تشير التقديرات إلى أن أعداد الفلسطينيين المسيحيين في الخارج تصل إلى 2.3 مليون نسمة في حين أن نسبتهم في الأراضي الفلسطينية لا تتجاوز 1 في المئة، بعد أن كانوا قبل نكبة عام 1948 يشكلون نحو 11.2 في المئة من نسبة السكان
كانت القدس عام 1947 تضم 27 ألف مسيحي إلا أنها لم تعد تحوي اليوم سوى أربعة آلاف مسيحي يشكلون أقل من 1 في المئة
رغدة عتمه – اندبندنت عربية :
داخل أسوار البلدة القديمة لمدينة القدس وعلى بُعد عشرات الأمتار من المسجد الأقصى، تقف كنيسة القيامة في قلب الحي المسيحي المعروف بـ”حارة النصارى”، كواحدة من أقدس الكنائس المسيحية، التي تحتوي على القبر المقدس (المكان الذي دُفن فيه السيد المسيح)، وعلى مقربة من ذلك المبنى العتيق، تودّع سلوى الراهب (77 سنة) آخر أحفادها الذي حسم أمره كبقية أفراد العائلة بالهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية، للخلاص من شظف العيش والهروب من شبح البطالة.
فالقدس التي ولدت فيها الراهب عام 1947 وكانت تضم 27 ألف مسيحي ولا يكاد يخلو زقاق فيها من مرور رجال الدين والراهبات على مدار الساعة، لم تعد تحوي اليوم سوى أربعة آلاف مسيحي، يتعرضون لمحنة حقيقية هي الهجرة المتفاقمة والخطيرة، التي أدت إلى التناقص الشديد في أعداد المسيحيين في المجتمع الفلسطيني. حتى أن بعض التقديرات أشارت إلى أن أعداد الفلسطينيين المسيحيين في الخارج تصل إلى 2.3 مليون نسمة في حين أن نسبتهم في الأراضي الفلسطينية لا تتجاوز 1 في المئة، بعد أن كانوا قبل نكبة عام 1948 يشكلون نحو 11.2 في المئة من نسبة السكان. وأصبح عدد المسيحيين الفلسطينيين في أستراليا أكبر منه بالقدس الشرقية، وفي الولايات المتحدة الأميركية أكبر منه برام الله.
وفقاً لمؤرخين، تسببت النكبة الفلسطينية عام 1948، ثم سيطرة إسرائيل على الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة عام 1967، في هجرة أكثر من 50 ألفاً من المسيحيين الفلسطينيين، الذين كانوا يشكلون 35 في المئة من المسيحيين الذين عاشوا في فلسطين الانتدابية، خصوصاً بعد أن خسر 50 في المئة من مسيحيي القدس منازلهم في القدس الغربية، ثم صادرت إسرائيل 30 في المئة من الأراضي التي يملكونها عام 1967. وشهدت أعوام الانتفاضة الأولى 1987 هجرة أعداد من الخريجين الجامعيين المسيحيين الذين سدت في وجههم الآفاق الاقتصادية، وعلى رغم أن الأعوام التي أعقبت التوصل إلى اتفاق أوسلو عام 1993، شهدت عودة عدد كبير من المثقفين ورجال الأعمال المسيحيين، إلا أنهم استأنفوا حركة الهجرة مع اشتداد الانتفاضة الثانية 2000.
خطر محدق
بحسب الهيئة الإسلامية-المسيحية (مستقلة)، يبلغ عدد المسيحيين في الضفة الغربية نحو 50 ألفاً، يتوزعون على مدن القدس الشرقية، وبيت لحم وبيت جالا وبيت ساحور، ورام الله، وعلى بلدات وقرى بيرزيت، والطيبة، وجفنا والزبابدة، بينما يبلغ عدد المسيحيين في قطاع غزة نحو 1000. وبحسب إحصاء أجراه مكتب الإحصاء المركزي في إسرائيل أخيراً، يعيش في إسرائيل 170 ألف مسيحي فلسطيني، يتركزون في مدينتي الناصرة وحيفا ويشكلون 1.9 في المئة من نسبة السكان.
ويرى مختصون أن انخفاض معدل المواليد بين المسيحيين لأسباب اقتصادية واجتماعية، هو من الأسباب المباشرة لانخفاض نسبة المسيحيين في الأراضي الفلسطينية، إلى جانب شعورهم بعدم جدوى البقاء فيها لانعدام الفرص الاقتصادية والتعليمية.
