“لا ننسَينَّ أبدًا أننا في نشاطنا الإرساليّ، نحن مدعوّون لكي نعلن الإنجيل للجميع، لا كمن يفرض واجبًا جديدًا، وإنما كمن يتقاسم فرحًا، وكمن يدلّ على أفق جميل، وكمن يقدّم وليمة شهيّة ” هذا ما كتبه قداسة البابا فرنسيس في رسالته بمناسبة اليوم الإرسالي العالمي الثامن والتسعين
تحت عنوان “اذهبوا وادعوا الجميع إلى العرس” صدرت ظهر اليوم الجمعة رسالة قداسة البابا فرنسيس بمناسبة رسالة البابا فرنسيس بمناسبة اليوم الإرسالي العالمي ٢٠٢٣ الذي سيحتفل به في العشرين من تشرين الأول أكتوبر ٢٠٢٤ كتب فيها الأب الأقدس لقد أخذت موضوع رسالة اليوم الإرسالي العالمي لهذا العام من المثل الإنجيليّ حول وليمة الملك. بعد أن رفض المدعوّون الدّعوة، قال الملك، بطل الرواية، لعبيده: “اذهَبوا إِلى مَفارِقِ الطُّرق وَادعُوا إِلى العُرسِ كُلَّ مَن تَجِدونَه”. بالتّأمل في هذا الكلمة الأساسية، في سياق حياة يسوع والمثل الذي يعطيه، يمكننا أن نسلّط الضّوء على بعض الجوانب المهمّة للبشارة. هي تظهر بشكل خاص آنية لنا جميعًا، نحن تلاميذ المسيح المُرسلين، في هذه المرحلة الأخيرة من المسيرة السّينودسية التي، وبالتطابق مع شعارها “شّركة، مشاركة ورسالة”، عليها أن تعيد إطلاق الكنيسة نحو التزامها الأوّلي، أي إعلان الإنجيل في العالم المعاصر.
تابع البابا فرنسيس يقول في بداية أمرِ الملك لعبيده فعلان يعبّران عن جوهر الرّسالة: “اذهبوا” و”ادعوا”. فيما يتعلّق بالفعل الأوّل، يجب أن نتذكّر أنّ العبيد كانوا قد أُرسلوا سابقًا لكي ينقلوا رسالة الملك إلى المدعوّين. وهذا يقول لنا إنّ الرّسالة هي الذّهاب بلا كلل نحو البشريّة جمعاء لدعوتها إلى اللقاء والشّركة مع الله. بلا كلل! إنَّ الله، العظيم في الحب والغنيّ بالرّحمة، هو في حالة خروج دائمة نحو كلّ إنسان لكي يدعوه إلى سعادة ملكوته، رغم اللامبالاة أو الرّفض. وهكذا يسوع المسيح، الرّاعي الصّالح ومرسل الآب، كان يذهب للبحث عن الخراف الضّالة من شعب إسرائيل وكان يرغب في أن يذهب أبعد من ذلك لكي يبلغ أيضًا الخراف البعيدة. فهو قد قال لتلاميذه: “اذهبوا!”، قبل قيامته وبعدها، وأشركهم في رسالته. ولهذا السّبب، ستستمرّ الكنيسة في الذّهاب أبعد من كلّ الحدود، والخروج مرارًا وتكرارًا بدون أن تتعب أو تيأس أمام الصّعاب والعقبات، لكي تتمِّم بأمانة الرّسالة التي نالتها من الرّبّ. أغتنم هذه الفرصة لكي أشكر المرسلات والمُرسلين الذين، وإذ أجابوا على دعوة المسيح، تركوا كلّ شيء لكي يذهبوا بعيدًا عن وطنهم ويحملوا البشرى السّارة حيث لم ينلها الناس بعد أو وصلت إليهم حديثًا. أيّها الأعزّاء، إن تفانيكم السّخي هو التّعبير الملموس للالتزام بالرّسالة إلى الأمم التي أوكلها يسوع إلى تلاميذه: “اذهَبوا وتَلمِذوا جَميعَ الأُمَم”. لذلك لنواصل الصّلاة ورفع الشّكر إلى الله على دعوات الإرساليّة الجديدة والمتعدّدة من أجل عمل البشارة حتّى أقاصيّ الأرض. ولا ننسَينَّ أنّ كلّ مسيحيّ هو مدعوّ لكي يشارك في هذه الرّسالة العالميّة بشهادته الإنجيليّة