الراعي: ليضع الجميع فوق كلّ شيء هدف بناء الوحدة الوطنيّة بسبل جديدة ولغة جديدة وبخاصّة الولاء لوطننا النهائيّ لبنان

عظة البطريرك الكردينال مار بشاره بطرس الرَّاعي
أحد شفاء الأبرص
بكركي – الأحد 18 شباط 2024
“تحنّن عليه يسوع ومدّ يده ولمسه” (مر 1: 41)
1. عندما اقترب الأبرص من يسوع طالبًا شفاءه من برصه المعدي، الّذي فصله عن الجماعة بحكم الشريعة، تحنّن يسوع عليه، ومدّ يده ولمسه وطهّره من برصه”(راجع مر 1: 41). أربعة أفعال قام بها يسوع، وأعطاها كلّ مفاهيمها: “تحنّن على الأبرص، مدّ يده، لمسه، وشفاه.” وهكذا ترك لنا يسوع نهجًا في مقاربتنا لكلّ إنسان، وبخاصّة لكلّ من كان في حاجة جسديّة أو ماديّة أو روحيّة أو معنويّة. بهذه المقاربة نبني الأخوّة الإنسانيّة والسلام والوحدة بين الناس. وما أحوج العالم ومجتمعنا اللبنانيّ إلى هذه القيم الأساسيّة لشدّ أواصر العائلة الوطنيّة.
2. تفتتح رابطة كاريتاس لبنان في هذا الأحد حملة زمن الصوم 2024 وشعارها “من إيدك لباب السما”. وهو مستلهم من كلمة الربّ يسوع: “أكنزوا لكم كنوزًا في السماء” (متى 6: 20).وهي كنوز نكتسبها بمساعدة الذين دعاهم يسوع “إخوته الصغار” وهم “الجائع والعطشان والعريان والغريب والمريض والسجين(راجع متى 25: 35-46)، بمفهومها الجسديّ والماديّ والروحيّ والمعنويّ. كلّنا مدعوّون للمساهمة في هذه الحملة، عملًا بما يوجب علينا زمن الصوم من تصدّق وأعمال محبّة ورحمة. إنّ كاريتاس- لبنان هي جهاز الكنيسة الراعويّ-الإجتماعيّ الذي من خلاله تقوم الكنيسة بواجب خدمة المحبّة، بالإضافة إلى خدمة الكلمة بالوعظ والتعليم، وإلى خدمة تقديس النفوس بنقل نعمة الأسرار. وبما أن رابطة كاريتاس هي جهاز الكنيسة لخدمة المحبّة، فإنّها تتلقّى المساعدات من الداخل والخارج لكي تنظّم هذه الخدمة ببرامج على كامل مساحة أرض لبنان.
3. قدّمت كاريتاس خدماتها خلال سنة 2023 على كامل الأراضي اللبنانية وفي مختلف القطاعات والبرامج من خلال أقاليمها الـ 36 المنتشرين في جميع أنحاء لبنان، ومن خلال 4 مراكز تعليمية خاصة ومؤسسات إجتماعية وملاجىء آمنة، إضافة إلى 10 مراكز رعاية صحية أولية (PHCCs) و9 وحدات طبية متنقلة (MMUs).
تنفذ كاريتاس لبنان مشاريعها وبرامجها في قطاعات متعددة مثل: الصحة والمساعدات الاجتماعية والتعليم والحماية والتنمية وتحسين سبل العيش، فضلًا عن المساعدات النقدية والغذائية إلى اللبنانيين الأكثر فقرًا، وخدمات لللاجئين والمهاجرين. فلا بدّ أن نحيّي جهود عائلة كاريتاس الكبيرة بكامل أفرادها الذين يتعاونون لتحقيق رسالتها وهي تضمّ أعضاء مجلس الإدارة والعاملين في المركزيّة والاقاليم والمراكز والشبيبة والمنتسبين والمتطوعين، وعدد كبير من الأصدقاء والقدامى.
كما احيي بيننا اخواني السادة المطارنة: سمير مظلوم الرئيس الأول لرابطة كاريتاس لبنان، أنطوان بو نجم المشرف الحالي عليها وميشال عون المشرف السابق.
