الراعي وجّه رسالة الميلاد: لا خلاص للبنان إلاّ بالعودة الى ثقافة الحياد الإيجابي ونتطلّع بتفاؤل الى يوم انتخاب الرئيس بعد فراغ مخزٍ خلافًا للدستور

رسالة الميلاد 2024
لصاحب الغبطة والنيافة البطريرك الكردينال مار بشارة بطرس الرَّاعي
بكركي في 24 كانون الأوّل 204
إخواني السادة المطارنة الأجلّاء،
قدس الرؤساء العامّين والرئيسات العامّات والإقليميّين والإقليميّات الجزيل احترامهم،
الرهبان والراهبات والكهنة المحترمون،
أيّها الإخوة والأخوات الأحبّاء،
“المجد لله في العلى وعلى الأرض السلام، والرجاء الصالح لبني البشر” (لو 2: 14).
نشيد الملائكة
1. عند مولد يسوع المسيح، مخلّص العالم وفادي الإنسان، أنشد الملائكة على مسمع رعاة بيت لحم: مجد الله في السماء، والسلام على الأرض، والرجاء في الإنسان. هذه معاني عيد الميلاد، أبادل بها التهاني بالعيد باسم الأسرة البطريركيّة، قدس الرؤساء العامّين والرئيسات العامّات، والإقليميّين والإقليميّات، شاكرًا لكم التهاني والتمنيات التي عبّرت عنها باسمكم حضرة الأمّ ندى طانيوس، الرئيسة العامّة للراهبات الباسيليّات الشويريّات المحترمة، مشكورة.
2. يتمجّد الله في السماء بابنه الأزليّ الذي صار إنسانًا في الزمن، مرسلًا من الآب مخلّصًا للعالم، وفاديًا للإنسان، فيخلّصه بنعمته، ويفتديه بدمه، ويجعله ابن الله.
وتسلّم الأرض السلام لكي يصنعه بنو البشر. فالسلام عطيّة سماويّة ثمينة، أخذت اسمًا على الأرض هو “المسيح سلامنا” (أفسس 2/ 14). هذا السلام مؤسّس على الحقيقة، ومبنيّ على العدالة، تنعشه المحبّة، وتجسّده الحريّة”. والإنماء الشامل للإنسان والمجتمع هو الاسم الجديد للسلام، وطريق السلام يمرّ عبر الإنماء.
أمّا الرجاء ففضيلة إلهيّة متأصّلة في الإيمان، وتغتذي بالمحبّة. والرجاء صلة وصل بين الإيمان والمحبّة، وبالتالي هي الفضيلة الأحبّ على قلب الله (Charles Péguy). فأصبحنا كمسيحيّين أبناء وبنات الرجاء. فلا قنوط أو يأس، مهما اشتدّت الظروف والأهوال. فكلّ ثقتنا نضعها في وعود المسيح، غير متّكلين على قوانا الذاتيّة بل على معونة نعمة الروح القدس.
سيكون لنا في سنة اليوبيل 2025، كلام تأمّليّ في مرسوم الدعوة لقداسة البابا فرنسيس بموضوع “الرجاء لا يخيّب”.
3. أنشد الملائكة هذا النشيد بعد بشرى الملاك لرعاة بيت لحم: “أبشّركم بفرحٍ عظيم يكون للعالم كلّه: لقد ولد لكم اليوم المخلّص، هو المسيح الربّ” (لو 2: 21-22). هذه البشرى بفرح عظيم هي أساس المجد في السماء، والسلام على الأرض، والرجاء لبني البشر. هي بشرى عمرها ألفا سنة، لكنّها بشرى تتجدّد كلّ يوم وفي كلّ مكان وزمان، ولكلّ شعب من شعوب الأرض. ولا شكّ في ذلك، فالمسيح هو مخلّص العالم وفادي الإنسان. هذه هي الرسالة التي نحملها إلى العالم كمسيحيّين، وهي أساس الثقافة المسيحيّة.
الثقافة المسيحيّة
4. إنّكم بمعظكم تمتلكون مدارس وجامعات، صروح ثقافة مسيحيّة. وتعلمون أنّ ثمّة رباطًا لا ينفصم بين كلمة الله والكلام البشريّ، الذي به يتواصل الله معنا. من هنا العلاقة بين كلمة الله والثقافة. في الواقع، لا يكشف الله ذاته للإنسان بطريقة مجيدة، بل بتبني لغات وصور وعبارات مرتبطة بثقافات مختلفة.
