العبسيّ: لنقدّم للمسيح تعبنا وخوفنا وقلقنا وضعفنا والموت الّذي يجري فينا في كلّ حين

أحتفل صاحب الغبطة البطريرك يوسف العبسي الكلي الطوبى والجزيل الوقار بالليترجيا الإلهية المقدسة بمناسبة أحد الشعانين
في كاتدرائية سيدة النياح – حارة الزيتون يوم أمس 13 نيسان 2025.
وجاء في عظة صاحب الغبطة
انحدار السيد المسيح
شعانين ٢٠٢٥
في يوم الجمعة الذي يسبق سبت لعازر وأحد الشعانين، أول أمس، ختمت كنيستنا زمن الصوم الأربعينيّ المقدس، قائلة في صلاتها السحرية: “بإكمالنا الأربعين النافعة للنفس، نتوسل إليك يا محب البشر أن نشاهد أسبوع آلامك المقدسة، لنمجد فيها عظائمك وتدبيرك الممتنع الإدراك الذي أتممته لأجلنا، مترنّمين بعزم واحد: المجد لك أيها الرب”. والبارحة أقام يسوع لعازر من بين الأموات بحسب إنجيل يوحنا دون سواه من الإنجيليين. وفي هذا اليوم الأحد تحتفل بدخول السيد المسيح إلى مدينة أورشليم، مدينة القدس، هذا الحدث أورده الإنجيليون الأربعة وأوردوه كلهم على شكل انتصار للسيد المسيح، واصفين الاستقبال الملوكي المسيحاني الذي استقبله الناس به، ولو لم يكن هو يريد أو يتوقع ذلك. وغدا الاثنين نبدأ أسبوع الآلام الخلاصيّة الموقّرة. وفي الأحد القادم نحتفل بقيامة الربّ يسوع من بين الأموات.
۱ – سرّ الصليب والموت
كانت حياة يسوع كشفًا متدرجًا عن قدرته ومجده ولاسيما بواسطة عجائبه. لكن قدرة يسوع ومجده، يعني أنه ابن الله القادر على كل شيء حتى على الموت وأنه ملك الملوك ورب الأرباب كما يصفه سفر الرؤيا، ظهرا بأجلى بيان في سبت لعازر وفي أحد الشعانين حين أقام لعازر من بين الأموات وحين دخل أورشليم دخول الملك. ولئن كان الأمر كذلك فلكي نستطيع أن نفهم ماذا سيحصل في الأيام التي تليهما، أعني ما سوف يقاسي السيد المسيح من آلام وموت.
في الواقع، يبلغ السيد المسيح اليوم ذروة القدرة والمجد، ولكن لكي يبدأ يوم غد الاثنين مرحلة الانحدار إلى الجحيم، أعني إلى أسفل ما في البشرية من ألم بكل أشكاله، وشر بكل أشكاله، وموت بكل أشكاله، إلى عمق المأساة الإنسانية الكبرى. وانحدار يسوع هذا إلى الجحيم يعني أن يتخلى عن عظمته لكي يلبس حقارتنا، ولكن أيضًا لكي يحوّل من جديد هذه الحقارة إلى عظمة بقيامته من بين الأموات. وقد عبر القديس بولس عن هذه الحقيقة بقوله لأهل فيليبي: إنه “هو (يسوع) القائم في صورة الله، لم يعتد مساواته الله [حالة] مختلسة، بل لاشى ذاته آخذا صورة عبد، صائرًا شبيها بالبشر، فوجد كإنسان في الهيئة، ووضع نفسه وصار طائعا حتى الموت [بل] موت الصليب. لذلك رفعه الله [رفعة فائقة] وأنعم علين بالاسم الذي يفوق كل اسم” (في ٢ ٦-٩).
