في رسالته بمناسبة اليوم العالمي للصلاة من أجل العناية بالخليقة البابا فرنسيس يدين الظلم والانتهاكات البشريّة للطبيعة والحروب التي تقتل وتدمر. ويحثنا على وضع حدود أخلاقية لتطوير الذكاء الاصطناعي، الذي يمكن استخدامه “للسيطرة على الإنسان والطبيعة” بدلا من السلام والتنمية.
صدرت ظهر اليوم الخميس رسالة البابا فرنسيس بمناسبة اليوم العالمي للصلاة من أجل العناية بالخليقة كتب فيها الأب الأقدس “أُرجو واعمل مع الخليقة”: هذا هو موضوع يوم الصلاة من أجل العناية بالخليقة، في الأول من أيلول سبتمبر المقبل. ويشير إلى رسالة القديس بولس إلى أهل روما (٨، ١٩-٢٥): يوضح الرسول معنى العيش بحسب الروح ويركز على الرجاء الأكيد للخلاص بواسطة الإيمان، الذي هو الحياة الجديدة في المسيح.
تابع البابا فرنسيس يقول ننطلق إذًا من سؤال بسيط، ولكن قد لا يكون له إجابة واضحة: عندما نكون مؤمنين حقًا، كيف يكون لدينا إيمان؟ لا يكون ذلك لأننا “نؤمن” بشيء متعالٍ لا يمكن لعقلنا أن يفهمه، بالسر البعيد المنال لإله بعيد، غير مرئي ولا يمكن تسميته. وإنما يقول القديس بولس: لأن الروح القدس يسكن فينا. نعم، نحن مؤمنون لأن محبة الله نفسها قد “أُفيضت في قلوبنا”. لذلك فإن الروح القدس هو الآن حقًا “عربون ميراثنا”، كحافز لكي نعيش دائمًا في توق نحو الخيرات الأبدية، وفقًا لملء إنسانية يسوع الجميلة والصالحة. إنّ الروح القدس يجعل المؤمنين مبدعين ونشطين في المحبة. ويضعهم في مسيرة عظيمة من الحرية الروحية، ولكنها لا تخلو من الصراع بين منطق العالم ومنطق الروح اللذين لهما ثمار متعارضة. نحن نعلم أن باكورة ثمر الروح، وخلاصة الثمار الأخرى، هي المحبة. وإذ يقودهم الروح القدس، يصبح المؤمنون أبناء الله ويمكنهم أن يتوجهوا اليه ويدعونه “أبا، أيها الآب”، تمامًا مثل يسوع، في حرية الذين لم يعودوا يخافون من الموت، لأن يسوع قد قام من بين الأموات. هنا هو الرجاء الكبير: محبة الله قد انتصرت، وتنتصر على الدوام وستنتصر مجدّدًا. إن مصير المجد أكيد، على الرغم من احتمال الموت الجسدي، للإنسان الجديد الذي يعيش في الروح. وهذا الرجاء لا يخيب، كما يذكرنا أيضًا مرسوم اعلان اليوبيل القادم.
