عظة البطريرك يوسف العبسي بمناسبة عيد ميلاد ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح بحسب الجسد في كاتدرائية سيدة النياح – حارة الزيتون

عظة صاحب الغبطة البطريرك يوسف العبسي الكلي الطوبى والجزيل الوقار بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الملكيين الكاثوليك بالليترجيا الإلهية المقدسة بمناسبة عيد ميلاد ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح بحسب الجسد في كاتدرائية سيدة النياح – حارة الزيتون
میلاد ٢٠٢٤
من الترقب إلى الشوق
في هذا اليوم الخامس والعشرين من كانون الأوّل تقيم الكنيسة الجامعة في العالم كلّه تذكار ميلاد ربّنا وإلهنا ومخلّصنا يسوع المسيح الذي “تجسّد من الروح القدس ومن مريم العذراء وتأنّس (=صار إنسانا)”، كما نقول في قانون إيماننا. تقيم الكنيسة هذا التذكار بالصلوات الاحتفالية الجميلة التي تجعلنا نعيش حدث الميلاد التاريخي بكل أبعاده في اللحظة وفي المكان الحاليين اللذين نقف فيهما الآن وهنا، وتدعونا (الكنيسة) إلى استقبال المولود الإلهي مرنّمين: “المسيح ولد فمجدوه المسيح أتى من السماوات فاستقبلوه”، وتحثنا على إعلان البشرى الخلاصيّة الجميلة لكل من ينتظر ويترقب في الأرض خلاصًا منشدين مع الملائكة: “اليوم ولد لكم مخلص وهو المسيح الربّ”.
أجل، هذا ما تدعونا الكنيسة إليه في هذه الليلة السمحاء بالرغم من أننا كلنا في حيرة وتساؤل وترقب حتى الحزن والقلق والخوف واليأس، من جراء الاضطرابات الجارية في بلادنا، حالنا حال الناس الذين كانوا قبل ميلاد السيد المسيح، قابعين في الظلمة وظلال الموت”، كما نقول في صلوات العيد، يترقبون خلاصا، بحيث إنهم ما إن رأوا هذا الخلاص في شخص يسوع المسيح حتى هتفوا بلسان الشيخ سمعان الصديق قائلين: “الآن” تطلق عبدك أيها السيد على حسب قولك بسلام فإن عيني قد أبصرنا خلاصك”.
نحن كلنا نترقّب اليوم أيضًا خلاصًا لنصرخ، إذ نراه، مثلما صرخ سمعان الشيخ حالما رأى يسوع: “الآن تطلق عبدك أيها السيد”. من يصنع لنا هذا الخلاص؟ البشر؟ لا يبدو أن في وسع البشر أن يصنعوا ويمنحوا خلاصًا، وإن هم صنعوا ومنحوا ولو يسيرًا فخلاصًا مشروطًا وهشًا، خلاصًا لا يُريح بل يبقي على القلق والخوف في ترقبنا. خلاصنا الكامل والحقيقي لن نناله إلا من الرب الذي اسمه “يسوع” أي المخلص كما أعلم الملائكة الرعاة في هذه الليلة المقدسة بقولهم لهم: “اليوم ولد لكم مخلًص” (لوقا ١١:٢)، وكما علمنا من قول الملاك لمريم عن الطفل الجديد بقوله لها: وتسمينه يسوع”، “المخلًص” (لوقا 1: ۳۱). لم يقدّم يسوع يومًا ذاته ولا تكلم عن ذاته على أنه “ابن الله”، أو من معلمي بني إسرائيل، أو من الكتبة والفريسيين، أو من القواد والزعماء الفاتحين، بل قدم ذاته على أنه ذاك الذي إنما جاء “لكي يخلّص ما قد هلك”، لكي يخلّص خصوصًا شعبه من خطاياهم كما ورد في إنجيل متى في كلامه على ميلاد يسوع (متى ۱: ۲۱). ولد يسوع لكي يخلّصنا خصوصًا من الترقب المزمن الذي فينا أعني الخلل الكياني الحاصل فينا من جراء الخطيئة والشر بشتى أشكالهما، لكي يخلّصنا من الترقب الذي يسلب منا سلامنا وفرحنا ويحرمنا من أن تتمتع بالجمال والانعتاق اللذين نتوق إليهما. ولد يسوع لكي يخلّصنا من ترقب لن تشفى منه إلّا بتقربنا من الله تعالى، بأن نكون أبناءه، هذا ما عبّر عنه بولس الرسول بقوله لأهل رومة: ” إن الخليقة كلها معًا تئن حتى الآن وتتمخض، وليس هي فقط بل نحن أيضا […] نتن في أنفسنا منتظرين [مترقبين] التبتي، افتداء أجسادنا، لأنّا بالرجاء خلصنا” (روم ۸:۲۲-۲۳).
