“باسم قداسة البابا، وبكل ثقة ورجاء، أجدد هذا النداء إلى جميع أصحاب المسؤولية، لكي يتمَّ التوصل بسرعة إلى انتخاب رئيس للجمهوريّة ولكي تتمكن البلاد مرة أخرى من أن جد الاستقرار المؤسساتي الضروري لمواجهة التحديات الراهنة بجدية” هذا ما قاله أمين سر دولة حاضرة الفاتيكان في عظته مترئسًا القداس الإلهي في في كنيسة القديس يوسف للآباء اليسوعيين في بيروت
ختم أمين سر دولة حاضرة الفاتيكان الكاردينال بيترو بارولين يومه الأول في بيروت، بقداس في كنيسة القديس يوسف للآباء اليسوعيين بمناسبة الذكرى الأربعين لتأسيس منظمة فرسان مالط وعيد مولد القديس يوحنا المعمدان وللمناسبة ألقى الكاردينال بارولين عظة قال فيها إنَّ القديس يوحنا المعمدان هو الوحيد، بعد مريم العذراء، الذي نحتفل بميلاده، قبل ستة أشهر بالضبط من ميلاد الرب يسوع، وبموته (في ٢٩ آب أغسطس). في حين أنه من الطبيعي بالنسبة لنا أن نتأمل في ميلاد يسوع، إلا أننا ربما لسنا معتادون على أن نتوقف عند الجوانب التي يصفها لنا إنجيل اليوم. لكن الشخصيات التي تظهر في هذه الرواية ستساعدنا على الدخول في السرِّ الذي نحتفل به.
تابع الكاردينال بارولين يقول أولاً هناك أليصابات، الأم. هي من نسل هرون، كانت عاقرا وكبيرة في السن، لكن صلاتها استجابت وحبلت بابن، واعترفت أن الرب نظر إليها ليزيل عنها العار بين الناس. وبقيت مختبئة خلال ستة أشهر وصولاً إلى لقائها بنسيبتها مريم من الناصرة. عندها اعترفت بالمخلص، وامتلأت من الروح القدس وهتفت: “مباركة أنت في النساء! ومباركة ثمرة بطنك!”. ونسمع صوت أليصابات مجدّدًا في إنجيل اليوم، عندما أعلنت بحزم، عند ولادة ابنها: “اسمه يوحنا”. بعد هذه الأحداث، لن تظهر أليصابات مجدًّدًا في الأناجيل. لقد اكتمل الوقت بالنسبة لها لأنها رأت أن الوعد الذي قطعه الله لها قد تحقق. لقد تركت أليصابات للتاريخ يوحنا، سابق يسوع. لنفكر بفرح هذه المرأة عندما حان وقت ولادتها: “فسمع جيرانها وأقاربها بأن الرب رحمها رحمة عظيمة، ففرحوا معها”. علينا أن نكون شهودًا لهذا الفرح وهذا الامتنان، لأننا أيضًا قد اعترفنا بالخلاص الذي يأتي من المسيح. في عالم أصبح أكثر فأكثر فريسة للخطيئة والحسد والانقسام والصراع وغياب المغفرة، يصبح الفرح المسيحي – الذي هو أكثر من مجرد فرح عابر – ضروريًا أكثر من أي وقت مضى.
أضاف أمين سر دولة حاضرة الفاتيكان يقول إلى جانب أليصابات، هناك الأب زكريا. الذي كان كاهناً للهيكل الذي بأورشليم من جماعة أبيا. ولما دخل الهيكل لكي يقدم البخور، ظهر له الملاك جبرائيل وأخبره أن امرأته ستلد ابنا، وأنّه سيُدعى يوحنا. لقد قلق زكريا وشكّ؛ وعندها فقد القدرة على النطق حتى يوم ولادة ابنه. وكما قرانا في الإنجيل، كان على الحاضرين أن يتواصلوا معه من خلال الإشارات، كما لو كان أصمًّا. ولما كتب اسم يوحنا انحل لسانه وامتلئ من الروح القدس. وقال هذه الكلمات النبوية: “تبارك الرب إله إسرائيل لأنه افتقد شعبه وافتداه”. وأنشد زكريا ترنيمة طويلة، بدلًا من أن يشعر بالأسف على نفسه لعدم إيمانه بكلمة رئيس الملائكة جبرائيل، عبَّر عن فرحه لأنه رأى عظمة الله بعينيه؛ وبفرح تنبأ أن النجم الآتي من العلى سيفتقدنا وسينير “المقيمين في الظلمة وظلال الـموت”، واعترف هكذا بمجيء المسيح. وعلينا نحن أيضًا أن نقتدي بالإيمان والرجاء اللذين حركاه. ومن المشجع أن نعرف أنه إذا لم نكن مستعدين للإجابة على إرادة الرب، فهو – الذي يعرفنا عن كثب – يعرف كيف يستخدم الأدوات لكي يمنحنا فرحه. ونلاحظ أن صمت زكريا هو علامة انتظار لصوت أقوى، صوت يوحنا عندما سيصرخ في البرية.