وبحسب “معهد القدس لأبحاث السياسات”، فإن المستوى التعليمي العالي بين المسيحيين العرب يسهل عليهم الهجرة والاندماج بين السكان الغربيين بشكل أكبر مقارنة بالمسلمين العرب. وتضم التشيلي أكبر جالية فلسطينية مسيحية في العالم، حيث تصل أعدادهم إلى 350 ألفاً وتعود أصول غالبيتهم إلى بيت جالا وبيت لحم وبيت ساحور، وينتمي غالبيتهم إلى الطبقة العليا والوسطى، وقد برز عدد منهم في السياسة والاقتصاد والثقافة. وتعتبر السلفادور وهندوراس والبرازيل وكولومبيا والأرجنتين وفنزويلا والولايات المتحدة من أكبر الدول التي تستقبل جاليات فلسطينية ذات الغالبية المسيحية.
وبيّن استطلاع للرأي أجراه “المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية” عام 2020، أن الرغبة في الهجرة بين المسيحيين الفلسطينيين تفوق بكثير نسبتها بين المسلمين الفلسطينيين، وتقول النسبة الأعظم من المسيحيين المستطلعة آراؤهم، إن سبب التفكير في الهجرة اقتصادي، فيما تقول نسب صغيرة مختلفة إنها تبحث عن فرص للتعليم أو عن مكان أكثر أمناً واستقراراً أو أقل فساداً أو أكثر حرية وتسامحاً في الدين.
وبحسب النتائج، شهدت بعض المدن الفلسطينية في الضفة الغربية ذات الصبغة المسيحية، تراجعاً كبيراً في نسبتهم خلال الـ100 عام الماضية. فمثلاً تراجعت نسبة المسيحيين في مدينة بيت لحم (مهد المسيح) من 84 في المئة عام 1922 إلى 28 في المئة عام 2007، وفي بيت جالا من 99 إلى 61 في المئة، وفي بيت ساحور من 81 إلى 65 في المئة خلال الفترة نفسها. وأكد الاستطلاع أن ضعف النمو السكاني بين المسيحيين مقارنة بالمسلمين وارتفاع سن الزواج بينهم أدّيا لتضاؤل أعدادهم، إذ وجد استطلاع فلسطيني للباروميتر العربي في نهاية عام 2018، أن نسبة من هم فوق الـ50 سنة قد بلغت 39 في المئة بين المسيحيين مقابل 21 في المئة فقط بين المسلمين، وأن نسبة المسيحيين من هم بين 18 و29 سنة بلغت 19 في المئة، وبين 30 و39 سنة تصل 17 في المئة فقط.
ويخشى رئيس أساقفة سبسطية للروم الأرثوذكس، المطران عطالله حنا، من اختفاء الحضور المسيحي في الأراضي المقدسة نتيجة تضاؤل أعداد المسيحيين وارتفاع معدلات الهجرة بشكل دراماتيكي بسبب الظروف السياسية والمعيشية والاقتصادية. وقال في حديث لـ”اندبندنت عربية”، “نحن لا نريد أن تتحول كنائسنا إلى متاحف ومزارات لالتقاط الصور، بل نريدها أن تعج بوجود المؤمنين”، مردفاً “حل القضية الفلسطينية وإحلال السلام يعني عودة كل المسيحيين لوطنهم وإنعاش الوجود المسيحي من جديد”.
اعتداءات متصاعدة
يرى كثيرون أن الهجوم المتزايد الذي يتعرض له المجتمع المسيحي في الأراضي الفلسطينية وإسرائيل والذي يعود تاريخ وجوده في المنطقة إلى 2000 عام، أسهم بشكل كبير في زيادة معدلات الهجرة بين المسيحيين، إذ تزايدت ممارسات ومضايقة رجال الدين والاعتداء على الممتلكات الدينية المسيحية. وفيما تشدد الحكومة الإسرائيلية على أنها تضع مسألة الحرية الدينية والعلاقات مع الكنائس التي لها صلات قوية بالخارج، على رأس سلم أولوياتها، يؤكد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، أن إسرائيل هي المكان الأكثر أمناً لمسيحيي الشرق الأوسط، حيث ينمو المجتمع المسيحي فيها ويزدهر.
في حين يتحدث رجال الدين المسيحيون خصوصاً في البلدة القديمة بالقدس، عن جو متدهور جداً من المضايقات، واللامبالاة من السلطات، والخوف المتزايد من أن تدفع حوادث البصق اليومية والتخريب، المسيحيين للهجرة. ووفقاً لمجلس الكنائس العالمي، فإن صورة التعايش الآمن التي رسمها المسؤولون الإسرائيليون تتعارض بشكل كبير مع التجارب التي يعيشها القادة المسيحيون في القدس. وسجلت الهيئة الإسلامية-المسيحية العام الماضي 32 اعتداء على الكنائس والمقابر المسيحية.
