الصلاة مع الفقراء والتنبه إليهم وأهمية العمل الرعوي من أجلهم وما يمكنهم أن يُعلِّمونا. هذه بعض النقاط الأساسية في رسالة البابا فرنسيس لمناسبة اليوم العالمي الثامن للفقراء والذي سيُحتفل به في ١٧ تشرين الثاني نوفمبر ٢٠٢٤.
صدرت اليوم الخميس ١٣ حزيران يونيو رسالة قداسة البابا فرنسيس لمناسبة اليوم العالمي الثامن للفقراء والذي سيُحتفل به في ١٧ تشرين الثاني نوفمبر ٢٠٢٤. وعنون الأب الأقدس رسالته بعبارة من سفر يشوع بن سيراخ: “الصلاة الخارجة من فم الفقير تبلغ إلى أذني الرب”. وبدأ البابا مشيرا إلى أن هذه الجملة التي تعكس حكمة الكتاب المقدس، وفي السنة المخصصة للصلاة استعداد ليوبيل عام ٢٠٢٥، هي ملائمة للاستعداد لليوم العالمي للفقراء هذا العام. ودعا قداسته إلى التأنل في هذه العبارة وإلى أن نقرأها على وجوه وقصص الفقراء الذين نلتقيهم، وذلك كي تصبح الصلاة وسيلة للشركة معهم وتقاسم معاناتهم.
تحدث البابا فرنسيس بعد ذلك عن يشوع بن سيراخ مشيرا إلى أنه يتطرق إلى مواضيع ليست بالسهلة مثل الحرية والشر والعدالة الإلهية، وهي مواضيع آنية اليوم أيضا. كما وأشار قداسته إلى تطرق يسوع بن شيراخ إلى الصلاة وذلك انطلاقا من خبرته، وأضاف البابا أن الكتابة عن الصلاة لا يمكن أن تكون فعالة إن لم تنطلق ممن يكونون في حضور الله ويصغون إلى كلمته يوميا. وقد قال يشوع بن سيراخ حسبما ذكَّر قداسة البابا: “في شبابي وقبل تجوالي التمستُ الحكمة علانية في صلاتي”. وتابع الأب الأقدس أن يشوع بن سيراخ قد اكتشف خلال مسيرته هذه واحدة من حقائق الوحي الأساسية، وهي أن للفقراء مكان مميز في قلب الله. وعاد البابا هنا إلى كلمات سفر يشوع بن سيراخ “صلاة المتواضع تَنفذ الغيوم ولا يتعزى حتى تصل. ولا يكف حتى يفتقده العلي وينصف الأبرار ويجري القضاء. فالرب لا يبطئ ولا يطيل أناته عليهم” (٣٥، ١٧-١٩). وواصل قداسة البابا أن الله يعلم بمعاناة أبنائه لأنه آب متنبه إلى الجميع ومهتم بهم، وكآب يعتني بمن هم أكثر عوزا: الفقراء، المهمشين، المتألمين والمنسيين، ولكن لا أحد يُستثنى في قلب الله، فجميعنا أمامه فقراء ومعوزون، جميعنا متسولون، وبدون الله نحن لا شيء ولم تكن لنا حتى حياة إن لم يكن هو قد وهبنا إياها. إلا أننا رغم ذلك، تابع قداسة البابا، كثيرا ما نعيش وكأننا نحن أسياد الحياة، كما وأن العقلية الدنيوية تطالبنا بأن نكون أحدا ما وأن نتحلى بالشهرة على حساب كل شيء والجميع، منتهكين القواعد الاجتماعية من أجل بلوغ الثراء. ووصف الأب الأقدس هذا بالوهم المحزن، فالسعادة لا يتم الحصول عليها بدهس حقوق الآخرين وكرامتهم.
هذا ويتوقف قداسة البابا في الرسالة عند العنف بسبب الحرب والذي يُبرز بوضوح العجرفة التي تُحرك من يعتبر نفسه قويا أمام الآخرين بينما هو بائس في عينَي الله. وأضاف الأب الأقدس: كم من الفقراء الجدد تُنتج السياسة السيئة التي تُطبَّق بالسلاح، كم من الضحايا الأبرياء!! وتابع البابا فرنسيس أنه لا يمكننا أن نتراجع، وقال إن تلاميذ الرب يدركون أن كلا من هؤلاء الصغار يحمل وجه ابن الله مطبوعا عليه، وإلى كل منهم يجب أن يصل تضامننا وعلامة المحبة المسيحية. وتابع الحبر الأعظم مشددا على ان كل مسيحي وكل جماعة مدعوان إلى أن يكونا أداة بين يدَي الله لتحرير الفقراء ونموهم بحيث يستطيعون الاندماج كليا في المجتمع. وهذا يفترض أن نكون طيّعين ومصغين إلى صوت الفقير وأن نساعده” (الإرشاد الرّسوليّ، فرح الإنجيل، 187).
