وصل البابا فرنسيس إلى ديلي، عاصمة تيمور الشرقية، بعد ظهر اليوم الاثنين بالتوقيت المحلي قادما في بابوا غينيا الجديدة، حيث جرت مراسم الاستقبال الرسمي على أرض المطار. من هناك توجه الحبر الأعظم إلى مقر السفارة البابوية قبل أن ينتقل إلى القصر الرئاسي، حيث قام بزيارة مجاملة لرئيس الجمهورية راموس هورتا والتقى بعدها بممثلين عن السلطات المدنية والسلك الدبلوماسي والمجتمع المدني.
وجه البابا للحاضرين خطاباً استهله معربا عن امتنانه للترحيب الحار الذي لاقاه وشكر رئيس البلاد هورتا على الكلمة التي وجهها له. ثم لفت فرنسيس إلى أن قارتي آسيا وأوقيانيا تلتقيان في تلك الأراضي التي هي بعيدة عن أوروبا جغرافياً، لكنها قريبة في الوقت نفسه بسبب الدور الذي لعبته القارة القديمة هناك في القرون الخمسة الماضية، مشيرا إلى أن المرسلين الدومينيكان جاؤوا من البرتغال حاملين معهم الديانة الكاثوليكية واللغة البرتغالية التي هي اللغة الرسمية للدولة إلى جانب لغة “تيتوم”. وأضاف البابا أن المسيحية التي أبصرت النور في آسيا وصلت إلى تلك البقاع على يد مرسلين أوروبيين، شهدوا لدعوتهم العالمية والقدرة على التوفيق بين الثقافات المختلفة، التي وجدت من خلال لقائها بالإنجيل خلاصة أسمى وأعمق.
مضى البابا إلى القول إن أرض تيمور الشرقية عاشت مراحل مؤلمة وعرفت التوترات والعنف الذي يلقاه الشعب المطالب باستقلاله التام. وذكّر فرنسيس بأن البلاد عاشت بين العامين ١٩٧٨ و٢٠٠٢ سنوات صعبة جداً، لكنها عرفت أن تنهض من هذا الوضع وأن تجد الطريق المؤدي إلى السلام وانفتحت على مرحلة جديدة، مرحلة من التنمية وتحسين الظروف الحياتية، فضلا عن سعيها إلى الإفادة من الموارد الطبيعية والبشرية على مختلف المستويات. وقال البابا في هذا السياق إنه يود أن يشكر الله، لأن السكان لم يفقدوا الأمل على الرغم من المآسي، ولأنه أشرق عليهم فجر السلام والحرية، بعد سنوات من الظلمة والصعوبات.
لم تخل كلمة البابا من الإشارة إلى أهمية التجذّر في الإيمان بالنسبة لأهالي تيمور الشرقية، وهذا موضوع تطرق إليه البابا الراحل يوحنا بولس الثاني، خلال زيارته البلاد في تشرين الأول أكتوبر عام ١٩٨٩، عندما ذكّر بأن المؤمنين الكاثوليك لهم “تقليد فيه حياة العائلة والثقافة والعادات الاجتماعية، تقاليد لها جذور عميقة في الإنجيل وغنية بتعاليم وروح التطويبات وبالثقة المتواضعة بالله، وبالمغفرة والرحمة وبتحمل الألم بصبر أيام الشدة”.
مضى البابا فرنسيس إلى القول إنه يود أن يشيد بالتزام المؤمنين الدؤوب في تحقيق المصالحة الكاملة مع إخوتهم في إندونيسيا، لافتا إلى أن هذا الموقف وجد ينبوعه الأول والأنقى في تعاليم الإنجيل. فثابر المؤمنون على الرجاء حتى في الضيق، وبفضل طبيعة الشعب وإيمانه، تحول الألم إلى فرح. وسأل الله في هذا السياق أن تسود الرغبة في السلام في حالات الصراع الأخرى، في مختلف أنحاء العالم، لأن الوحدة أسمى من الصراع، وسلام الوحدة دائما أعلى من الصراع. ولهذا، قال البابا، نحتاج أيضا إلى تنقية معينة للذاكرة، لتضميد الجراح، لمكافحة الكراهية بالمصالحة، المواجهة بالتعاون. واعتبر فرنسيس أنه من الجيد التحدث عن “سياسة اليد الممدودة” لأنه أمر حكيم للغاية.
هذا ثم ذكّر الحبر الأعظم بأنه في الذكرى العشرين لاستقلال تيمور الشرقية استقبلت البلاد “إعلان الأخوة الإنسانية” كوثيقة وطنية، هذه الوثيقة التي وقعها البابا مع شيخ الأزهر في أبو ظبي. وأضاف أن أهالي تيمور الشرقية سعوا إلى اعتماد هذه الوثيقة وإدراجها في المناهج المدرسية.
