في عيد دخول السّيّدة إلى الهيكل، احتفل بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للرّوم الملكيّين الكاثوليك يوسف العبسيّ باللّيتورجيا الإلهيّة المقدّسة، في كنيسة سيّدة دمشق- القصور، بمشاركة النّائب البطريركيّ العامّ في دمشق المتروبوليت نيقولاوس أنتيبا وكهنة الرّعيّة، وبحضور جمع من المؤمنين.
تخلّلت القدّاس عظة ألقاها العبسيّ جاء فيها بحسب إعلام البطريركيّة: “فرحنا اليوم في عيد كنيستنا، عيد دخول السّيّدة العذراء إلى الهيكل، كبيرٌ إذ نشترك كلّنا معًا في الاحتفال به بإقامة اللّيترجيّا الإلهيّة، سرّ الإفخارستيّا الّتي توحّدنا بالمسيح يسوع وبعضنا ببعض وتجعلنا، كما يعلّمنا بولس في رسالة اليوم، “مجتهدين في حفظ وحدة الرّوح برباط السّلام مدركين أنّ الجسد واحد والرّوح واحد والرّجاء واحد والرّبّ واحد والإيمان واحد والمعموديّة واحدة” (أف ٤ ٣-٥).
المثل الّذي ضربه يسوع ونقله لوقا، مثل الغنيّ الجاهل، يحدّثنا عن علاقة الإنسان بالمال والمادّة. وليس هذا المثل هو الأوّل والأوحد حيث يتكلّم يسوع عن المال وخيرات الأرض داعيًا إلى التّرفّع عنها. ففي كلّ سانحة كان يحذّر من مغبّة الغرق فيها والاختناق في همّها.
السّامع لأقوال المسيح لا يسعه إلّا أن يتساءل عن إصراره على وجوب الحذر في تعامل الإنسان مع المال. لكن إذا ما أنعمنا النّظر في الإنجيل أو حتّى في الخبرة الحياتيّة اليوميّة نرى ما هو السّبب ليس السّبب احتقار المادّة لأنّها مادّة، وليس السّبب نظرتنا التّجزيئيّة إلى الإنسان الّتي تجعل منه روحًا من ناحية ومادّة من ناحية أخرى، وليس السّبب من ضرورة إخضاع المادّة للرّوح، إذ إنّ الإنسان في نظر الإنجيل هو كلٌّ غير متجزّئ تُحترم فيه أبعاده كلّها روحيّة كانت أو مادّيّة أو غير ذلك. السّبب الّذي من أجله يدعو المسيح إلى الحيطة في استعمال المال وفي السّعي إلى المادّة هو الخطر الكامن فيهما.
الخطر أوّلاً أن تزول علاقة الإنسان بالله بحيث يفقد إيمانه ورجاءه فلا يعود من ثمّة يحيا إلّا لما يملك وبما يملك. وهذه هي عبادة المال الّتي تتناقض وعبادة الله والّتي حذّر منها السّيّد المسيح. عبادة المال الّتي وقع فيها الغنيّ إذ بنى حياته على ما يملك، على ما غلّت له أرضه، واكتفى بما تعطيه هذه الأرض دون التفاتٍ إلى ما هو أبعد من ذلك، إلى حياة الإيمان والرّجاء، إلى الحياة مع الله وفي الله، حيث لا صدأ يأكل ولا سوس ينخر ولا سارق ينقّب كما يقول الإنجيل.
والخطر الكامن في استعمال المال والسّعي وراء المادّة، علاوةً على أنّه يُزيل علاقة الإنسان بالله، يزيل أيضًا علاقة الإنسان بأخيه الإنسان المبنيّة على المحبّة الأخويّة بجميع أشكالها العمليّة. فلئن حذّرنا المسيح من المال والمادّة فلأنّ فيهما خطر قتل المحبّة، خطر الانغلاق على الذّات دون التّفكير بالغير وإشراكه. فيعيش المرء إذّاك لملذّاته، لأكله وشربه هو دون سواه. وهذا ما فعله الغنيّ في المثل الّذي ضربه المسيح: “يا نفسي، إن لي خيرات كثيرة لسنين كثيرة فكلي واشربي وتنعّمي”. إنّها الأنانيّة في أبشع وأحطّ مظاهرها، أن لا يعيش المرء إلّا لنفسه.