4. إن كاريتاس لبنان مستمرة بالتعاون مع عشرات المنظمات الدولية وعلى وجه الخصوص مع مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين وبرنامج الأغذية العالمي والإتحاد الأوروبي ومؤسسات غير حكومية متعددة وورابطات كاريتاس الشقيقة وجهات مانحة بهدف خدمة كلّ المحتاجين الموجودين في كلّ لبنان.
كما تتلقى كاريتاس لبنان دعمًا مستمرًا من اللبنانيين المنتشرين وهي تناشدهم لمواصلة تضامنهم مع إخوتهم في الوطن الذين يعانون بصمتٍ ويتألمون في الخفاء من الفقر المتزايد ومن الضغوط النفسية والإجتماعية التي يواجهونها من جراء ذلك.
إنّنا نذكر في هذه الذبيحة المقدّسة أسرة كاريتاس والمحسنين كآفأهم الله بفيض من نعمه وبركاته.
5. آية شفاء الأبرص أمثولة إيمان لنا بقدرة يسوع على شفائه. كانت الشريعة تعتبره نجاسة بحيث أنّ البرص مرض معدٍ من جهة، وأنّه قصاص من الله على المصاب به من جهة أخرى. ولذلك كانت تأمر الشريعة أن يُفصل الأبرص عن عائلته والمجتمع والهيكل وتلزمه بالعيش في البراريّ، وتمنع لمسه واستعمال ما يلمسه هو. هذا الأبرص المسكين سمع بأنّ يسوع في المنطقة، فخالف الشريعة بإيمان مزدوج الأوّل أنّه يلتجئ إلى ربّ الشريعة، والثاني يؤمن أنّ يسوع قادر على شفائه إذا أراد. بهذه الثقة المزدوجة جثا أمام يسوع وقال له: “إن شئت فأنت قادر أن تطهّرني”(مر 1: 40). ويسوع من جهته حمله حنانه، فخالف الشريعة بدوره “ومدّ يده ولمس قروح الأبرص وقال: لقد شئتُ فاطهر. فزال برصه للحال”(مر 1: 41)، معتبرًا أنّ “الشريعة للإنسان، لا الإنسان للشريعة” (راجع مر2: 27). وبهذا المعنى كتب بولس الرسول: “الحرف يقتل والروح يبني” (2كور 3: 6). وللحال عاد يسوع إلى طاعة الشريعة الآمرة بأن “يذهب الأبرص الذي زال برصه إلى الكاهن الذي يتحقّق من شفائه، ويعيده إلى العيش في عائلته ومجتمعه وإلى دخول الهيكل للصلاة” (راجع مر 1: 44).
6.خطيئة الإنسان برص روحيّ يشوّه كيانه: يشوّه عقله فيحيد عن الحقيقة ويعيش في الكذب؛ ويشوّه إرادته فتحيد عن فعل الخير وتجنح إلى الشرّ؛ ويشوّه قلبه فيحيد عن الحبّ والمشاعر الإنسانيّة، ويمتلئ حقدًا وبغضًا؛ ويشوّه ضميره فينغلق عن سماع صوت الله، ولا يسمع إلّا لصوت أنانيّته ومصالحه؛ ويشوّه نفسه وروحه التي خلقت على صورة الله، فيفقد هذه الصورة ويلبس صورة تخالف كرامته وقدسيّته. أجل، أيّها الإخوة والأخوات كلّنا مصابون بهذه الأنواع من البرص الروحيّ. زمن الصوم هو زمن الشفاء منه لكي نستطيع أن نعيش معًا بسلام واحترام متبادل، ونبني مجتمعًا نلتزم فيه ببناء الوحدة والتعاون والتضامن بين جميع الناس.
7. يعلّمنا المسيح ربّنا أنّ لكلّ كائن بشريّ كرامة وقدسيّة حياته. فلا يحقّ لأحد ان ينتهكهما قتلًا أو إعتداءًا أو تعذيبًا. فالله وحده سيّد الحياة والموت. لكنّ تطوّر الأسلحة حمل الشعوب على استعمالها واللجوء إليها ظنًّا منهم أنّها تخدمهم، بينما العكس صحيح: فالحرب تولّد الحرب، والقتلُ القتل، والإعتداءُ الإعتداء. الحرب تخلّف الخراب والدمار وتشريد المواطنين الآمنين على الطرقات وفي العراء، وعلّمنا أيضًا أن نستبدل الشريعة القديمة “العين بالعين، والسنّ بالسنّ” (متى 5: 38) بشريعة المحبّة: “أمّا أنا فأقول لكم: أحبّوا أعداءكم، وباركوا لاعينيكم، وأحسنوا إلى مبغضيكم، وصلّوا عن مغتصيبيكم ومضطهديكم، لتكونوا أبناء أبيكم الذي في السماء” (متى 5: 38-45).
