ترأس بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الملكيين الكاثوليك يوسف العبسي، الليترجيا الالهية خلال لقاء شبيبة ابرشية طرابلس، بمشاركة مطران طرابلس جاورجيوس ضاهر ولفيف من كهنة الابرشية.
واشار العبسي في كلمة ألقاها خلال اللقاء الى دور الشبيبة في بناء النفوس والاوطان وقال: “كم أنا مسرور في هذا اليوم بأن آتي إليكم بصحبة أخي سيادة المطران جاورجيوس راعي أبرشيّتكم، أبرشيّة طرابلس المحبوبة والمحروسة من الله. كم أنا سعيد بأن أقضي معكم هذا النهار الجميل، ملبّين كلّنا معًا دعوة السيّد المسيح إلى أن نجتمع وحاصلين على وعده بأنّنا إذا ما اجتمعنا باسمه فإنّه يكون في وسْطنا. أجل، اليوم اجتماعنا هو اجتماع بعضنا مع بعض واجتماع ُكلِّنا حول السيّد المسيح الذي دعانا إلى عنده كما دعا الرسل في إنجيل اليوم، دعانا عن طريق مطراننا وكهنتنا لكي نقضي معه بعض الوقت لنعرفه أكثر وأكثر ونسمع منه ما يريد منّا أن نكون وأن نعمل. لذلك هذه الساعات التي تعيشونها اليوم هي ساعات مميّزة ينبغي أن تعيشوها بملئها وقوّتها وجمالها”.
أضاف: “أنتم أبناء أبرشيّة طرابلس تأتون اليوم من كلّ رعاياها، من كلّ نواحيها، وتلتقون في البيت العائليّ حول راعيكم وأبيكم، تلتفّون بعضكم حول بعض، تشاهدون بعضكم بعضًا، تستمعون بعضُكم إلى بعض، تتعرّفون بعضكم إلى بعض، تأخذون قوّة بعضكم مع بعض، تفرحون بعضكم مع بعض، تصلّون بعضكم مع بعض. اليوم يرى كلّ واحد منكم أنّه ليس وحده بل له إخوة وأخوات كثيرون يحبّونه يقدّرونه يحترمونه مشتاقون إليه ومستعدّون ليقدّموا له كلّ مساعدة تُسعده وتنجّحه وتريحه وتفتح له آفاقًا جديدة. اليوم تشعرون بأنّكم لستم أفرادًا بل أنتم عائلة جميلة وقويّة متنوّعة المواهب والإمكانات، عائلةٌ تشبه العائلة التي صنعها يسوع من الرسل المتنوّعين الذين جمعهم حوله من أماكن مختلفة من بلدهم. اليوم تعرفون مَن تستطيعون أن تستندوا إليهم لتقوموا بأعمال جبّارة وثمينة وجميلة بعضكم مع بعض. أيّها الأحبّاء لا يخطرنّ على بال أحد منكم أنّكم متروكون وحدكم. نحن عائلة واحدة، عائلة الربّ يسوع”.
وتابع: “لقد أراد سيادة الأخ المطران جاورجيوس أن نلتقي اليوم بمناسبة مرور ثلاثمئة عام على شركة كنيستنا الأنطاكيّة البيزنطيّة الوحدةَ مع الكنيسة الرسوليّة الرومانيّة، مع كنيسة روما، في عام 1724. في هذا العام 2024 تريد كنيستنا في العالم أجمع أن تتذكّر ما حصل عام 1724 حين انقسمت بطريركيّة أنطاكية البيزنطيّة إلى قسمين، إلى أرثوذكس وكاثوليك. تريد كنيستنا، ونحن الشبابُ اليوم كلّنا معها، أن تصلّي من أجل أن نعود بعضنا إلى بعض ونتوب بعضنا إلى بعض وأن نطلب السماح والغفران من الربّ يسوع وأن نأخذ مقاصد لكي نكون أقرب بعضنا من بعض، كلَّ يوم أكثر من أمسه. في هذا العام بنوع خاصّ نصلّي من أجل أن يرى كلّ واحد منّا، نحن الشبابَ، مستقبلَ الكنيسة، كيف يمكنه أن يلبّي نداء الربّ يسوع لكي يكون تلميذًا ورسولًا ليسوع شاهدًا لإنجيله وخادمًا لوحدة الكنيسة. أراد سيادة المطران جاورجيوس أن نتذكّر معًا ذلك العام خصوصًا بالصلاة، وبالأخصّ معكم أنتم الشبابَ عصبَ الكنيسة لكي تتابعوا مسيرة الوحدة وتعملوا من أجل وحدة المسيحيّين وخيرهم”.