في كلّ بيئة، فتخرج هكذا الكنيسة بأسرها باستمرار مع ربّها ومعلّمها نحو “مَفارِقِ الطُّرق” في عالم اليوم. نَعم، إنَّ مأساة الكنيسة اليوم هي أنّ يسوع ما زال يقرع على الباب، ولكن من الدّاخل، لكي نسمح له أن يخرج! وفي كثير من الأحيان ينتهي بنا الأمر بأن نكون كنيسة لا تسمح للرّبّ يسوع بأن يخرج، وتمسك به “كشيء خاصّ بها”، فيما أنَّ الرّبّ قد جاء للرّسالة ويريدنا مرسلين”. لنستعد جميعًا، نحن المعمّدين، لكي نذهب مجدّدًا، كلّ بحسب ظرف حياته، لكي نبدأ حركة إرساليّة جديدة، كما حدث في فجر المسيحيّة! وبالعودة إلى أمرِ الملك للعبيد في المثل، نجد أن الذّهاب يتماشى مع الدّعوة: “تَعالَوا إِلى العُرْس!”. وهذا الأمر يُظهِر جانبًا آخر لا يقلّ أهميّة للرّسالة التي يوكلها الله لنا. وكما يمكننا أن نتخيّل، فقد نقل هؤلاء العبيد المُرسلون دعوة الملك بشكل مُلحٍّ وإنما باحترام ولطف كبيرَين أيضًا. والطّريقة عينها، على رسالة حمل الإنجيل إلى كلّ خليقة أن تتَّسم حتمًا بالأسلوب عينه للذي نبشِّر به. في إعلانهم للعالم لجمال محبّة الله الخلاصيّة التي ظهرت في يسوع المسيح الذي مات وقام من بين الأموات، قام التلاميذ المرسلون ذلك بفرح وسخاء ومحبّة، ثمار الرّوح القدس فيهم، وبدون إكراه أو إلزام أو اقتناص، وإنما وعلى الدوام بالقرب والرّحمة والحنان، وجميعها صفات تعكس أسلوب وجود الله وعمله.
تابع الأب الأقدس يقول في المثل، طلب الملك من العبيد أن يحملوا الدّعوة إلى وليمة عرس ابنه. هذه الوليمة تعكس الوليمة الإسكاتولوجيّة، وهي صورة للخلاص النّهائي في ملكوت الله، الذي تحقّق منذ الآن بمجيء يسوع، المسيح وابن الله، الذي منحنا الحياة بوفرة، والتي ترمز إليها مَأدُبَة “مُسَمِّناتٍ ذاتِ مُخٍّ ونَبيذٍ مُرَوَّق”، عندما “يُزيلُ الله المَوتَ على الدَّوام” (أشعيا ٢٥، ٦-٨). ورسالة المسيح هي رسالة ملء الأزمنة، كما أعلن ذلك في بداية كرازته: “تَمَّ الزَّمانُ وَاقْتَرَبَ مَلَكوتُ الله. فَتوبوا وآمِنوا بِالبِشارة”. وهكذا فإنّ تلاميذ المسيح مدعوّون لكي يواصلوا رسالة معلّمهم وربّهم نفسها. وفي هذا الصّدد، نتذكّر تعلِيم المجمع الفاتيكاني الثّاني حول الطّابع الإسكاتولوجية لالتزام الكنيسة الإرسالي: “إنَّ مرحلة النشاط الإرسالي تقع بين مجيء المسيح الأوّل والثّاني. فقبل مجيء الرّبّ يسوع ينبغي إعلان الإنجيل لجميع الأمم”. نعلَمُ أنّ الحماسة الرسوليّة بين المسيحيّين الأوائل كان لها بُعدٌ قويّ إسكاتولوجي. ولهذا كانوا يشعرون بإلحاح إعلان الإنجيل. واليوم أيضًا، من المهمّ أن نضع هذه الرّؤية أمامنا، لأنّها تساعدنا لكي نبشّر بفرح الذين يعرفون أنّ “الرّبّ قريب” وبرجاء الذين يتوقون نحو الهدف، عندما سنصبح جميعنا مع المسيح في وليمة عرسه في ملكوت الله. وبينما يقدّم لنا العالم “الولائم” المتنوّعة، للاستهلاك والرَّخاء الأنانيّ والتكديس والفرديّة، يدعو الإنجيل الجميع إلى الوليمة الإلهيّة، حيث يسود الفرح والمشاركة والعدالة والأخوّة، في شركة مع الله ومع الآخرين.