في الميلاد لم يكن يسوع المخلّص وحده. كان إلى جانبه ومن حوله مريم ويوسف والرعاة والمجوس. جميعهم استقبلوه وشاركوا في إعلان الخلاص كلٌّ على طريقته وقدرته. نحن كذلك مدعوون إلى أن نكون ونعمل على مثالهم علينا جميعًا، إكليروسًا ومؤمنين علينا جميعًا، نحن شعب الله الواحد وجسد المسيح الواحد، أن نتعاون في هذا السبيل، أن نشبك أيادينا بعضنا مع بعض ومع ذوي الإرادة الطيبة، إلى أي فئة أو جهة انتموا، لنحصل على الخلاص الذي نترقبه. عملٌ مشترك من كل قبيلة ولسان وشعب وأمة تعيش في سياقات وثقافات مختلفة. هذا ما سماه قداسة البابا فرنسيس “السينودسية”، أي السير معًا، داعيًا إلى التفكير والبحث والتأمل فيها وإلى تطبيقها في الكنيسة على كل المستويات ولاسيما مستوى الفقراء والمهمشين والمنبوذين في هذا السياق يقول آباء السينودس في خلاصتهم: “إن تثبيت أنظارنا إلى الربّ لا يبعدنا عن مآسي التاريخ إنما يفتح عيوننا فنتعرف على الألم الذي يُحيط بنا ويؤثر فينا: وجوه الأطفال المذعورين من الحرب، نحيب الأمهات الأحلام المتكسرة لكثير من الشباب اللاجئون الذين يواجهون أسفارا رهيبة، ضحايا التغيرات المناخيّة واللاعدالة الاجتماعيّة، الحروب الكثيرة التي لا تزال تتسبب بالموت والدمار والرغبة بالانتقام وفقدان الضمير. إنّا تدين منطق العنف والحقد والانتقام ونعمل معاً من أجل تغليب منطق الحوار والأخوة والمصالحة السلام الحقيقي والدائم ممكن وبإمكاننا أن نبنيه معاً (خلاصة السينودس، رقم ٢).
نعلم من الإنجيل أنّ يسوع كان يذهب أكثر ما يذهب إلى الذين كانوا في حال ترقب الخلاص ما. لاقي الشيخ سمعان الذي كان يترقب خلاص شعبه، ولاقى يوحنا المعمدان الذي كان يترقب ظهور السيد الحامل خطايا العالم، ولاقى نيقوديموس الذي كان يترقب تحلي الحقيقة، ولاقى المرضى الذين كانوا على أنواعهم يترقبون من يشفيهم، والمعذبين بالأرواح الشريرة الذين كانوا يترقبون التحرر، والخطأة الذين كانوا مثقلين بعبء خطاياهم يترقبون من يرفعه عن كواهلهم، ولاقى بعد القيامة الرسل الخائفين القابعين في العلية يترقبون المصير ونفخ فيهم الروح القدس وأرسلهم إلى العالم كله.
إلى هؤلاء وأمثالهم ذهب يسوع. لم يذهب إلى الأقوياء أو الأغنياء أو أصحاب السلطان والقرار لأنهم مكتفون لا يترقبون، شبههم يسوع برجل غني يلبس الأرجوان والبر ويتنعم كل يوم مترفها” (لوقا ١٦ (١٩)، وشبههم بالغني الذي قال عن نفسه: “يا نفس، إن لك خيرات كثيرة مدخرة لسنين كثيرة فاستريحي وكلي واشربي وتنعمي” (لوقا ۱۲: ۱۹). إن الذي يترقب هو الذي لا يدري هل يأكل ويشرب بعد حين أو لا، هل يجد سقفا أو غطاء يقيه أو لا، هل تداوى جروحه أو لا، هل يحيا إلى الغد أو لا، لا يدري إلى من يتطلع ولا يعرف إلى من يذهب يتخبط في الحيرة والقلق والخوف.
