قدّاس شكر في “Capella del Santissimo” بمناسبة رفع فسيفساء للقديس شربل في البازيليك مار بطرس في الفاتيكان

احتفل صاحب السيادة المطران يوحنّا رفيق الورشا بذبيحة شكر في “Capella del Santissimo” بمناسبة رفع فسيفساء للقديس شربل في بازيليك مار بطرس في الفاتيكان وعاونه خادم رعيّة مار مارون روما الخوري جوزيف صفير، والأب جاد القصّيفي وكيل الرهبنة المارونيّةفي روما، بمشاركة سيادة المطران فرانسوا عيد، والمطران بولس روحانا، والمطران حبيب شاميّة
وكلاء الرهبنيّات المارونيّة في روما وكهنة المعهد الماروني ولفيف من الآباء والكهنة والرّاهبات
وشاركة سفير لبنان لدى الكرسي الرسولي وسفيرة لبنان لدى دولة ايطاليا، وبعض السفراء والقناصل في روما وإيطاليا
وحشدٌ كبير من أبناء الرّعيّة والمؤمنين والمصلّين، خدمت هذه الذبيحة جوقة رعيّة مار مارون.
وبهذه المناسبة ألقى سيادته هذه الكلمة:
عظة المطران يوحنا رفيق الورشا
أحد الأبرار والصدّيقين – فعل شكر للرب على رفع موزاييك القديس شربل
بازيليك القديس بطرس – الفاتيكان في 28 كانون الثاني 2024
إخوتي أصحابَ السيادة، أصحابَ السعادة السفراء والقناصل، قدسَ الوكلاء البطريركيّين، وكلاءَ الرهبانيات، آبائي الأفاضل، أخواتي الراهبات، إخوتي وأخواتي الأعزّاء،
حين نقرأُ إنجيلَ الدينونة العظمى بحسبِ القديس متى، يرتسمُ نُصبَ أعينِنا نهجٌ يجدرُ اتّخاذُه لنرتقي نحو القداسة ونتذوّقَ طعمَها. ولنا خيرُ مثالٍ على مَن سلك هذا النهجَ بامتيازٍ هو القديسُ شربل العظيم، ابنُ الرهبنة اللبنانية المارونية، وابنُ لبنان، وشفيعُ الكنيسةِ الجامعة وكنيسةِ لبنان. نشكرُ الربَّ معًا على هذه النعمة التي افتقدَ فيها الربُّ شعبَه. ذلك أنْ قد أصبحت صورتُه ليس فقط في القلبِ والذاكرة بل أيضًا في بازيليك القديس بطرس، بالقربِ من ضريح القديس البابا بولس السادس الذي طوّبه ورفعَه قدّيسًا على المذابح. فمن أين لي أن أحتفلَ بهذه الذبيحة الإلهية، في هذه البازيليك رمزِ الكنيسةِ الجامعة، وبمناسبةِ دخولِ قديس عظيم عالمي إليها، وهو قد احتلّ قلوب الناس وأذهل عقولَهم واجتاز المسافات ليشملَ كلَّ أصقاعِ الأرض. تعالوَا جميعًا نستمطرُ نعمَ السماء الغزيرة، بشفاعةِ مار شربل الذي لا يردُّ أحدًا خائبًا بل بحنانِه، ومن عليائه يشفعُ لنا ويفرح بنا نرفعُ له التقدماتِ والصلواتِ بخورًا.
ليس بالسهل لأوّلِ قراءةٍ لهذا النصّ من الإنجيل، أن نجدَ العلاقة بينه وبين حياةِ مار شربل. ففيما انطبعَت حياةُ شربل بالصلاةِ والتأمّل والحياة الديرية والنسكية بعيدًا عن ضجيج العالم، من جبل إلى جبل، نحن أمام مشهد من الإنجيل، في معتركِ الحياة الاجتماعية. أما إذا غصنا بمسيرتِه الروحية وثمارِها الدائمة، نرى جليًّا أنّه زارَ كلَّ المجتمعات: زارَ المرضى، افتقد العائلات، تحنّن على العائشين في أزمات، نزعَ منهم غربتهم، وحرّرَ كلَّ سجين من أيّ قيدٍ أو شيءٍ آخر أسرَه. ما لم يصنعْه في أثناءِ حياته صنعَه وهو قديسٌ بعد موتِه. وبالتالي لم يلتقِ المسيح فقط في القربانِ والقداس… بل ايضًا في “هؤلاء الصغار”.