كتب القدّيس البابا يوحنا بولس الثانيّ في ارشاده الرسولي: “رجاء جديد للبنان”: تدرك المؤسّسات الكاثوليكيّة التربوية إنّها تسهم في بناء المجتمع بواسطة التربية التي هي فنّ تنشئة الأشخاص، وتسهم في تعميق الثقافة اللبنانيّة وفي تنمية الروابط بين الأجيال، وتسمح للشباب بأن يواجهوا بصفاء مستقبلهم، وبأن يجدوا أسبابًا للعيش وللرجاء. والمؤسسات التربوية الكاثوليكيّة تجتهد في تربية الأجيال الطالعة على الأسس الثقافيّة والروحيّة والخلقيّة التي تجعل منهم مسيحيّين ناشطين، وشهودًا للإنجيل، ومواطنين مسؤولين في بلادهم (الفقرتين 106، 107). ويذكّر البابا القديس بأن الثقافة اللبنانيّة هي ثقافة العيش المشترك، والحوار بين المسيحيّين والمسلمين، على مستوى الحياة والثقافة والمصير المشترك، وثقافة الحريات العامة والانفتاح على الدول. إيمانًا منكم بهذا الدور الثقافيّ والخلقيّ، فإنّكم تضحّون التضحيات الجسيمة في المثابرة على دور المدرسة والجامعة، على الرغم من كلّ التضحيات الماديّة في هذه الظروف الصعبة.
ثقافة الحياد
5. لا خلاص للبنان إلاّ بالعودة الى ثقافة الحياد الإيجابيّ الناشط، الذي يجعل منه ما هو في طبيعة نظامه السياسيّ، فيكون فيه جيش واحد لا جيشان، وسياسة واحدة لا سياستان، ولا يدخل في حروب ونزاعات أو أحلاف، بل يحافظ بقواه الذاتيّة على سيادة أراضيه ويدافع عنها بوجه كل معتدٍ، ولا يتدخّل في شؤون الدول. هذا الحياد يمكّن لبنان من القيام بدوره الفاعل كمكان لقاء وحوار بين الثقافات والأديان، ومدافع عن السلام والتفاهم في المنطقة.
فلا بدّ من المدرسة الكاثوليكيّة والجامعة ان تربّيا الأجيال الطالعة على ثقافة الحياد الإيجابيّ الناشط والفاعل.
6. كتب الدكتور ايلي يشوعي بشأن الحياد. فأقتبس منه ما يلي: في الحياد، تعايش الدول الحروب محايدة وتلتزم القرارات الدولية المتعلقة بالمسائل التجارية والمالية والاجتماعية، ولا تشارك في أي عمل عسكريّ، ولا تسمح بمرور القوّات الأجنبيّة او بإعداد عمليّات عسكريّة على أراضيها.
يعمل الحياد كمؤسسة استقرار تسمح بالحفاظ على التبادل التجاريّ والعلاقات الماليّة والبشريّة مع مختلف الفرقاء، خلال النزاعات الإقليميّة والعالميّة. وإنّ الالتزام الطويل بالحياد يخلق إرثًا من الاستقرار والصدقيّة يعزّزان ثقة المستثمرين والشركاء التجاريّين. الحياد في السياسة الدوليّة يسمح للدول المحايدة الإفادة اقتصاديًا من البقاء غير منحازة خلال النزاعات. ويمكن للدول الصغيرة كلبنان أن تستغلّ الحياد لتجنّب الضغوط المتعلقة بالانحياز السياسيّ فتتحوّل الى ملاذ آمن لرؤوس الأموال.
ليس الحياد مجرد موقف سياسيّ، بل هو موقف اقتصاديّ يدعم الاستقرار والمرونة الديبلوماسيّة والابتكار الإنتاجيّ والماليّ، ويؤمّن نموّ اقتصاد الدولة المحايدة.
نحن بحاجة الى ثقافة سياسية جديدة قائمة على الكفاية والصدقية والولاء والمحبة والحقوق والقانون والفضيلة. لا يمكن ان نجدها إلاّ في حكم سلطة ذات طابع سياسي – تقني يدركان أهمية الخيارات الخلاصيّة.
انتخاب رئيس للجمهوريّة
7. نتطلّع بثقة وتفاؤل الى التاسع من كانون الثاني المقبل، وهو اليوم المحدد لانتخاب رئيس للجمهوريّة بعد فراغ مخزٍ دام سنتين وشهرين، خلافًا للدستور، ومن دون أيّ مبرر لهذا الفراغ، سوى عدم الثقة بالنفس لدى نواب الأمة، بانتظار مجيء الاسم من الخارج. وهذا حيف كبير. فإنّنا نضع حدث انتخاب الرئيس في إطار السنة المقدسّة 2025 التي دعا اليها قداسة البابا فرنسيس ونتمنّاها لكم جميعًا سنة خير وبركات من نعم ميلاد الرب يسوع المسيح.
وُلد المسيح، هللويا!
بكركي، 24 كانون الأوّل 2024.