أضاف الأب الأقدس يقول إن حياة المسيحي هي حياة إيمان، فاعلة في المحبة، وتفيض بالرجاء، في انتظار عودة الرب في مجده. إن “التأخير” في المجيء الثاني، في مجيئه الثاني، ليس مشكلة. والسؤال هو آخر: “متى جاء ابن الإنسان، أفتراه يجد الإيمان على الأرض؟”. نعم، الإيمان هو عطية، ثمرة حضور الروح القدس فينا، ولكنه أيضًا مهمة علينا أن نقوم بها بحرية، طاعة لوصية يسوع للمحبة. هذا هو رجاء الشهادة السعيد: أين؟ متى؟ كيف؟ داخل مأساة الجسد البشري المتألّم. حتى لو كان المرء يحلم، عليه الآن أن يحلم بعيون مفتوحة، تحركها رؤى المحبة والأخوة والصداقة والعدالة للجميع. إن الخلاص المسيحي يدخل في عمق آلام العالم، التي لا تستحوذ فقط على البشر، بل على الكون بأسره، الطبيعة نفسها، الإنسان وبيئته الحيوية؛ وترى الخليقة كـ “جنة أرضية”، الأم الأرض، والتي ينبغي أن تكون مكانًا للفرح ووعد سعادة للجميع. إن التفاؤل المسيحي يقوم على رجاء حي: يعرف أن كل شيء يتوق نحو مجد الله، إلى الكمال النهائي في سلامه، إلى القيامة الجسدية في العدالة، “من مجد إلى مجد”. ولكن مع مرور الوقت، نتقاسم العذاب والألم: الخليقة كلها تئن، والمسيحيون يئنون، والروح نفسه يئن. إنّ الأنين يظهر القلق والألم، مع الشوق والرغبة. إنّ الأنين يعبر عن الثقة بالله والاتكال على رفقته المحبّة والمتطلبة، في ضوء تحقيق مخطّطه الذي هو فرح ومحبة وسلام في الروح القدس.
تابع الحبر الأعظم يقول إن الخليقة كلها تشارك في عملية الولادة الجديدة هذه، وتنتظر، التحرر وهي تئن: إنه نمو خفي ينضج، “حبة خردل تصبح شجرة كبيرة” تقريبًا أو “خميرة في العجين”. إنّ البدايات صغيرة، لكن النتائج المتوقعة يمكنها أن تكون جميلة بلا حدود. وكانتظار ولادة – أي ظهور أبناء الله – الرجاء هو إمكانية الثبات في وسط الشدائد، وعدم الإحباط في أوقات الضيقات أو إزاء الهمجية البشرية. إنّ الرجاء المسيحي لا يخيب، ولكنه أيضًا لا يخدع: إذا كان أنين الخليقة والمسيحيين والروح القدس هو استباق وانتظار للخلاص القائم، فإننا الآن منغمسين في العديد من الآلام التي وصفها القديس بولس كـ “شدّة، وضيق، اضطهاد، وجوع، عُري، وخطر، سيف”. إنّ الرجاء إذن هو قراءة بديلة للتاريخ والأحداث الإنسانية: ليست وهمية، بل واقعية، واقعية الإيمان الذي يرى اللامرئي. وهذا الرجاء هو الانتظار الصابر، مثل عدم الرؤية لدى إبراهيم. يطيب لي أن أتذكر ذلك المؤمن صاحب الرؤية العظيمة الذي كان جواكينو دا فيوري، رئيس دير كالابريا صاحب “الروح النبوية”، بحسب دانتي أليغييري: في زمن الصراعات الدموية، والصراعات بين البابوية والإمبراطورية، والحروب الصليبية، والهرطقات وروح الدنيويّة في الكنيسة، الذي عرف أن يشير إلى مثال روح جديدة للتعايش بين البشر، مطبوعة بالأخوة الشاملة والسلام المسيحي، ثمرة الإنجيل المعاش. لقد اقترحت روح الصداقة الاجتماعية والأخوة العالمية هذه في الرسالة العامة “Fratelli tutti”. وهذا الانسجام بين البشر يجب أن يمتد أيضًا إلى الخليقة، في “مركزية بشرية ثابتة”، في المسؤولية عن بيئة بشرية ومتكاملة، درب خلاص لبيتنا المشترك ولنا نحن الذين نعيش فيه.
