم بالسنة الخامسة لتوقيع وثيقة الأخوّة الإنسانيّة، ونتذكر هذا الحدث التاريخي الذي غيّر خارطة العلاقة بين الشرق والغرب، وغيّر خريطة العلاقة في الحوار الديني بين المسلمين والمسيحيّين.
اختيار هذا الموقع الوقور المركز الإسلامي الثقافي ، له دلالاته الكثيرة ولا شكّ، لما يمثّله من مظاهر الاعتدال والرقّي والانفتاح على الآخر المختلف والغنيّ بتنوّعه. لذلك نشكر أصحاب الدار لاستقبالهم المضياف وندعو للمقام الشريف هذا، أن يبقى منارةً يهتدي بضيائها الباحثون عن واحة سلام ومساحة تلاق انساني حقّ!
كما أنّنا كلجنة أسقفيّة للحوار المسيحي الإسلامي، أردنا أن نسير على خطى قداسة البابا فرنسيس الذي، منذ الأيام الأولى لتوليه منصبه، وضع الحوار وتحسين العلاقات الإسلامية المسيحية نصب عينيه، كإحدى أولويات بابابويته، وهو بلقائه شخصيات إسلامية من مختلف المذاهب، خلال جولاته العديدة أراد أن يبعث برسالتين، الأولى للمسلمين، ليقول لهم أنه أخوهم، يحبّهم، ويدعمهم؛ أما الثانية فتتوجه للمسيحيّين ليريهم ما يمكن للقاء محب عابر للأديان أن يكون، ومعنى أن تفتح يديك لـ”الآخر”.
وفي ظلّ الأوضاع السياسيّة والأمنيّة الصعبة والأزمة الاقتصاديّة الخانقة التي يتخبّط فيها عالمنا ولاسيّما شرقنا الأوسط وعلى وجه الخصوص لبناننا العزيز، تأتي هذه الوقفة المتمحورة حول الأخوّة الانسانيّة، لتذكّرنا بضرورة السّير معًا للمشاركة في عملية تحرير الأفئدة من معكّرات الماضي وتوجيه الأنظار الى ما يخرق ضباب التباعد ويقرّب المواقف الهادفة الى التضامن الفعّال المبنيّ على التصافي والمودّة لأجل تعزيز حضارة السلام، والنهوض بالقيم والأخلاق، ونشر مفاهيم العدالة النّصوح، وافساح مجالات الحياة للمستضعفين والمحرومين من حقوقهم الواجبة.
أيّها الأخوة الأحبّاء،
إن تعدّدية الطوائف والمذاهب في لبنان، وإن تشكّل أحيانًا موطن ضعف فيه، إلّا أنّها في الوقت عينه مرتكز قوّته وفرادته، بحيث تكون محطّات التأمل في الاخوّة الانسانيّة، وسيلةً لاغناء الخبرة الروحيّة وتغليب الايمان على التعصّب والدّين على الطائفة والمذهب، ولغة الحوار على لغة التباغض والتباعد. الحقيقة أنّ الحديث عن الاخوّة الانسانيّة، تحت مظلّة الاسلام والمسيحيّة، هو مناسبة لابراز الثراء الذي يمثّله تنوّعنا والمبنيّ على مبدأ الايمان، لأن مفهوم الايمان الذي يجمع الدينين، قد عبّر عنه كاتب الرسالة الى العبرانيّين قائلا: “وَأَمَّا الإِيمَانُ فَهُوَ الثِّقَةُ بِمَا يُرْجَى وَالإِيقَانُ بِأُمُورٍ لاَ تُرَى، فَإِنَّهُ فِي هذَا شُهِدَ لِلْقُدَمَاءِ” (العبرانيين 11 : 1-2)
ولمّا كان نداء البابا فرنسيس والإمام الأكبر أحمد الطيّب الذي وقع في 4 شباط 2019، يحمل في طيّاته أيضًا رسالةً تربويّةً، قوامها المشاركة بكافة عناصرها انطلاقًا من مبدأ التربية على الحوار والانفتاح وقبول الآخر، ولمّا كانت التربية تتوجّه الى العقل وتخاطب الذهن أيضًا، فلنا أن نقول أنّ التنشئة على الأخوّة عمليّة تبتدئ في عقول النّاس، على ما ترى منظّمة اليونسكو العالمية… ثمّ تتوجّه بعد ذلك الى القلب دون شك!
لذلك فان التربية على مبادئ القيم الدينيّة بشكل سليم، انّما هي الوسيلة الوحيدة القادرة على توجيه الايمان بالله بشكل هادف وصحيح، يمكّن صاحبه من عيش الأخوّة الانسانية وبناء هويته الروحية على المبادئ والأسس الثابتة التي قوامها السلام والمصالحة… بذلك نجد الطريقة الأنجع التي تستطيع تجنيبنا حروبًا في المستقبل، وتمكّننا من بناء مجتمع موحّد ومتضامن ذي رسالة حضاريّة وانسانيّة، غيّرت وجه العالم وعززت العلاقة بين الشرق والغرب، كما أسهمت في التقريب بين اتباع الحضارات المختلفة.