تابع الكاردينال بارولين يقول وأخيرا هناك يوحنا، الابن المنتظر، السابق. هو يمثل العبور بين العهدين القديم والجديد. ويمكننا أن نقول إنه في الوقت عينه أول رسل يسوع وآخر الأنبياء. يذكرنا الإنجيلي لوقا، في رواية ميلاده، أن حقيقة المجيء إلى النور، والولادة، هي دائمًا تحقيق مخطط المحبة، وهذا الأمر يتطلب التخلي عن فكرة أن الحياة يقودها قدر مجهول. وكما سمعنا في القراءة الأولى من النبي إشعياء: “إِنَّ الرَّبَّ دَعاني مِنَ البَطْن، وذَكَرَ اسْمي مِن أَحْشاءِ أُمِّي”. الله هو الذي صَوَّر كُليَتَيَّ وَنَسَجني عِندَما كُنتُ جَنينا ولهذا يمكننا أن نرنم مع المزمور “عَجيبَةٌ أَعمالُكَ وَقَد عَرَفَت نَفسي ذاكَ يَقينا”. يمكننا أن نقول حقًا إن يوحنا هو معجزة محبة الله، كما هو أيضًا كل واحد منا؛ نحن ثمينون في عينيه. ونحن أيضًا مدعوون لكي نسير على خطى يوحنا. ويسوع نفسه، الذي سيعتمد أيضًا على يد يوحنا، سيتحدث عنه بهذه الكلمات: ” الحق أقول لكم: لم يظهر في أولاد النساء أكبر من يوحنا المعمدان، ولكن الأصغر في ملكوت السماوات أكبر منه”. أما يوحنا، فحالما تعرف على يسوع، لم يتردد في أن يتنحى جانبًا، ويعلن: “هوذا حمل الله الذي يرفع خطيئة العالم”. إنَّ صوته القوي قد هز اليهودية لأن “يوحنا المعمدان قد هيأ المجيء، إذ أعلن أمامه معمودية التوبة لجميع شعب إسرائيل”، كما يذكرنا بولس، الذي نُقلت كلماته إلينا في القراءة الثانية. بحسب كلماته، لا فائدة من أن تكون ابنًا لإبراهيم إذا لم تمارس العدالة، التي يعطينا أيضًا قواعده من خلال حثنا على إنتاج “ثمار تليق بالتوبة”. وكان يوحنا يجيب الذين يسألونه ماذا نعمل: “من كان عنده قميصان، فليقسمهما بينه وبين من لا قميص له. ومن كان عنده طعام، فليعمل كذلك”.