بعدها حثّ البابا الجميع على الاستمرار بثقة متجددة في بناء وتعزيز مؤسسات الجمهورية بحكمة، كي يشعر المواطنون بأنهم ممثَّلون فعلا، وكي تكون المؤسسات نفسها مؤهلة لخدمة شعب تيمور الشرقية. وأضاف أنه انفتح اليوم أمام البلاد أفق جديد، خال من السحب السوداء، لكن توجد فيه تحديات جديدة لا بد من مواجهتها، ومشاكل جديدة يجب حلها. من هذا المنطلق تمنى البابا أن يستمر الإيمان الذي أنار السكان ودعمهم في الماضي، وأن يُلهم حاضرهم ومستقبلهم، وقال “ليكن إيمانكم هو ثقافتكم، أي ليُلهِم إيمانكم معاييركم ومشاريعكم وخياراتكم بحسب الإنجيل”.
تابع البابا خطابه يقول إنه يفكر بظاهرة الهجرة، التي هي دائما مؤشر على نقص أو عدم تثمينٍ للموارد، بالإضافة إلى صعوبة توفير عمل يحقق للجميع كسبا عادلا، ويضمن للعائلة دخلا يكفي احتياجاتها الأساسية. ولفت إلى أنه يفكر بالفقر في مناطق ريفية كثيرة، متوقفاً عند ضرورة العمل الجماعي الواسع الذي تشارك فيه القوى المتعددة والمسؤوليات المختلفة، المدنية والدينية والاجتماعية، لمعالجة الوضع وتقديم بدائل صالحة للهجرة.
وتطرق فرنسيس أيضا إلى آفات اجتماعية، مثل الإفراط في تناول الكحول وسط الشباب، وأضاف أنه لا ينسى الأطفال الكثيرين والمراهقين المجروحين في كرامتهم، وقال: كلنا مدعوون لأن نعمل بمسؤولية من أجل منع كل نوع من أنواع سوء المعاملة وضمان نمو سلمي للشباب.
واعتبر الحبر الأعظم أنه من أجل حل هذه المشاكل، ومن أجل الإدارة المثلى للموارد الطبيعية للبلاد لا بد من إعداد الأشخاص المناسبين الإعداد الملائم، ليكونوا الطبقة الحاكمة في البلاد في المستقبل القريب، فتوضع بتصرفهم جميع الأدوات اللازمة للتخطيط لمشاريع واسعة النطاق وخدمة الصالح العام وحسب. وشدد البابا على أن الكنيسة تضع تعليمها الاجتماعي كأساس لعملية التنشئة هذه. وهي ركيزة لا غنى عنها من أجل وضع المكتسبات المحققة في خدمة التنمية المتكاملة.
مضى البابا إلى القول إن ما يقارب خمسة وستين بالمائة من سكان تيمور الشرقية هم دون الثلاثين من العمر، ما يسلط الضوء على ضرورة الاستثمار في التربية والأسرة والمدرسة. وقال: أنا سعيد بما تعلمته من الرئيس، أعتقد أن هناك بالفعل العديد من الجامعات، على الرغم من وجود عدد كبير جدا، وهناك العديد من المدارس الثانوية بالفعل، وهو أمر ربما لم يكن موجودا قبل عشرين عاما.
واعتبر الحبر الأعظم أن هذا معدل نمو كبير جدا، أي الاستثمار في التعليم والتربية الأسرية والتعليم المدرسي. وأكد فرنسيس في هذا السياق أن الكنيسة الكاثوليكية ومؤسساتها هي في خدمة الجميع وهي أيضا مورد ثمين يساعد على النظر إلى المستقبل بعيون مفعمة بالأمل. وعبر عن تقديره للدعم الحكومي الذي تلقاه الكنيسة المحلية على هذا الصعيد.
في ختام كلمته إلى الممثلين عن السلطات المدنية والسلك الدبلوماسي والمجتمع المدني في ديلي أكد البابا فرنسيس أن تيمور الشرقية تعيش اليوم كبلد مسالم وديمقراطي، بلد ملتزم في بناء مجتمع متضامن وأخوي، وفي تطوير علاقات سلمية مع الجوار. وقال: “بالنظر إلى ماضيكم القريب وما تم إنجازه حتى الآن، هناك سبب للثقة في أن أمتكم ستكون قادرة بالقدر نفسه على معالجة صعوبات ومشاكل اليوم بذكاء وإبداع”. وسأل العذراء أن ترافق المواطنين وتساعدهم في مهمة بناء بلد حر وديمقراطي ومتضامن، لا يشعر فيه أحد بالإقصاء ويعيش كل مواطن بسلام وكرامة.