في تأمّله الأوّل لزمن المجيء يتحد واعظ القصر الرَّسوليّ الكاردينال رانييرو كانتالاميسا عن شخصيّة يوحنا المعمدان ودوره كداعٍ إلى التوبة وكنبي
ألقى واعظ القصر الرَّسوليّ الكاردينال رانييرو كانتالاميسا تأمّله الأوّل لزمن المجيء في قاعة بولس السادس بالفاتيكان بحضور الأب الأقدس، تحت عنوان: “صوت صارخ في البريّة”، واستهل تأمّله بالقول هناك تطور تدريجي في ليتورجية زمن المجيء. في الأسبوع الأول تظهر شخصية النبي أشعيا الذي يعلن مجيء المخلص من بعيد؛ وفي الأحد الثاني والثالث المرشد هو يوحنا المعمدان السابق؛ أما في الأسبوع الرابع فيتركز كل الاهتمام على مريم. ونظرًا لأنه سيكون لدينا تأملين فقط هذا العام، فكّرتُ أن أكرسهما إلى هذين الاثنين: السابق والأم.
تابع الكاردينال كانتالاميسا يقول يظهر لنا السابق في الأناجيل في دورين مختلفين: دور من يدعو إلى التوبة ودور النبي. سأخصص الجزء الأول من التأمل ليوحنا الأخلاقي، والثاني ليوحنا النبي. تكفي بعض الآيات من إنجيل لوقا لكي تعطينا فكرة عن كرازة المعمدان: كان يوحنا يقول للجموع التي تخرج إليه لتعتمد عن يده: “يا أولاد الأفاعي، من أراكم سبيل الـهرب من الغضب الآتي؟ فأثمروا إذا ثمرا يدل على توبتكم”… فسأله الـجموع: “فماذا نعمل؟”. فأجابهم: “من كان عنده قميصان، فليقسمهما بينه وبين من لا قميص له. ومن كان عنده طعام، فليعمل كذلك”. وأتى إليه أيضا بعض الجباة ليعتمدوا، فقالوا له: “يا معلم، ماذا نعمل؟”. فقال لهم: “لا تجبوا أكثر مما فُرِض لكم”. وسأله أيضا بعض الـجنود: “ونحن ماذا نعمل؟” فقال لهم: “لا تتحاملوا على أحد ولا تظلموا أحدا، واقنعوا برواتبكم”. يسمح لنا الإنجيل أن نرى ما الذي يميز كرازة المعمدان عن كرازة يسوع في هذه النقطة. ويتم التعبير عن القفزة في الجودة بأوضح طريقة من قبل يسوع نفسه: “دام عهد الشريعة والأنبياء حتى يوحنا، ومن ذلك الحين يبشر بملكوت الله، وكل امرئ ملزم بدخوله”. علينا إذن أن نحذر من التناقضات التبسيطية بين الشريعة والإنجيل. إذ مباشرة بعد العبارة التي ذكرناها، يضيف يسوع: ” لأَن تزول السماء والأرض أيسر من أن تسقط نقطة واحدة من الشريعة”. إن الإنجيل لا يلغي الشريعة، أي وصايا الله بشكل ملموس؛ ولكنه يفتتح علاقة جديدة ومختلفة معها، وطريقة جديدة للمحافظة عليها.
أضاف واعظ القصر الرسولي يقول الجديد هو الترتيب بين الوصية والعطية، أي بين الشريعة والنعمة. في أساس كرازة المعمدان نجد القول: “توبوا لكي يأتيكم ملكوت الله!”؛ أما في أساس كرازة يسوع فنجد العبارة: “توبوا لأنَّ ملكوت الله قد جاء إليكم”. إنه ليس مجرد اختلاف زمني، كما هو الحال بين ما قبل وما بعد؛ وإنما هو أيضًا اختلاف في القيم. إنه يعني أن حفظ الوصايا ليس هو ما يسمح بمجيء ملكوت الله؛ ولكن مجيء ملكوت الله هو الذي يسمح بحفظ الوصايا. “إن الشريعة قد أعطيت عن يد موسى وأما النعمة والحق فقد أتيا عن يد يسوع المسيح”، يكتب الإنجيلي يوحنا. ومحبة الله من كل قلبك هي “الوصية الأولى والعظمى”؛ لكن ترتيب الوصايا ليس هو الترتيب الأول، ولا المستوى الأول: إذ فوقه نجد ترتيب العطيّة: ” أما نحن فإننا نحب لأنه أحبنا قبل أن نحبه”. من المثير للاهتمام أن نرى كيف تنعكس حداثة المسيح هذه في الموقف المختلف للمعمدان وليسوع تجاه الذين يسمون “الخطأة”. لقد سمعنا يوحنا يهاجم الخطأة الذين يأتون إليه بكلام ناري. ويسوع نفسه هو الذي يشير إلى الفرق في هذه النقطة بينه وبين السابق: “جَاءَ يُوحَنَّا لا يَأكُلُ ولا يَشْرَبُ فَقَالُوا: فِيهِ شَيْطان!”. وجَاءَ ابنُ الإِنسَانِ يَأكُلُ ويَشرَبُ فَقَالُوا: هُوَذَا إِنسَانٌ أَكُولٌ وشِرِّيبُ خَمْر، صَدِيقُ العَشَّارِينَ والخَطَأَة!”. “لماذا يأكل معلمكم مع العشارين والخطأة؟” قال الفريسيون لتلاميذه. إنَّ يسوع لا ينتظر أن يغير الخطأة حياتهم لكي يقبلهم؛ لكنه يقبلهم وهذا الأمر يقود الخطأة لكي يغيّروا حياتهم. والأناجيل الأربعة تتّفق على هذا. ولكن لا يمكن للكنيسة أن تغفل عن أسلوبها، دون أن تجد نفسها إلى جانب يوحنا المعمدان، بدلاً من تكون إلى جانب المسيح. إن يسوع لا يوافق على الخطيئة أكثر من أكثر الأخلاقيين صرامة، لكنه اقترح علاجاً جديداً في الإنجيل: لا الابعاد، بل القبول. وبالتالي فتغيير الحياة ليس شرطاً للاقتراب من يسوع في الأناجيل؛ إلا أنه لا بد من أن تكون هناك نتيجة بعد الاقتراب منه. إن رحمة الله في الواقع هي بلا شروط، لكنها لا تخلو من العواقب!