أضاف أمين سر دولة حاضرة الفاتيكان يقول إن الاهتمام بـ “من ليس لديه شيء” هو ما يميز عملكم هنا في لبنان، كأعضاء في منظمة فرسان مالطا. ومن الجميل أن نسمع أنه، في اللغة المستخدمة داخل المنظمة، يُطلق على الأشخاص المعوزين: “الأسياد المرضى”. وكما ذكّرنا البابا فرنسيس مؤخرًا، “على مدى قرون، خدمت منظمتكم الله والكنيسة من خلال تحقيق الأهداف التي أسسكم من أجلها الطوباوي جيرار، أي تعزيز مجد الله وتقديس الأعضاء من خلال الدفاع عن الإيمان وخدمة الفقراء. في الواقع، لا يمكن الفصل بين الدفاع عن الإيمان وخدمة الفقراء. وعندما نقترب من الأخيرين، والمرضى، والمتألمين، لنتذكر أن ما نقوم به هو علامة شفقة وحنان يسوع”. إنَّ عملكم ليس مجرد عمل إنساني. بل هو يتميز عن العديد من المؤسسات أو الجمعيات لكونه عملاً دينياً مبنياً على الإيمان بالمسيح ويمجد الله من خلال خدمة الضعفاء، مظهراً تفضيل الرب لهم. ليحملكم الوضع الاقتصادي الخطير في لبنان لكي تكونوا أكثر سخاءً لتلبية احتياجات الأشخاص الأكثر احتياجًا، ولكي تسعوا إلى تخفيف العبء عن العديد من الأشخاص، في الرجاء بمستقبل أفضل وأكثر عدلاً وإنصافًا. أنتم مدعوون لكي تظهروا في خدمتكم فرح وإيمان ورجاء أليصابات وزكريا، اللذين اعترفا أن الخلاص يأتي من الرب يسوع. كونوا شهودًا لذلك كما كان يوحنا المعمدان أيضًا شاهدًا للمسيح!
تابع الكاردينال بارولين يقول إنَّ الشهادة المسيحية تقوم على المحبة والمعرفة العميقة بالرب يسوع. لا يمكن لشهود المسيح الحقيقيين أن يتجاهلوا انتمائهم إلى الكنيسة، والحاجة إلى نوال الأسرار بانتظام، ولا سيما سرَّي الإفخارستيا والمصالحة. نحن اليوم بحاجة ماسة إلى شهود صادقين. يجب أن نكون كذلك على المستوى الشخصي، وأن نظهر من خلال تماسك حياتنا كل جمال الإيمان والرجاء والمحبة في المسيح. على العائلة المسيحية أيضاً أن تشهد لذلك، باعتبارها الخليَّة المكوِّنة للمجتمع. وبهذا المعنى، لا يجب عليها أن تخاف من أن تختار بحسب إنجيل يسوع. على الكنيسة في لبنان أن تشهد أيضًا، وفقًا لرسالتها السامية في الحفاظ على رسالة “العيش معًا” حية وفعالة، والتي تميّز وطن الأرز. وعلينا نحن أيضًا أن نكون شهودًا على المستوى الوطني والإقليمي والدولي، بدون أن نخاف من أن ننشر إنجيل المسيح في الحياة العامة. وفي هذا الصدد، اسمحوا لي أن أؤكد أننا نشعر منذ أشهر بفراغ كبير. يغيب صوت مسيحي من شأنه أن يحدث فرقاً بلا شك؛ يغيب صوت رئيس جمهوريّة لبنان. وهذا الغياب يثقِّل كثيرًا في هذه المرحلة الخطيرة بالنسبة للشرق الأوسط. باسم قداسة البابا، وبكل ثقة ورجاء، أجدد هذا النداء إلى جميع أصحاب المسؤولية، لكي يتمَّ التوصل بسرعة إلى انتخاب رئيس للجمهوريّة ولكي تتمكن البلاد مرة أخرى من أن جد الاستقرار المؤسساتي الضروري لمواجهة التحديات الراهنة بجدية.
وختم أمين سر دولة حاضرة الفاتيكان الكاردينال بيترو بارولين عظته بالقول أود أن أختم مذكِّرًا بكلمات القديس يوحنا بولس الثاني: “إن جهود كل شخص من أجل محبة الرب وكنيسته ستحمل ثمارًا كثيرة للحياة الكنسية وللمجتمع اللبناني بأكمله. حينئذٍ، سيتمكن لبنان، الجبل السعيد، الذي شهد بزوغ نور الأمم، أمير السلام، من أن يزدهر مجدّدًا الكامل؛ وسوف يجيب على دعوته بأن يكون نورًا لشعوب المنطقة وعلامة للسلام الذي يأتي من الله. وهكذا ستكون الكنيسة في هذا البلد فرح إلهها”. أوكلكم جميعًا إلى شفاعة القديس يوحنا المعمدان والعذراء مريم سيدة لبنان، وأجدد رغبتي في أن يكون إنجيل الخلاص مصدر قوة وفرح ورجاء لجميع رجال ونساء لبنان هذه الأرض، لكي، وكما يقول المزمور، يسمو الشعب كالنخل وينمو مثل أرز لبنان.