كنتُ جائعًا فأطعمتموني: إنّ الجوع في إنجيل متى يأخذ طابعًا روحيًّا أيضًا! نقرأ في عظة يسوع على الجبل: “طوبى للجياع والعطاش إلى البّر، فإنّهم سيُشبعون” (متى 5: 6). وفي إنجيل يوحنا في الفصل السادس، جاع الناس فسدّ يسوع جوعهم وذهب بهم إلى الجوع الروحي فأعطاهم ذاته، خبز الحياة النازل من السماء ليأكل منه الإنسانُ فلا يموت. والقديس شربل، قد اختبر في حياته جوعًا دائمًا إلى البرّ والقداسة، وعطشًا إلى الحقيقة الإلهية التي تُروي ظمأه؛ ذلك الجوع الروحي الدائم إلى يسوع خبز الحياة، إن في القربان الذي سجد له ليال طوال ونهل منه البر والقداسة والنور، وإن في قداسه اليومي حين كان يرفعه على المذبح ويتأمّل فيه، ثمّ يمضغه فيتّحد به ليسكن فيه وهو فيه. كم علّم المؤمنين بمثله أن يجوعوا إلى البرّ، وأن يتعطّشوا إلى الحقيقة الإلهية المطلقة. أعطى المؤمنين أمثولة رائعة، وهي أن يتوقوا إلى القداسة فتضحي همّهم الوحيد عملًا بما أوصانا به المعلّم الإلهي: “أطلبوا اوّلًا ملكوت الله وبرّه والباقي يُعطى لكم ويُزاد”. لقد أشبع جوعنا بجوعه وإن أردنا أن نتقدّس فلنذهب إليه ولنتتلمذ في مدرسته لنرتقي سلّم القداسة الذي يرفعنا إلى السماء. نرتّل بعد صلاة الغفران: “في قلبه يحملُ قلبَ الدنيا تشتاق نورَ السماء، هللويا نعْمَ الرجاء”.
كنتُ عطشانًا فسقيتموني: نرتل أيضًا: قد ذاب مثل الشمع: روّى الأرض شربل من دماه! هللويا يا طوباهُ!. لم يرتوِ شربل من خمر الكرمة التي زرعها بل استقى من خمر الإفخارستيا، من دم المسيح، وبه أروى كلّ إنسان عطشان إلى الحقيقة، إلى حقيقة الله، إلى حقيقة الإنجيل، إلى حقيقة الوجود ومعنى الحياة. فكلّ هذه الحقائق كان شربل طيلة مسيرته الرهبانية والكهنوتية والنسكية عطشانًا إليها وفي كل مرّة يستقي منها يعطش من جديد. وبحقيقة القداسة الفائح عطرها في بقاعكفرا وميفوق وعنايا أروى كلّ زائر إن إلى قريته الأمّ، أم إلى ضريحه أو إلى محبسته. نعم! في كنفه ومنه ، نستقي نحن العطاش. فكل ما هو خارج عن مسلك حياته وعالمه هو وهمٌ وضلال.
كنتُ مريضًا فزرتموني: كان الربّ يسوع يجول في المدن والقرى يشفي الناس من كلّ علة، جسدًا ونفسًا وروحًا؛ يطرد الشياطين، يُعيد البصر إلى العميان، ويجعل العرج يمشون… والقديس شربل، موفدًا من المسيح، يُجري زياراتٍ متتالية لمرضى كثيرين، ولا يكتفي بزيارتهم بل يجترح العجائب والمعجزات ويقوم بعمليّات جراحية ينحني أمامها أطبّاء الأرض معلنين انذهالهم. فبعد أن يستعمل طبُّ الارض كلّ حيله ولا يُفلح، يأتي مار شربل “طبيبُ السماء”، ذلك المستشفى المتنقل ليلمس جروحات الناس ويُعيد اليهم الحياة مع الإيمان جسدًا او نفسًا او روحًا. كلّ ذلك إن في حياته او بعد موته الى يومنا، ولا يكلّ ولا ينام. أوَ ما زار السيّدة نهاد الشامي وافتقدها عندما أجرى لها عملية جراحية وتبقى الى اليوم، في الثاني والعشرين من كلّ شهر، تتجلّى قدرة الله العظيمة وينزف جرحها كعلامة حسّية لعمل الله وحضوره!؟
كنتُ سجينًا فزرتموتي: صحيح ان شربل حبس نفسه في الدير والمحبسة وقلّ ما كان يخرج من صومعته غير انه عاش حرية ابناء الله بملئها. لم يكن اسيرًا او سجينًا او مقيًّدا بشيء ، بل تحرّر من كلّ ملذات الأرض وحطامها وعلّمنا نحن المسجونين في رغباتنا، اسيري قناعاتنا وايديولوجياتنا، أن نتحرّر منها فيضحي ولاؤنا لشخص واحد هو يسوع. نحن نقول في لغة الحبس: “توقف” ولكن مَن يتتلمذ للمسيح على مثال القديس شربل، لا يتوقف عن شيء، بل يخرق كل الحواجز لينشر كلمة الله ويُجري المعجزات! والقديس شربل شاع نوره من محبسته وقبره، فذاع صيته في كلّ أنحاء الارض. فيا ليتنا على مثاله نخرج بنعمة الله من سجوننا ومما يقيّدنا من خطيئة وشرّ ونزوات فنجري توبة حقيقية تمنحنا الحرية الداخلية، حريةَ ابناءِ الله.