أضاف الحبر الأعظم يقول إنَّ مِلءُ الحياة هذا، عطيّة المسيح، قد استبقته الآن وليمة الإفخارستيّا، التي تحتفل بها الكنيسة بحسب وصيّة الرّبّ لذكره. وهكذا، فإنّ الدّعوة إلى الوليمة الإسكاتولوجية التي نحملها إلى الجميع في الرّسالة التبشيريّة، ترتبط بشكلٍ أساسيّ بالدّعوة إلى المائدة الإفخارستيّة، حيث يغذينا الرب بكلمته وبجسده وبدمه. كما علّمنا البابا بندكتس السّادس عشر: “في كلّ احتفالٍ إفخارستي، يتحقّق بشكل أسراري لقاء شعب الله الإسكاتولوجي. إنَّ الوليمة الإفخارستيّة هي بالنّسبة لنا استباق حقيقيّ للوليمة الأخيرة، التي أعلنها الأنبياء ووصفها العهد الجديد بأنّها “عُرسُ الحَمَل”، الذي سنحتفل به في فرح شركة القدّيسين”. لذلك، جميعنا مدعوّون لكي نعيش كلّ احتفال إفخارستي بشكل أعمق في جميع أبعاده، ولا سيّما في بُعدَيه الإسكاتولوجيّ والإرساليّ. وأعيد التأكيد في هذا الصّدد أنّه لا يمكننا أن نقترب من المائدة الإفخارستيّة بدون أن ندخل في حركة الرّسالة التي إذ تنطلق من قلب الله تهدف إلى بلوغ جميع البَشر. إنَّ التّجدّد الإفخارستي، الذي تعزّزه وتدعمه كنائس محلّيّة كثيرة بشكل جدير بالثّناء في فترة ما بعد فيروس الكورونا، سيكون أيضًا أساسيًّا من أجل إعادة إيقاظ الروح الإرسالي في كلّ مؤمن. فبِكَم من الإيمان واندفاع القلب علينا أن نُعلن في كلّ قدّاس: “إِنَّنا نُبَشِّرُ بـموتِك، ونعتـرِفُ بقيامتك، إلى أن تأتيَ، يا رب”! في هذا المنظور، وفي السّنة المكرّسة للصّلاة استعدادًا ليوبيل سنة ٢٠٢٥، أريد أن أدعو الجميع لكي يكثّفوا بشكل خاص مشاركتهم في القدّاس وفي الصّلاة من أجل رسالة الكنيسة التبشيريّة. فهي إذ تُطيع كلمة المخلّص، لا تكفّ عن أن ترفع إلى الله في كلّ احتفالٍ إفخارستيّ وليتورجيّ، صلاة الأبانا قائلة: “ليَأْتِ مَلَكُوتُكَ”. وهكذا، فإنّ الصّلاة اليوميّة، والإفخارستيّا بشكل خاص، تجعلاننا حُجّاج رجاء مُرسلين، في مسيرة نحو حياة لا تنتهي في الله، ونحو وليمة العرس التي أعدّها الله لجميع أبنائه.