يسوع نفسه هذا يأتي إلينا اليوم نحن الذين في حال ترقب قائلا “تعالوا إليّ أيها المتعبون والمثقلون بالأحمال وأنا أريحكم”. إن كان ترقبنا لأشياء فارغة أو شريرة فإن هذا الترقب يتحول إلى قلق وحزن وتعب وخوف. هذا ما حصل لهيرودس الذي كان يترقب أن يقتل الطفل يسوع. أما إذا كان ترقبنا اليوم لأشياء جميلة مثل الخلاص الذي ولد لنا بميلاد المسيح فإنه يتحول إلى شوق ومن ثم إلى فرح وسلام وتمجيد: “المجد الله في العلى وعلى الأرض السلام وفي الناس المسرة”. بهذا النشيد السماوي يدعونا الميلاد إلى أن نقوي ترقبنا الجميل وأن تحوله إلى شوق مهما كلفنا، إلى أن نبقى على الدوام ندغدغ أحلامنا، إلى أن نستمر في التشمير عن سواعدنا، إلى أن نتابع شحذ أفكارنا. لم يتعب طول الطريق وخطره المجوس، ولا طول السهر وبرده الرعاة، ولا طول العمر والشيخوخة سمعان، ولا يقل الخطيئة زكا العشار، ولا ظلام الليل الأعمى على حافة الطريق. جميعهم وصلوا إلى غاية ترقبهم وحصلوا على الفرح وتجدوا الله وماذا نقول عن العذراء وعن يوسف؟ ميلاد السيد المسيح يؤكد لنا أننا لا بد حاصلون على ما تترقب من خلاص، على الخلاص الذي نشتاق إليه. يبقى أن يكون لنا إيمان ولو قدر حبة الخردل وتوبة ولو قدر توبة العشار.
إلى ذلك نترقب اليوم أيضًا بل نشتاق إلى دولة لا نريد أن ننعتها باسم لكي لا تكون خاضعة للتأويل أو يحصر فحواها دولة مبنية على الحرية والعدالة والمساواة والمعاصرة والمواطنة، تستقبل الجميع وتحضن الجميع من دون استثناء ولا إقصاء. نترقب اليوم بل نشتاق إلى دستور لا إلى حماية أو وصاية أو امتيازات أو استقواء من أحد على أحد دستور يجد فيه كل مواطن ذاته ومكانه ويتيح له العمل في الشأن العام على كل المستويات نترقب بل نشتاق إلى مجتمع يقوم على نسيج من العلاقات الجميلة المتينة الأخوية ينتصب بوجه الحقد والعنف والظلم وتكون الأخوة فيه قيمة من القيم الإنسانية الأساسية الشاملة التي ينبغي أن تقوم عليها العلاقات بين الناس والشعوب أخوة شاملة تتلاقى فيها جميعنا بالرغم من تنوع أو اختلاف الأفكار والأديان واللغات والثقافات، كما يقول قداسة البابا فرنسيس.
على هذا الرجاء، بكل ما فينا من شوق نستقبل اليوم المولود الجديد، الإله الذي قبل الدهور يسوع المخلص، مصافحين ومهنئين بعضنا بعضًا ومرنمين مع الكنيسة: “هلم بنا لتشاهد كيف أن بيت لحم فتحت عدنا، ونجد النعيم في مكان الخفاء. هلم لنجتني محاسن الفردوس في داخل المغارة، فإنه قد ظهر هناك أصل بغير سقاية يتفرع منه الغفران. هناك وجدت بشر غير محفورة قد اشتاق داود أن يرتشف منها قديماً، هناك البتول ولدت طفلا فسكن للحال ظمأ آدم ودواد. فلنتقدم إليه إذا، فإنه قد ولد صبي جديد، الإله الذي قبل الدهور” (صلاة سحر الميلاد، البيت). آمين.
ميلاد مقدس ومجيد.
كل عام وأنتم بخير.
+ يوسف