وقال العبسي: “أنتم في داخل الكنيسة وليس في خارجها. أنتم الكنيسة. كونوا قريبين بعضكم من بعض، منفتحين بعضكم على بعض، متقبّلين بعضكم لبعض، و كلُّنا معًا للذين من غير كنيستنا ومن غير ديننا. نحن ننتمي إلى كنيسة تتقبّل كلّ من يضعه الربّ على طريقنا، كنيسةٌ ترى في الاختلاف والتنوّع غنًى وجمالًا ونعمة من الله، كنيسةٌ لا تحدّ نفسها أو تطوّق ذاتها بمساحة واحدة أيًّا كان لون هذه المساحة في العِرق أو الثقافة أو التاريخ أو ما إلى ذلك. الانفتاح على الآخر، تقبّل الآخر كفيل بأن يزرع الفرح والسلام في حياتنا. الفرح بنوع خاصّ الذي هو غاية الغايات والذي أخذناه مباشرة من السيّد المسيح. لنكن أبناء الفرح ولنعطِ هذا الفرح للعالم ابتداء من محيطنا الصغير حتّى محيطنا الكبير. العالم في حاجة إليكم لكي تعطوه الفرح. فلا تبخُلوا على ِأحد”.
وأردف: “لا شكّ أنّ صعوباتٍ كثيرةً قاسيةً وتحدّياتٍ جمّةً قويّة تجابهكم، قد تشوّش الفرحَ الذي يسكن فيكم بالروح القدس المعطى لكم، قد تنزع الفرَحَ الذي هو ثمرة من ثمار هذا الروح. من بين هذه الصعوبات والتحدّيات عدمُ الاستقرار الذي نعيشه والذي هو حاجة ضروريّة حيويّة في الحياة العامّة وفي الحياة الوطنيّة على السواء. الاستقرار هو ما تسعون إليه لأنّه يسمح لكم بأن تؤمّنوا لأنفسكم مستقبلًا قابلًا للاستمرار، استقرارٌ لا يتعرّض للهزّات كلّما هبّت ريح ولا يجعل الشباب عينُه دومًا إلى الخارج ولا يشعر بأنّه مواطن يتمتّع بالحقوق وتقع عليه الواجبات التي للجميع بالسواء من دون تمييز. ما دمنا في بلد يميّز بين فئة وفئة على أساس العدد أو غير أساس العدد أو على أساس التوازن والتوافق لن يشعر الشاب بأنّه مواطن مواطن. لذلك عليكم أنتم الشباب أن تسعوا لزرع فكرة المواطنة بعيدًا عن كلّ تأثير آخر من شأنه أن يقضي عليها أو يشكّك بها. عليكم أن تتحلَّوا بإرادة جماعيّة لبناء الوطن المشتهى الذي يحلم به كلّ شابّ وكلّ فتاة. هل يعني ذلك أن نتخلّى عن إيماننا؟ كلًا. ليس من تضارب بين الاثنين، بين المواطنة والإيمان. الإيمان المعاش بشكل حسن يقود إلى المواطنة الصحيحة، والمواطنة الصحيحة تجد في الإيمان سندًا. ذلك أنّ الإيمان يقبل الآخر المختلف ويحبّ الآخر المختلف ويرى فيه إمكانيّة للعمل معًا والعيش معًا بسلام وسعادة، وذلك أنّ الإيمان يرى في الآخر إمكانيّةً لبناء وطن يسع الجميع مزدهرٍ متقدّم متطوّر”.
وأضاف: “بين أيديكم أنتم شبابَ اليوم وسائل كثيرة متنوّعة ومتطوّرة طرقُ استعمالها ووجهاتُ استعمالها لا تحصى. أنتم اليوم منذ نعومة أظفاركم بإزاء معطيات ومعلومات وخيارات كثيرة تفتح لكم دروبًا كثيرة تستطيعون أن تسلكوها، منها ما يقود إلى تعاستكم ومنها ما يقود إلى سعادتكم، منها ما يضرّكم ومنها ما ينفعكم. ما هي البوصلة في هذه الحال؟ على حسب مرحلة العمر: الأهل، المدرسة، البيئة، الكنيسة أو يسوع أو الإنجيل. أنتم كشباب مسيحيّ مدعوّون إلى أن تنظروا إلى هذه الأمور من وجهة نظر الكنيسة أو الإنجيل أو يسوع الذي وضعتم فيهم ثقتكم. إنّ المبادئ المسيحيّة هي التي عليها أن توجّهنا في استعمال كلّ ما لدينا من أدوات تواصل واستكشاف واطّلاع ومعرفة حتّى لا نذهب إلى حيث لا نجد السعادة والإنسانيّة والعدالة والمساواة والسلام. لا يمكن لادواتِ التواصل الاجتماعيّةَ ولا يجب أن تجعلكم تبتعدون أو تَقضون على مفاهيم العدالة والسلام والمساواة والأخوّة واحترام الإنسان وكرامة الإنسان، ولا أن تبتعدوا عمّا يدعونا يسوع إلى أن نعيشه في حياتنا في كلّ مناحيها، في البيت والمدرسة والعمل والمجتمع. التحدّيات كبيرة والتجارب كثيرة والضعوطات قويّة، إنّما إيمانكم بإنجيل يسوع وبقيمة الإنسان يقوّيكم”.