تابع البابا فرنسيس يقول أما التّأمّل الثّالث والأخير فيتعلّق بالذين وجّه لهم الملك الدعوة: “الجميع”. كما سبق وقلت، “هذا هو قلب الرّسالة: “الجميع”، بدون أن نستبعد أحدًا. الجميع. وبالتالي، فإن كلّ رسالة نقوم فيها تُولد من قلب المسيح لكي تسمح له بأن يجذب الجميع إليه. واليوم أيضًا، وفي عالمٍ تمزّقه الانقسامات والصّراعات، يشكّل إنجيل المسيح الصّوت الوديع والقويّ الذي يدعو البشر لكي يلتقوا ببعضهم البعض ويعترفوا بأنهم إخوة ويفرحوا بالتناغم بين الاختلافات. إنَّ الله يريد أن “يَخْلُصَ جَميعُ النَّاسِ ويَبلُغوا إِلى مَعرِفَةِ الحَقّ”. لذلك، لا ننسَينَّ أبدًا أننا في نشاطنا الإرساليّ، نحن مدعوّون لكي نعلن الإنجيل للجميع، لا كمن يفرض واجبًا جديدًا، وإنما كمن يتقاسم فرحًا، وكمن يدلّ على أفق جميل، وكمن يقدّم وليمة شهيّة”. إنَّ تلاميذ المسيح المرسلون يحمِلون دائمًا في قلوبهم هَمَّ جميع الأشخاص من كلّ حالة اجتماعيّة أو حتّى أخلاقيّة. يقول لنا مَثَل الوليمة إنّه وباتباع وصيّة الملك، جَمَعَ العبيد “كُلَّ مَن وجَدوا مِن أَشْرارٍ وأَخيار”. كذلك، كان “الفُقَراءِ والكُسْحانِ والعُمْيانِ والعُرْجان”، أيّ الأخيرين والذين يهمِّشهم المجتمع، المدعوّين المميّزين للملك. وهكذا، تبقى وليمة عرس الابن التي أعدّها الله، مفتوحة دائمًا للجميع، لأنّ محبّته لكلّ واحدٍ منّا هي كبيرة وغير مشروطة. “إِنَّ اللهَ أَحبَّ العالَمَ حتَّى إِنَّه جادَ بِابنِه الوَحيد، لِكَي لا يَهلِكَ كُلُّ مَن يُؤمِنُ بِه، بل تكونَ له الحياةُ الأَبدِيَّة”. أي شخص، كلّ رجل وكلّ امرأة هو موضوع دعوة الله لكي يشارك في نعمته التي تحوِّل وتخلّص. علينا فقط أن نقول “نَعم” لهذه العطيّة الإلهيّة المجانيّة، ونقبلها ونسمح لها أن تحوِّلنا، ونلبسها كـ “لِباس عُرس”. إنَّ الرّسالة للجميع تتطلّب التزام الجميع. لذلك، علينا أن نواصل المسيرة نحو كنيسة سينودسيّة وإرساليّة في خدمة الإنجيل. إنَّ السّينودسيّة هي في حدّ ذاتها إرساليّة، والعكس صحيح، الرّسالة هي دائمًا سينودسيّة. لذلك، هناك حاجة ملحة وضروريّة اليوم لتعاون إرساليّ وثيق في الكنيسة الجامعة كما في الكنائس الخاصّة أيضًا. وعلى خُطى المجمع الفاتيكانيّ الثّاني وأسلافي، أُوصِي جميع أبرشيّات العالم بخدمة الأعمال الرسوليّة البابويّة، التي تشكّل الوسائل الأوليّة “التي تبعث في الكاثوليك، منذ سنّ الطّفولة، روح الكنيسة الجامعة والروح الإرساليّة، وتعزز جمع المساعدات المناسبة لصالح جميع الإرساليّات، وحسب حاجة كلٍّ منها”. لهذا، فإن حملة التّبرّعات في اليوم الإرسالي العالمي، في جميع الكنائس المحليّة، ستخصّص كلّها لصندوق التّضامن العام الذي ستقوم بتوزيعه الجمعيّة البابويّة لنشر الإيمان، باسم البابا، من أجل احتياجات جميع إرساليّات الكنيسة. لنرفع صلاتنا إلى الرّبّ لكي يرشدنا ويساعدنا لنكون كنيسة أكثر سينودسيّة وأكثر إرساليّة.
وختم البابا فرنسيس رسالته بمناسبة اليوم الإرسالي العالمي الثامن والتسعين بالقول لنوجّه في الختام، نظرنا إلى العذراء مريم، التي نالت من يسوع المعجزة الأولى في عرس قانا الجليل. لقد قدّم الرّبّ للعروسَين ولجميع المدعوّين وفرة الخمر الجديدة، كعلامة على وليمة العرس التي يعدّها الله للجميع في نهاية الأزمنة. لنطلب اليوم أيضًا شفاعتها الوالديّة من أجل الرسالة التبشيريّة لتلاميذ المسيح. وبفرح أمّنا عنايتها، وبقوّة الحنان والمحبة، لنذهب ونحمل للجميع دعوة الملك المخلّص. يا قدّيسة مريم، يا نجمة البشارة، صلّي لأجلنا!