تابع البابا فرنسيس يقول لماذا كل هذا الشر في العالم؟ لماذا كل هذا الظلم، كل هذه الحروب بين الأشقاء التي تتسبب في موت الأطفال، وتدمِّر المدن، وتلوِّث البيئة الحيوية للإنسان، ولماذا تُنتهك الأرض وتُدمَّر؟ وفي إشارة ضمنية إلى خطيئة آدم، يقول القديس بولس: “إننا نعلم أن الخليقة جمعاء تئن إلى اليوم من آلام المخاض”. إن جهاد المسيحيين الأخلاقي مرتبط بـ “أنين” الخليقة، لأنها “قد أُخضعت للباطل”. إن الكون بأسره وجميع المخلوقات تئن وتتوق “بفارغ الصبر” لكي نتخطى الوضع الحالي ونعيد إحلال الوضع الأصلي: إن تحرير الإنسان في الواقع، يتضمن أيضًا تحرير جميع المخلوقات الأخرى التي إذ تتضامن مع الحالة البشريّة، قد تم وضعها تحت نير العبودية. إن الخليقة – دون أي ذنب – مثل البشرية، هي مُستعبَدة، وتجد نفسها غير قادرة على أن تقوم بما صُمِّمت للقيام به، أي أن يكون لها معنى وهدف دائمَين؛ هي عرضة للانحلال والموت، وتتفاقم بسبب سوء الاستعمال البشري للطبيعة. ولكن، بالمعنى المعاكس، فإن خلاص الإنسان في المسيح هو أيضًا رجاء أكيد للخليقة: إنّ الخليقة نفسها في الواقع “ستُحرَّر أيضًا من عبودية الفساد لتشارك أبناء الله في حريتهم ومجدهم”. لذلك، في فداء المسيح، يمكن التأمل بالرجاء في رباط التضامن بين البشر وسائر المخلوقات الأخرى.
أضاف الأب الأقدس يقول في الانتظار المفعم بالرجاء والمثابرة لعودة يسوع المجيدة، يُبقي الروح القدس الجماعة المؤمنة يقظة ويعلِّمها باستمرار، ويدعوها إلى الارتداد في أنماط الحياة، من أجل مقاومة التدهور البشري للبيئة وإظهار أن النقد الاجتماعي هو أولاً شهادة على إمكانية التغيير. يقوم هذا الارتداد على الانتقال من غطرسة الذين يريدون أن يسيطروا على الآخرين وعلى الطبيعة – التي تحوّلت إلى شيء يمكن التلاعب به – إلى تواضع الذين يعتنون بالآخرين وبالخليقة. إن الإنسان الذي يدعي أنه يحل محل الله يصبح أكبر خطر على نفسه، لأن خطيئة آدم قد دمرت العلاقات الأساسية التي يعيش منها الإنسان: العلاقة مع الله، ومع نفسه ومع البشر الآخرين، والعلاقة مع الكون. يجب إعادة إقامة جميع هذه العلاقات، بشكل تآزري، وحفظها، و”تصحيحها”. ولا يمكن لأي منها أن تغيب. وإذا غابت واحدة، فشل كل شيء.
تابع الحبر الأعظم يقول أن نرجو ونعمل مع الخليقة يعني في المقام الأول توحيد الجهود، والسير مع جميع الرجال والنساء ذوي الإرادة الصالحة، والمساهمة في “إعادة التفكير في مسألة السلطة البشرية، ومعناها وحدودها. إنّ سلطتنا في الواقع، قد زادت بشكل محموم في غضون بضعة عقود فقط. لقد حققنا تقدماً تكنولوجياً مبهراً ومدهشاً، ولكننا لا ندرك أننا في الوقت عينه قد أصبحنا في غاية الخطورة، وقادرين على أن نعرِّض حياة العديد من الكائنات وحياتنا للخطر”. سلطة لا يمكن ضبطها تولد الوحوش وتنقلب ضدنا. لذلك، من الملحِّ اليوم أن نضع حدودًا أخلاقية لتطوير الذكاء الاصطناعي، الذي يمكن استخدامه، بقدراته على الحساب والتمويه، للسيطرة على الإنسان والطبيعة، بدلاً من وضعه في خدمة السلام والتنمية المتكاملة.