وتابع: “من أحلام الشباب، من أحلام كلّ واحد منكم، أن يجد عملًا يوفّر له حياة كريمة في الأرض التي أبصر النور عليها ونشأ وتربّى وكبر. يبدو أنّ هذا الحلم صعب المنال لعدد كبير من شباب اليوم ممّا يَضطرّهم إلى الهجرة سعيًا وراء هذا العمل الذي يحقّق لهم حلمهم. لا أحد، بنوع عامّ، يترك وطنه إلّا مضطرًّا. من المعروف أنّ الهجرة في أحيان كثيرة تعرّض صاحبها لمخاطر كثيرة جسيمة مادّيّة ونفسيّة وأخلاقيّة ومجتمعيّة. لكن إذا كان لا بدّ من الهجرة (والهجرة ظاهرة مجتمعيّة قديمة جدًّا أكانت إلى الداخل أم إلى الخارج)، فلتكن هذه الهجرة إيحابيّة أي أن يقبلها صاحبها ويجعل منها خيارًا ليستطيع أن يبني حياة جديدة حلوة كريمة. لا ينبغي للهجرة أن تحطّم صاحبها بل يجب أن تكون وسيلة، متى حصلت، للانطلاق إلى حياة جديدة برجاء وعزيمة وتصميم وفرح وكدّ كذلك. لا أحد منّا قادر اليوم أن يمنع الهجرة لأنّنا لا نملك البديل، إنّما في وسع كلّ واحد منّا أن يجعل من الهجرة وسيلة ممكنة لحياة أفضل من جميع النواحي حتّى من الناحية الإيمانيّة، من ناحية الالتزام بالإنجيل حيث تكون الرحال حطّت بنا. الحياة تعلمّنا في أشياء كثيرة أن نحوّل السلبيّات إلى إيجابيّات حتّى نتمكّن من السير إلى الأمام. كونوا إيجابيّين في حياتكم”.
ولفت الى ان “القليل الذي قلناه والكثير الذي لم نقله لضيق الوقت محرّكُه واحدٌ هو ما نسمّيه الرجاء المسيحيّ. الرجاء الذي لا يستطيع المسيحيّ أن يتخلّى عنه حتّى ولو كان علينا أن نرجو على خلاف كلّ رجاء كما يقول بولس الرسول، الرجاءُ الذي لولاه لما كان لحياتنا المسيحيّة معنى أو على الأقلّ قاعدةٌ نقف عليها. أشياء كثيرة في حياة اليومَ تجعل اليأس والخوف والقلق تدِبّ في قلوبنا وتكاد تجعل منّا أناسًا تعساء، تكاد تخطف منّا الفرح: الحالة الاقتصاديّة والحالة السياسيّة والحالة المجتمعيّة، وحالات أخرى. إلّا أنّ السيّد المسيح يدعونا إلى أن لا نخاف، إلى أن نثق به، إلى أن نؤمن بأنّ الانتصار هو في النهاية للخير والجمال والعدل والسلام والحقّ والحريّة. الانتصار هو لكم لأنّكم أنتم الرجاء وليس غيرُكم. هذا لا يعني أنّ العيش في الرجاء هو تأجيل ما يمكن تحقيقه من هذه الأمنيات إلى الغد. كما أنّ الرجاء لا يعني أن ننتظر عالـمًا أفضل حتّى نعمل نحقّق ما نصبو إليه، حتّى نعيش حياتنا الآن وهنا. ولا يعني الرجاء كذلك أن يأتي أحد ويعطيَنا ما نطمح به. الرجاء هو أن تبدأوا اليوم، أن تلتزموا اليوم. الرجاء يعاش في الحاضر ويباشَر في الحاضر ولو بالقليل. لذلك لا أقول لكم أنتم مستقبل الكنيسة فقط. بل أنتم أيضًا حاضر الكنيسة. مستقبل الكنيسة في حاضرها. ما تصنعونه اليوم هو مستقبلكم. فلنشمّر عن سواعدنا. إنّ لكم دورًا خاصًّا ينبع من كونكم شبابًا فبادروا إلى لعبه. لبّوا نداء السيّد المسيح: تعالوا وانظروا. هيّا اتبعوني”.
وختم العبسي: “باسم أخي سيادة المطران جاورجيوس إدوار ضاهر، وباسم كهنة الأبرشيّة والرهبان والراهبات العاملين فيها، وباسمي الشخصيّ، أشكركم على أنّكم لبّيتم النداء وأتيتم إلى هذا اللقاء مع يسوع. نتمنّى أن يكون فاتحة للقاءات شبابيّة أخرى تعود عليكم بالخير والبركة والسعادة والسلام. كما أنّي أشكر باسمكم سيادة الأخ الحبيب جاورجيوس مطرانِكم وأبيكم المحبّ المتفاني الأمين، والآباء الكهنة والرهبان والراهبات الذين يخدمونكم بمحبّة وغيرة وإخلاص. والشكر الأكبر الأوّل والأخير لله تعالى الذي قدّرنا أن نلنقي في هذا النهار المبارك. له المجد إلى دهر الداهرين. آمين”.