أجل إن يسوع، بعد عظمة البارحة واليوم يبدأ في هذا المساء عملية إفراغ ذاته من عظمة ألوهته لكي يلبس الإنسان الضعيف الميت ويعود فيقويه ويحييه. هذا ما نسميه سرّ صليب يسوع وموته وقيامته. وإن هذا السرّ هو من العظمة بحيث إننا لا نستطيع أن نفهمه إلا بقلب مؤمن. لذلك كان يسوع من إلى وقت آخر يحضر له تلاميذه وينبههم إليه لكي لا يفاجأوا ولا يخيب ظنهم ولا يضعفوا ولا يضعف إيمانهم حين يحصل ذلك قائلاً لهم: “ها نحن صاعدون إلى أورشليم، وابن البشر سيسلم إلى رؤساء الكهنة والكتبة فيحكمون عليه بالموت، ويدفعونه إلى الأمم ليسخروا به ويجلدوه ويصلبوه؛ وفي اليوم الثالث يقوم” (متّى ۲۰: ۱۸- ۱۹)
٠٢ – لو كنت هنا
يورد يوحنا الإنجيلي في روايته لإقامة لعازر أن مريم قالت ليسوع: “لو كنت هنا لما مات أخي”. وأردف أن يسوع لدى سماعه ذلك “ارتعش” و “اضطرب” و “بكى”، وأن بعض اليهود علق على ذلك بقولهم: “ألم يكن في وسعه، هو الذي فتح عيني الأعمى، أن يجعل هذا أيضًا لا يموت؟”. إن هذه الصرخة، صرخة الألم، تطلقها مريم تدل على ألمها بلا شك، لكنها تدل أيضًا وخصوصًا على إيمانها الراسخ بأن يسوع هو أقوى من الموت، وأنه حيث يكون يسوع ليس من موت. فهو الحياة. وكم كان توجع يسوع كبيرا بحيث إنه بكى، لأنه لم يمنع لعازر من أن يموت وكان قادرًا على منع الموت عنه. بكى يسوع لأنه كان في وده أن لا يدع لعازر يموت لكي يبرهن أن الموت ما عاد هو المنتصر الأخير. ومع ذلك ترك لعازر يموت أو يمر بخبرة الموت. لماذا؟ ليس من جواب لم يجب يسوع على سؤال اليهود كيف لم يجعل لعازر لا يموت. لم يكن سؤال اليهود هل يقيم يسوع لعازر أو لا يقيمه؟ بل كان لماذا لم يجعل لعازر لا يموت. أي لماذا لا يمنع يسوع الموت ولا يقضي عليه وهو الذي يقول عن نفسه إنه القيامة وإنّه أقوى من الموت. أي لماذا وكيف يترك الموت يتغلب عليه؟ لم يجب يسوع بل صمت ويكي، وكان جوابه بعد أسبوع أن مات هو أيضا، أن من هو أيضًا بخبرة الموت. وكأن الموت وما معه من ألم لا مناص منه لبلوغ الحياة.
03 – انحدارنا نحن المؤمنين
خاطب بولس يوما أهل رومة بقوله: أتجهلون أننا، جميع من اعتمدوا للمسيح، قد اعتمدنا لموته؟ فلقد دفنا إذن معه بالمعمودية للموت، حتى إننا كما أقيم المسيح من بين الأموات بمجد الآب، كذلك نسلك نحن أيضا في جدة الحياة” (روم ٦: ٣-٤). أجل، إننا نحن المؤمنين المعتمدين مدعوون إلى أن نمر بخبرة الموت في حياتنا، الموت بجميع أشكاله وصوره ولست في حاجة إلى أن أعدد حتى بعضها فأنتم تعرفونها وتعيشونها في كل يوم. إنما ما أود أن أقوله هو أن علينا أن نضع القيامة دومًا نصب أعيننا حين نمر بالموت كما يوصينا الرسول بولس الذي يضيف بقوله إلى رومة أيضًا: “نحن نعلم أن الخليقة كلها معا تئن حتى الآن وتتمخض وليس هي فقط، بل نحن أيضا، الذين لهم باكورة الروح، نحن أيضا نئن في أنفسنا منتظرين التبني افتداء أجسادنا” (روم ۸: ۲۲-۲۳).
نحتفل في هذا الصباح بدخول السيد إلى أورشليم متحلين بالرجاء والتفاؤل والفرح والسلام. يحتفل اليوم بهذا العيد بنوع خاص أطفالنا الذين يرسمون لنا علامة الرجاء والفرح بنضارتهم، بنقاوتهم، ببراءتهم بابتساماتهم، بتغريداتهم، أطفالنا الذين يذكروننا بأن ملكوت السماوات لهم ولأمثالهم بأن المستقبل لهم، المستقبل الذي نرجو أن يكون أكثر إنسانية، أكثر تضامنا وتراحما وتحاباً بحيث تتناقص وإن أمكن تزول الفروقات بين الناس، وبحيث يقوم عالم جديد، عالم العدالة والمساواة والسلام والفرح، فالأرض فيها متسع وخيرات الجميع قاطنيها.
ابتداء من هذا المساء نرافق السيد المسيح في انحداره إلى الألم والموت. لتكن مرافقتنا له تقدمة آلامنا وموتنا مصحوبة برجاء القيامة لنقدم له تعبنا وخوفنا وقلقنا وضعفنا والموت الذي يجري فينا في كل حين. ولنحمل مع هذه التقدمة العالم كله الرازح تحت نير الحرب والاستغلال والإهانة وما إليها، ولنضمه إلى المسيح المنحدر إلى الألم والموت لكي يقوم معه عالمًا جديدًا وخليقة جديدة.
+ يوسف
شعانين ٢٠٢٥