وخلصت دراسة سابقة أجرتها جامعة دار الكلمة في بيت جالا، استندت إلى مقابلات مع ما يقرب من 1000 فلسطيني، نصفهم من المسيحيين ونصفهم الآخر من المسلمين، لفهم سبب الاختفاء التدريجي للسكان المسيحيين في فلسطين، إلى أن “ضغط الاحتلال الإسرائيلي، والإكراه الدائم، والسياسات التمييزية، والاعتقالات التعسفية، ومصادرة الأراضي تزيد من الشعور العام باليأس لدى المسيحيين الفلسطينيين”، وتدفع بعضهم إلى الهجرة. أما الادعاءات بأن المسيحيين الفلسطينيين “يغادرون بسبب التوترات الدينية بينهم وبين إخوانهم المسلمين فليس لها أساس”، وفقاً للدراسة. وصرح منسق مكتب مجلس الكنائس العالمي بالقدس يوسف ضاهر في وقت سابق، أن المسيحيين يشعرون بالاضطهاد وأن ما يجري هو “كراهية للمسيحية”.
في حين حذر البطاركة ورؤساء الكنائس في القدس من أن الخطر الذي تشكله الجماعات المتطرفة اليهودية تهدف، بحسب وصفهم، إلى “تقليص الوجود المسيحي”. وكتب حارس الأراضي المقدسة فرانشيسكو باتون، أنه في الأعوام الأخيرة، أصبحت حياة العديد من المسيحيين “لا تطاق من قبل الجماعات المحلية الراديكالية ذات الأيديولوجيات المتطرفة، يبدو أن هدفهم تحرير البلدة القديمة في القدس من الوجود المسيحي، حتى الحي المسيحي”. وأضاف “نشعر بالرعب والأذى في أعقاب العديد من حوادث العنف والكراهية التي وقعت أخيراً ضد الجماعة الكاثوليكية في إسرائيل”، مشيراً إلى أن هذه الجماعات المتطرفة لا تمثل حكومة أو شعب إسرائيل. وأكد في الوقت نفسه، أن “غياب الردع والعقاب لأي فصيل متطرف وأقلية راديكالية، يمكنه أن يثقل كاهل حياة الكثيرين بسهولة”.
بالنسبة للمطران وليم شوملي، من البطريركية اللاتينية، فإن صعود اليمين المتطرف في السياسة الإسرائيلية قد لعب دوراً في زيادة الاعتداءات. وأضاف “اليهود المتطرفون الذين يمارسون هذه الانتهاكات يشعرون بالحماية والأمان بشكل أو بآخر لأن لديهم ممثلين أقوياء في الحكومة”. من جهتها، قالت تامي لافي من “مركز الحوار بين الثقافات” في القدس، لصحيفة “تايمز أوف إسرائيل”، إن ما لا يقل عن 50 في المئة من مواكب أيام الجمعة الأرمنية تتم مقاطعتها عن طريق البصق أو الشتم أو السير عمداً خلال سير الموكب.
مساهمة فاعلة
انخفاض أعداد المسيحيين في الأراضي الفلسطينية وتفاقم أخطار هجرتهم المتزايدة من القدس والضفة الغربية جراء عوامل عدة، لم يؤثر في وجودهم الفعال والحيوي والحاسم في المجتمع الفلسطيني، إذ لا تزال الكثير من المؤسسات الكنسية المسيحية تقوم بدورها التنموي والإنساني المؤثر تجاه الفلسطينيين في جميع القطاعات، على اختلاف انتماءاتهم السياسية والدينية.
وأظهرت دراسة بحثية أعدتها كلية دار الكلمة الجامعية للفنون والثقافة في بيت لحم، والبعثة البابوية في القدس، وشملت 296 مؤسسة مسيحية في القدس والضفة الغربية وقطاع غزة، تقدم مجموعة متنوعة لمئات الآلاف من الفلسطينيين كجزء من هويتها وثقافتها المسيحية، أن المؤسسات المسيحية هي ثالث أكبر مشغل للشعب الفلسطيني بعد السلطة الوطنية الفلسطينية ووكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين (أونروا)، وقد تجاوزت طاقتها التشغيلية أكبر الشركات الفلسطينية العاملة في القطاع الخاص بإجمالي قدرة تشغيلية بلغت 9098 موظفاً. وأشارت الدراسة إلى أنه يتم إنفاق 416 مليون دولار على أساس سنوي في قطاعات حيوية مثل الرعاية الصحيّة والتعليم والخدمات الاجتماعية والتدريب المهني وتدخلات المساعدة الإنمائية.