أضاف الأب الأقدس يقول إنّ الروح القدس يرافقنا في الحياة: لقد فهم ذلك الأطفال الذين اجتمعوا في ساحة القديس بطرس في يومهم العالمي الأول، والذي تزامن مع أحد الثالوث الأقدس. إنّ الله ليس فكرة مجردة عن اللانهاية، بل هو أب محب وابن وصديق وفادي لكل إنسان والروح القدس الذي يرشد خطواتنا على درب المحبة. إن الطاعة لروح المحبة تغير موقف الإنسان بشكل جذري: من “مفترس” إلى “فلاح” للبستان. إنّ الأرض قد أوكِلت للإنسان، لكنها تبقى لله. هذه هي المركزية البشرية اللاهوتية للتقليد اليهودي المسيحي. لذلك، فإن الادعاء بأننا نمتلك الطبيعة ونسيطر عليها، ونتلاعب بها بحسب رغبتنا، هو شكل من أشكال عبادة الأصنام. إنه الرجل البروميثوسي، المخمور بقوته التكنوقراطية، الذي يضع الأرض بغطرسة في حالة “غياب النعمة”، أي بدون نعمة الله. والآن، إذا كانت نعمة الله هي يسوع المائت والقائم من بين الأموات، فصحيح إذن ما قاله بندكتس السادس عشر: “ليس العلم هو الذي يفدي الإنسان. وإنما الإنسان يُفتدى بالمحبة”، محبة الله في المسيح، التي لا شيء ولا أحد يمكنه أن يفصلنا عنها أبدًا. إذ تنجذب باستمرار إلى مستقبلها، إلا أن الخليقة ليست ثابتة أو منغلقة على نفسها. واليوم، وبفضل اكتشافات الفيزياء المعاصرة أيضًا، تظهر العلاقة بين المادة والروح لمعارفنا بطريقة مذهلة.
تابع الحبر الأعظم يقول وبالتالي فإن حماية الخليقة هي مسألة لاهوتية وأخلاقية بارزة: هي في الواقع تتعلق بالتشابك بين سر الإنسان وسر الله، ويمكن تسمية هذا التشابك “مولدًا”، لأنه يعود إلى فعل المحبة الذي به خلق الله الإنسان في المسيح. عمل الله هذا الذي يخلق ويعطي ويؤسس العمل الحر للإنسان وكل أخلاقيته: حر في كونه مخلوقاً على صورة الله الذي هو يسوع المسيح، ولهذا السبب “يمثل” الخليقة في المسيح نفسه. هناك دافع متسامٍ (لاهوتي-أخلاقي) يُلزم المسيحي بتعزيز العدالة والسلام في العالم، وذلك أيضًا من خلال الوجهة العالمية للخيور: إنه تجلّي أبناء الله الذي تنتظره الخليقة، وهي تئن من آلام المخاض. وما هو على المحك ليست حياة الإنسان الأرضية في هذا التاريخ، وإنما هناك بشكل خاص مصيره في الأبدية، نهاية نعيمنا، فردوس سلامنا، في المسيح رب الكون، المصلوب والقائم من بين الأموات محبة بنا.
وختم البابا فرنسيس رسالته بالقول أن نرجو ونعمل مع الخليقة يعني إذًا أن نعيش إيمانًا متجسدًا، يعرف كيف يدخل في جسد الناس المتألم والمفعم بالرجاء، ويشاركهم انتظار القيامة الجسدية التي قُدِّر للمؤمنين أن يعيشوها في المسيح الرب. في يسوع، الابن الأزلي في الجسد البشري، نحن حقًا أبناء الآب. بالإيمان والمعمودية تبدأ حياة المؤمن بحسب الروح، حياة مقدسة، وحياة أبناء الآب، مثل يسوع، لأن المسيح يحيا فينا بقوة الروح القدس. حياة تصبح أنشودة حبٍّ لله، وللبشرية، ومع الخليقة ومن أجلها، وتجد ملئها في القداسة.