كنت غريبًا فآويتموني: إخوتي وأخواتي الأعزّاء، إنّ الغربة الحقيقية لا تكمن فقط في أن نكون بعيدين عن بلادنا في هجرة أو نزوح أو منفى، بل تقتصر الغربة الحقيقية القاسية على أن نضحي بخطايانا وشرورنا غرباء عن بيت الربّ والعيش بحضوره. القديس شربل لم يكن غريبًا عن الملكوت! تحقّق فيه ما ورد في لاهوت آباء الكنيسة الذين أعطوا الكثير في هذا السياق: إن المسيحي الحقيقي هو الذي يجب أن يكون غريبًا عن هذه الأرض ومغرياتها ليكون موطنه الحقيقي السماء! وهو يبدأ من هنا على الأرض فيعيش حياته في مسكن الربّ، في الكنيسة، في الدير، في حضوره أينما حلّ… لقد حقّق شربل ما عبّر عنه القديس غريغوريوس النيصي بحيث لم يقع في فخاخ الشّرير الخادع، وأدرك أن كلّ حطام الدنيا ومجدها وهمٌ والحقيقة المطلقة إنّما هي فوق في السماء. ومَن يقتدي بفضائل القديس شربل يصبح بغربة عن هذه الحياة ويُضحي من مواطني السماء. هذا ما جاء على لسان القديس بولس الرسول: “ليس لنا هنا مدينة ثابتة بل نرجو العتيدة” (عب 13: 14). لقد افتقد شربل بَمثَله كلّ غريب عن بيت الآب في السماء ليعمل للقوت الباقي في الحياة الأبدية ويتذوّق طعم السكن الجميل في الموطن الحقيقي الذي يبدأ من الأرض.
نعمّ! إنّ القديس شربل قد أعطى المسيح في كلِّ أعماله التي من خلالها جسّد هذا الإنجيل، والتقاه في المؤمنين والمؤمنات الذين، لكلّ واحد وواحدة منهم قصّته الخاصّة وخبرته الحيّة لحضوره الفاعل في مسيرته الروحية. كما والتقى المسيح ليس فقط في تأمّلاته وعباداته وسجوده للقربان لأوقات طويلة بل ايضًا في كلّ إنسان من “هؤلاء الصغار” الذين لمس حياتهم ودخل إليها.
أنتهزها مناسبة لأجدّد شكري العميق باسم غبطة البطريرك الكردينال مار بشاره بطرس الراعي وكّل أبناء الكنيسة المارونية وبناتها في لبنان والشرق وبلدان الانتشار، لقداسة البابا فرنسيس الذي بارك هذه الخطوة من خلال نائبه الكردينال ماورو كامبيتي الذي كرّس موزاييك مار شربل نهار الجمعة 19 كانون الثاني، كما وأشكر من صميم القلب سعادة السفير فريد الخازن لهذه المبادرة القيّمة الجميلة، وأتوجّه بالتهاني القلبيّة لقدس الآباتي هادي محفوظ الرئيس العام للرهبانية اللبنانية المارونية ممثَّلًا بحضرة الوكيل الأب جاد القصيفي الجزيل الاحترام. هنيئًا للبنان وطن شربل والقديسين، بكلّ مكوّناته وأطيافه. لا يسعني إلّا أن أعرب عن عرفان جميل لمحطّة Télélumière Noursat ولفريق العمل الذي ينقل هذه الليتورجية الإلهية. يبقى أن أثني على جهود جوقة رعية مار مارون لتأدية ترانيمَ وتراتيل تساعدنا على الصلاة.
نسألك أيّها القديس العظيم، أن تزور كلّ مريض مسمّرٍ على فراشه، أو في العناية الفائقة في المستشفى، وكلَّ سجين أسرته الشرور والخطايا والعادات السيئة لكي يتحرّر من كلّ ما يجرحُ عهدَه مع الربّ؛ سُدَّ عوز الجياع والعطاش أيًّا كان نوع جوعهم أو عطشهم… تشفّع لدى المسيح الذي أحببتَه فتبعتَه لكي يُلبس كلّ عريان ثوب القداسة، فيتحقّق فيه ما قاله القديس بولس الرسول: “أنتم الذين أعتمدتم بالمسيح قد لبستُم المسيح” (غل3: 27). افتقدْ لبنان والمسؤولين وأصحاب النفوذ فيه، ليعوا خطورة المسؤولية التي أوكلت إليهم فيكون همُّهم “هؤلاء الصغار”، ويقفوا في وجه كلّ مُغرض ينوي انتهاك كراماتهم وحقوقهم.
ويا قدّيس العالم، أُطلبْ من الربّ يسوع أمير السلام، ان يبسط سلامه في كلّ الدول، وأن تُستبدلَ لغةُ الحرب والدمار بالسلام والازدهار، والقتلُ والظلم بثقافةِ الحياة والعدالة. جنِّب بشفاعتك لبنان من شبح الحرب المقلقة، وليَملك سلامُك على الشّرق المتألّم والعالم. نردّدُ ونصلّي ونرتّلّ كلَّ يوم: “قدّيسٌ من عندنا، من شهْقات الأرز من صخر الصوّان، يا شربلُ اشفعْ لنا قد أعطاك ربُّك مجدَ لبنان، هللويا إحفظْ لبنان. آمين.