واوجه كلمة لشباب اليوم قد اتت على لسان فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر: “أقول لشباب العالم في الغرب والشرق: إن المستقبل يبتسم لكم، وعليكم أن تتسلحوا بالأخلاق وبالعلم والمعرفة، وعليكم أن تجعلوا من هذه الوثيقة دستور مبادئ لحياتكم، اجعلوا منها ضماناً لمستقبل خال من الصراع والآلام، اجعلوا منها ميثاقاً بانياً للخير هادماً للشر، اجعلوا منها نهاية للكراهية.. علموا أبناءكم هذه الوثيقة فهي امتداد لوثيقة المدينة المنورة، ولموعظة الجبل، وهي حارسة للمشتركات الإنسانية والمبادئ الأخلاقية”.
وقد شدّد البابا فرنسيس في كلمته على أرض أبو ظبي: “إنَّ الله ولكونه خالق كلِّ شيء وخالق الجميع، يريد أن نعيش كإخوة وأخوات، وأن نقيم في البيت المشترك الذي منحنا هو إياه. هنا تتأسّس الأخوّة، عند جذور بشريّتنا المشتركة، مثل دعوة ماثلة في مخطّط الله للخلق. إنها الدعوة التي تخبرنا بأننا جميعاً نملك الكرامة عينها وبأنّه لا يمكن لأحد أن يكون سيّداً للآخرين أو عبداً لهم… ليس هناك من بديل آخر: إمّا نبني المستقبل معًا وإلّا فلن يكون هناك مستقبل. لا يمكن للأديان، بشكل خاص، أن تتخلّى عن الواجب الملحّ في بناء جسور بين الشعوب والثقافات. لقد حان الوقت للأديان أن تبذل ذاتها بشكل فعّال، وبشجاعة وإقدام، ومن دون تظاهر، كي تساعد العائلة البشريّة على إنضاج القدرةِ على المصالحة، ورؤيةٍ ملؤها الرجاء، واتّخاذ مسارات سلام ملموسة”.
وقد أردف البابا في رسالته إلى آية الله العظمى السيد علي الحسيني السيستاني بمناسبة الذكرى الثانية لزيارته التاريخية للعـراق، واللقـاء الـذي جمعهم في النجـف الأشرف، “إنَّ التّعاون والصّداقة بين المؤمنين في مختلف الأديان هو أمرٌ لا غِنَى عنه، من أجل تنمية ليس فقط الاحترام المتبادل، ولكن قبل كلّ شيء الانسجام الذي يساهم في خير الإنسانيّة. لذلك، يمكن لجماعتنا لا بل يجب عليها أن تكون مكانًا متميّزًا للشراكة والوَحدة ورمزًا للعيش السّلمي معًا، نرفع فيه صلاتنا إلى خالق الجميع، من أجل مستقبل تسود فيه الوَحدة على الأرض.”
قد أعطى جواب السيد علي السيستاني على هذه الرسالة البعد الأعمق لهذا التناغم “وما سبق التأكيد عليه من الدور الأساس للإيمان بالله تعالى وبرسالاته والالتزام بالقيم الأخلاقيّة السامية في التغلب على التحدّيات الكبيرة التي تواجهها الانسانية في هذا العصر، وحاجتها الماسّة الى التزوّد بالجوانب الروحية والمعنوية السليمة، والى الحفاظ على كيان الأسرة وقيمها كما فطر الله الإنسان عليها، والى رعاية التقوى التي بها ينال الانسان الكرامة الإلهية.”
في الختامْ، أتَوَجَهُ بالشكرِ للقيّمينَ على محطةِ نورسات تيلي لومير وفريقِ العملِ لنقلِ هذا الحدثِ مباشرةً عَبرَ أثير محطتِهمْ، لوسائل الإعلامِ لتنسيقِ التغطيةِ الإعلاميةِ وحضورِهمْ بينَنَا ولكلِّ الفعالياتِ المسيحيّةِ والإسلاميّةِ الذين يشاركونَ اليومَ بإحياءِ هذا اللقاءِ، كما أخصُّ بالذكرِ أعضاءَ اللجنةِ الأسقفيّةِ للحوارِ المسيحيِّ الإسلاميّ لمثابرتِهِمْ وتواصُلِ جهودِهِمْ.
إخوتي الأحباء، باسم اللجنة الأسقفية للحوار المسيحي الإسلامي في لبنان، أجدّد شكري للمضيفين جمعية المبرّات وسماحة العلامة الشيخ علي فضل الله، أحييّ الحضور الكريم، وأسأل الله أن يلهمنا دومًا سواء السبيل لما فيه خير أوطاننا ومؤمنينا!
ألا جعل الله هذه الذكرى السنويّة محطةً للتلاقي ونبذ الأحقاد والمضيّ قدمًا في بناء حضارة المحبّة التي تسعى اليها الأديان طرًا لما فيها من تحقيق لمشيئة الخالق الذي يريد أن ينعم عبيده بعطيّة السلام لأنّها خير منّة تهطلها السماء على بني آدم. وشكرًا