تعلّمنا الكنيسة أنّ البشر أجمعين ضعفاء، وكونهم خطأة فهم دائمًا عرضة للتهديد بالحرب. ويمكنهم التغلّب عليها وتجنّبها وإيجاد الحلول للنزاعات بالعدالة والمحبّة والحقيقة (راجع الكنيسة في عالم اليوم، 78). في ضوء تعليم الكنيسة هذا، نقول أنّ البطولة ليست في صنع الحرب بالأسلحة المتطوّرة الهدّامة، بل البطولة هي في العقل والإرادة والقلب الداعين والساعين إلى صنع السلام وتحقيق العدالة وتغليب المحبّة. البطولة هي في تجنّب الحرب، لا في صنعها!
8. نحن كمسيحيّين، من دون إقصاء أحد من أتباع الأديان الأخرى، تسلّمنا من المسيح ربّنا وصيّة المحبّة بوجهيها العموديّ والأفقيّ المتلازمين: أي “محبّة الربّ إلهك من كلّ القلب والنفس والعقل، ومحبّة القريب (كلّ إنسان) مثل نفسك” (راجع متى 22: 35-40). إنّ التلازم بين محبّة الله ومحبّة كلّ إنسان عاد أكّده يوحنّا الرسول: “إن قال أحد إنّي أحبّ الله وهو يبغض أخاه فهو كاذب فمن لا يحبّ أخاه وهو يراه، لا يستطيع أن يحبّ الله وهو لا يراه” (1 يو 4: 20).
كتب سيادة المطران كيرلّس سليم بسترس في إفتتاحيّة النهار ليوم أمس، بعنوان: “المحبّة والوحدة الوطنيّة” ما يلي: “لبنان مكوّن من ثماني عشرة طائفة دينيّة، أي من المؤمنين بالله. وهذا الإيمان يفرض عليهم أن تكون علاقاتهم بعضهم ببعض متّسمة بالمحبّة. وإلّا يكون إيمانهم باطلًا ويكذبون على الله ويكذب بعضهم على بعض. والوحدة الوطنيّة التي يتغنّى بها الجميع، إن لم تكن مؤسّسة على المحبّة تكون أيضًا كذبةً كبيرة. وإذا نظرنا إلى صفات المحبّة التي يوضحها بولس الرسول في نشيد المحبّة (راجع 1كور 13: 2-7)، وقارنّاها بما يجري في الواقع بين الطوائف، وضمن الطائفة الواحدة، يتبيّن لنا كم نحن بعيدون عن المحبّة وعن الوحدة الوطنيّة. فالمحبّة “لا تطلب ما لنفسها”، أمّا عندنا فكلّ طائفة لا تطلب إلّا ما هو لنفسها. فتسعى إلى احتكار الوظائف قي الدولة وتعمل ما في وسعها لتتعدّى على حقوق الطوائف الأخرى. والمحبّة “لا تظنّ السوء” أمّا عندنا فكثيرًا ما يحدث أنّ إحدى الطوائف لا ترى في الطوائف الأخرى، ولا سيما تلك التي تناقض نظرتها إلى الأمور، إلّا جماعة من العملاء، والخونة”. (راجع إفتتاحيّة النهار السبت 17 شباط 2024).
لا يمكن الإستمرار في هذه الحالة من التباعد واللاثقة المتبادلين التي تعطّل حياة الدولة وتسمم المجتمع اللبناني. فليضع الجميع فوق كلّ شيء هدف بناء الوحدة الوطنيّة بسبل جديدة ولغة جديدة وبخاصّة الولاء لوطننا النهائيّ لبنان.
9. فلنصلِّ إلى الله، أيّها الإخوة والأخوات، كي يمنحنا نعمة البطولة في تغليب السلام على الحرب، والتفاهم على التنازع، والحبّ على البغض، والخير على الشرّ، والوحدة على التفكّك. له المجد والشكر الآن وإلى الأبد، آمين.