ووفقاً للمستشار والخبير في التخطيط التنموي الاستراتيجي جورج عكروش، معد الدراسة، فإن منظمات الإغاثة المجتمعية المسيحية تقدم خدمات لما يقرب من 37 في المئة من السكان الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية. كما أثبتت الدراسة أن خدمات المنظمات التنموية والإغاثية المسيحية تحسن جودة الحياة لأكثر من 1.9 مليون فلسطيني كل عام. وبينت النتائج أن أربعة من أصل ستة مستشفيات متخصصة تصل نسبتها إلى 67 في المئة، بمدينة القدس هي تابعة للكنائس، وتقوم بعلاج أكثر من 330 ألف مريض كل عام، وتقدّم رعاية عالية الجودة من غسيل كلى للأطفال، وخدمات سرطان الأطفال، وعمليات قلبية معقدة، وصحة الأم الخاصة، وبنك الدم والعناية بالعيون، وغيرها من الخدمات المتطورة للأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة.
وأكد مؤسس ورئيس دار الكلمة الجامعية القس متري الراهب، أن “المسيحيين الفلسطينيين وإن لم يكونوا عدداً، فإنهم بمؤسساتهم يشكلون جزءاً لا يتجزأ من النسيج الفلسطيني”. بدوره، قال المدير الإقليمي للبعثة البابوية جوزيف حزبون، إن المؤسسات الكنسية المسيحية “تلعب دوراً رئيساً في خدمة الشعب الفلسطيني من دون تمييز، وذلك منذ عقود طويلة، خصوصاً في قطاع الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية”.
قادة ومؤثرون
وفقاً لراعي كنيسة اللاتين في غزة السابق الأب منويل مسلم، تمتلك عشر عائلات مسيحية ثلث اقتصاد قطاع غزة. ويتربع كل من الملياردير سعيد خوري وحسيب صباغ وكلاهما مسيحيان، على قائمة الفلسطينيين الأكثر ثراء. وفيما يعد مسيحيو فلسطين الأعلى ثقافة وتعليماً بين الطوائف الدينية المختلفة، وتصل نسبة حملة الشهادات الأكاديمية بينهم إلى 63 في المئة، سطر مسيحيون كثر أدواراً هامة في التاريخ الفلسطيني الحديث، وكان منهم القادة والمثقفون والمؤثرون، ومن الشخصيات التي انخرطت في الساحة الفلسطينية السياسية، أمثال جورج حبش مؤسس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، والناشطة السياسية المخضرمة حنان عشراوي، وكمال ناصر. ومن المفكرين إدوارد سعيد أستاذ الأدب المقارن في جامعة كولومبي، وجوزيف مسعد الأكاديمي المتخصص في تاريخ الفكر السياسي والثقافي العربي، وإلياس صنبر والمؤرخ حنا بطاطو.
وعلى صعيد الفن والموسيقى، ظهرت أسماء مسيحية أثرت في مجال الموسيقى بخاصة الملتزمة والوطنية مثل ريم بنا وأمل مرقص، إضافة إلى فرقة العود الموسيقية الشهيرة الثلاثي جبران، وسليمان منصور وهو من أهم الفنانين التشكيلين الفلسطينيين ومن مؤسسي الحركة الفنية، وإيليا سليمان مخرج أفلام وممثل من أشهر أعماله فيلم “يد إلهية”، الذي فاز بجائزة لجنة التحكيم بمهرجان كان عام 2002، وفي المجال الأدبي، هناك الأديبة مي زيادة وخليل السكاكيني، ويعتبران من رواد التربية الحديثة في الوطن العربي، إلى جانب إيميل حبيبي والشاعرة للي كرنيك وأنطون شماس وخليل جهشان وغيرهم. أما في المجال العلمي والطبّي، هناك توفيق كنعان وسالم حنا خميس، وهو أستاذ رياضياتي وفيزيائي عمل محاضراً في جامعات أميركية عدة، وعمل في مكتب الإحصاء التابع لهيئة الأمم المتحدة، وحسام حايك مخترع الأنف الإلكتروني الذي يشخِّص الأمراض السرطانية، وجوني سروجي وهو نائب مدير شركة “أبل” العالمية وغيرهم.
ويخصص المجلس التشريعي الفلسطيني 10 في المئة من مقاعده للمسيحيين، كما أن رؤساء بلديات رام لله وبيرزيت وبيت لحم وبيت جالا وبيت ساحور هم من المسيحيين.