نحن في حاجة في هذه السنة المكرسة للصلاة، تابع البابا فرنسيس، إلى أن نتبنى صلاة الفقراء وأن نصلي معهم، ووصف قداسته هذا بتحدٍ علينا أن نقبله وبعمل رعوي يجب إنماؤه. وتحدث هنا عن أن أسوأ تمييز يعاني منه الفقراء هو غياب الاهتمام الروحي، فالأغلبية الكبيرة من الفقراء لديها انفتاح خاص على الإيمان وحاجة إلى الله، ولا يمكننا تجاهل أن نقدم لهم صداقته وبركته، كلمته والاحتفال بالأسرار، واقتراح مسيرة نمو ونضج في الإيمان. وشدد الأب الأقدس على أن اختيار الفقراء يجب أن يترجَم بشكل أساسي في عناية دينية يطبعها التميز والأولوية. ويتطلب هذا قلبا متواضعا، حسبما تابع البابا فرنسيس، قلبا قادرا على أن يكون متسولا وأن يعتبر نفسه فقيرا ومعوزا. وتوقف قداسته عند الرباط بين الفقر والتواضع والثقة، فالفقير لا يتباهى ويؤمن بإمكانية اللجوء إلى محبة الله الرحومة، ويضع ثقته بالكامل في الله وفي أنه لن يتركنا أبدا وسيجيبنا دائما.
ثم وجه البابا فرنسيس كلمته إلى الفقراء الذين يعيشون في مدننا ويشكلون جزءً من جماعاتنا داعيا إياهم إلى ألا يفقدوا أبدا هذا اليقين، فالله متنبه إلى كلٍّ منكم وقريب منه. وتابع قداسته مشددا على أننا قد نعتقد أن الله لايصغي إلى صلواتنا، إلا أن الله صمت الله ليس عدم انتباه إلى معاناتنا، وعاد البابا مجددا إلى كلمات يشوع بن سيراخ الذي كتب أن قضاء الرب سيُجرى للفقير (راجع ٢١، ٥). ودعا قداسة البابا إلى تذكر أنه عندما تنغلق الحياة الداخلية على مصالحها الذاتية لا تعود هناك فسحة للآخرين، لا يدخل الفقراء بعد، ولا يُسمع بعد صوت الله، ولا يُتمتع بعد بفرح حبه العذب، ولا يعود ينبض فينا الحماس لعمل الخير. ليست هذه الحياة في الروح التي تنبع من قلب المسيح القائم من بين الأموات.
هذا وتوقف البابا فرنسيس بعد ذلك عند كون اليوم العالمي للفقراء قد أصبح موعدا بالنسبة لكل جماعة كنسية ما يشكل فرصة رعوية لا يجب التقليل من أهميتها، وذلك لأنها تحفز كل مؤمن على الإصغاء إلى صلاة الفقراء والوعي بوجودهم وباحتياجاتهم. هذا اليوم هو أيضا فرصة لتنفيذ مبادرات تساعد الفقراء بشكل ملموس ولتوفير الدعم للكثير من المتطوعين الذين يعملون بشغف من أجل أكثر الأشخاص عوزا. وشكَّر الأب الأقدس في هذا السياق الرب على من يصغون إلى الفقراء ويساعدونهم وذلك ما بين كهنة ومكرسين وعلمانيين يعطون صوتا لرد الله على صلاة مَن يلجؤون إليه. وأضاف البابا فرنسيس أن لدى الفقراء ما يمكنهم أن يُعَلمونا وذلك لأن الفقراء، وفي ثقافة تضع الثراء في المرتبة الأولى مضحية غالبا بكرامة الأشخاص على مذبح الخيور المادية، يسيرون عكس التيار موضحين أن الجوهري بالنسبة للحياة هو شيء آخر.
شدد البابا فرنسيس بعد ذلك على أن الصلاة تجد تأكيدا لمصداقيتها في المحبة التي تصبح لقاء وقربا، كما وان أعمالنا بدون صلاة يومية، تعاش بأمانة، تصبح فارغة وتفقد هكذا روحها الأكثر عمقا. وذكَّر الأب الأقدس هنا بكلمات القديسة الأم تيريزا في حديثها أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة سنة ١٩٨٥ حين قالت مشيرة إلى المسبحة التي تحملها بين يديها إنها مجرد راهبة فقيرة تصلي، وبالصلاة يضع يسوع في قلبها محبته وتهب هي هذه المحبة لجميع الفقراء الذين تلتقيهم. وأضافت حينها: صلّوا أنتم أيضا، فستنتبهون إلى من بجانبكم من فقراء، صلّوا فتنفتح أعينكم وتمتلئ قلوبكم بالمحبة. كما وتَذكَّر البابا فرنسيس أيضا القديس بندكت جوزيف لابر والذي عاش سنواته الأخيرة فقيرا وسط الفقراء وكان يصلي لساعات طويلة جاعلا من حياته صلاة بدون انقطاع.
ثم ختم البابا فرنسيس رسالته لمناسبة اليوم العالمي للفقراء ٢٠٢٤ مشيرا إلى أن المسيرة نحو السنة المقدسة تحث كلا منا على أن يكون حاج رجاء مقدما علامات ملموسة من أجل مستقبل أفضل، وتحدث قداسته عن لفتات بسيطة مثل الانتباه والابتسام وكلمات التعزية. كما وشدد على أننا مدعوون إلى أن نكون أصدقاء للفقراء متبعين خطى يسوع الذي تضامن مع الأخيرين. ولتعضدنا في هذا، تابع الأب الأقدس، القديسة مريم العذراء والتي تركت بظهوراتها في بانو رسالة علينا ألا ننساها: أنا عذراء الفقراء.