بالمقارنة بين إنجيل اليوم وعيد اليوم تظهر لنا الفرق بين السّيّدة العذراء والغنيّ الجاهل. السّيّدة العذراء، بدخولها إلى الهيكل، تقدّم ذاتها بالكلّيّة لله تعالى. لا تفكّر بنفسها، براحتها وتنعّمها تركت أباها وأمّها وكلّ شيء لها وكلّ علاقة وانطلقت لتقيم في الهيكل، في بيت الله، فتصغي إليه وتتعلّم كيف تكون مطيعة لله عاملة ما يطلبه منها. وقد عبّرت عن ذلك فيما بعد حين كبرت وبشّرها الملاك بميلاد الرّبّ يسوع منها بقوّة الرّوح القدس فأجابته قائلة: “ها أنذا أمة للرّبّ فليكن لي بحسب قولك”. هذا الكلام قالته للملاك لأنّها مذ كانت صغيرة قدّمت ذاتها وحياتها لله. في الصّغر تركت بيتها وأباها وأمّها، وفي الشّباب تركت يوسف خطيبها لتكون عروسًا للسّيّد المسيح، تركت أحلامها وبرامجها ومشاريعها لتعمل بما يأمرها به الرّبّ الإله.
في حين أنّ الغنيّ الّذي تكلّم عنه السّيّد المسيح عمل عكس ما عملته السّيّدة العذراء. عمل من أجل راحته الذّاتيّة وراحته الشّخصيّة بدل أن يقدّم ذاته وحياته أو جزءًا منهما أخذ ما وسعه من المال وخزّنه ليتنعم به، ليأكل ويشرب من دون سواه. لم يعمل بحسب إرادة الرّبّ وتدبيره بل بحسب رغباته ومشيئته هو. وفي حين أنّ السّيّدة العذراء، بتقدمتها ذاتها لله، أعطت البشريّة الرّبّ يسوع، أعطتنا خلاصًا وفرحًا إلهيّين، ترك الغنيّ كلّ شي يتعفن ويتلف من دون أنّ يقدّم للبشريّة أيّ شيء.
في هذه المناسبة المقدّسة يسألنا الرّبّ يسوع ماذا نريد أن نصنع من حياتنا وماذا نستطيع أن نقدّم في حياتنا. هل نصنع حياتنا على غرار الرّجل الغنيّ الجاهل أم على غرار السّيّدة العذراء؟ غالبًا ما نفكّر في حياتنا بالمهنة الّتي نريد أن تحصل عليها والّتي تدّر علينا المال وتوفّر لنا الرّاحة متنعّمين فقط بالأكل والشّرب والتّنعّم على مثال الغنيّ. إنّما الحياة لیست فقط المهنة الّتي نمارسها في حياتنا. المهنة على أهمّيّتها بحدّ ذاتها لا تعطي معنى لحياتنا. المهنة قد تعطينا مالًا وراحة كما حصل للغنيّ. لكن الحياة ليست كلّها هكذا فقط، أن ندّخر لأنفسنا ولا نغتني الله. ما يعطي معنًى وطعمًا لحياتنا، ما يجعل حياتنا لها قيمة وثمن بحيث لا نقضيها هدرًا وضياعًا وبحيث لا تنتهي من دون أثر أو عمل مفيد، هو أن نصنع فيها المحبّة والرّحمة، كما علّمنا الرّبّ يسوع في إنجيل الأحد الماضي، أحد السّامريّ الرّحيم، الّذي ختمه السّيّد بقوله للرّجل الّذي سأله عن قريبه: “اذهب واعمل أنت أيضًا كذلك”، اصنع الرّحمة وهل الرّحمة والمحبّة إلّا نقيضان للأنانيّة الّتي سيطرت على الرّجل الغنيّ الجاهل، الأنانيّة القاتلة الّتي تقود إلى هلاك صاحبها؟ “في هذه اللّيلة تطلب منك نفسك، فهذا الّذي أعددته لمن يكون؟”.
نشكر حضرة الآباء الخادمين في هذه الرّعيّة نعيم ورأفت ومكاريوس على دعوتهم لنا للمشاركة في هذه اللّيترجيا الإلهيّة وأيضًا على الخدمة الّتي يخدمون بها أبناء هذه الرّعيّة، خدمة المحبّة والعطاء والتّفاني خدمة الإيمان، والرّجاء خدمة الفرح، ونسأل الله تعالى أن يمنّ عليهم بقداسة السّيرة وطول العمر ودوام الصّحّة نشكر جميع من يعاون الآباء في خدمتهم من وكلاء وأخويّات ونشاطات الجوق والكشّاف والتّعليم وإيمان ونور ورسالة الأولاد…
بارك الله حياتهم بكلّ خير. نشكركم أنتم الحاضرين المشاركين مع أبناء الرّعيّة كلّها تشكر المحسنين إلى رعيّتنا وكلّ من يخدم فيها. عوّض الله عليهم أضعافًا. وللجميع نقول كلّ عام وأنتم بخير”.