تابع الكاردينال كانتالاميسا يقول ننتقل الآن إلى الدور الثاني، أو اللقب الثاني، ليوحنا المعمدان. لقد كنت أقول، إنه ليس مجرد داعية أخلاقي يدعو للتوبة؛ وإنما هو أيضًا وبشكل خاص نبي: “وأنت أيها الطفل ستدعى نبي العلي”، كما يقول عنه أبوه زكريا. حتى أن يسوع وصفه بأنه “أكثر من نبي”. بأي معنى إذن يمكننا أن نسأل أنفسنا إذا كان يوحنا المعمدان نبي؟ وأين تكمن النبوءة في حالته؟ لقد كان الأنبياء يعلنون عن خلاص مستقبلي. لكن يوحنا المعمدان لا يعلن عن خلاص مستقبلي؛ بل يشير إلى شخص حاضر. فبأي معنى إذن يمكن أن يُدعى نبيًّا؟ لقد ساعد أشعيا وإرميا وحزقيال الناس على تخطّي حاجز الزمن والتغلب عليه؛ أما يوحنا المعمدان فيساعد الشعب على تخطي حاجز أكبر وهو حاجز المظاهر المتضادة. هل يكون المسيح الذي طال انتظاره، والذي أعلن عنه الأنبياء، والذي وعدت به المزامير، هو ذلك الرجل بهذه المظاهر المتواضعة؟ من السهل أن تؤمن بشيء عظيم إلهي، لكن الأمر أصعب عندما تضطر إلى القول: “الآن! إنه هنا! إنه هو!” يميل الإنسان على الفور إلى القول: “هذا كل شيء؟” “وقالوا: “أمن الناصرة يمكن أن يخرج شي صالح؟”. إنه حجر عثرة تواضع الله الذي يُظهر نفسه “في مظاهر متناقضة”، لكي يشوِّش كبرياء البشر ورغبة السلطة لديهم. وهذا الأمر يتطلب شجاعة نبوية أكبر من شجاعة أشعيا. إنها مهمة خارقة، وبالتالي يمكننا أن نفهم عظمة المعمدان وسبب وصفه بأنه “أكثر من نبي”. تسلط الأناجيل الأربعة الضوء على الدور المزدوج ليوحنا المعمدان، دور الأخلاقي ودور النبي. لكن بينما تصر الأناجيل الإزائية أكثر على الدور الأول، يصر الإنجيل الرابع أكثر على الدور الثاني. يوحنا المعمدان هو رجل الـ “هوذا!”. “هوذا الرجل الذي تكلمت عنه… هوذا حمل الله!”.
أضاف واعظ القصر الرسولي يقول ماذا يعلمنا يوحنا المعمدان كنبي؟ أعتقد أنه ترك لنا إرث مهمته النبوية. فبقوله: “إن بينكم من لا تعرفونه!”، افتتح يوحنا النبوءة المسيحية الجديدة التي لا تقوم على إعلان خلاص مستقبلي، وإنما على الكشف عن حضور خفي، حضور المسيح في العالم وفي التاريخ، على ازالة الحجاب عن عيون الناس، كمن يصرخ، بكلمات تردد صدى كلمات النبي أشعيا: “إن الله قد أتى بالجديد ولقد نبت الآن أفلا تعرفونه؟”. في زمن يوحنا كان حجر العثرة جسد يسوع المادي؛ جسده الذي يشبه جسدنا ما عدا الخطيئة. واليوم أيضًا مازال جسده يشكّل حجر عثرة: جسده السري، الكنيسة، المشابه تمامًا لبقية البشرية، ولا يستثني حتى الخطيئة. وكما جعل يوحنا المعمدان معاصريه يتعرفون على المسيح في تواضع الجسد، كذلك من الضروري اليوم أن نجعل الناس يتعرفون عليه في فقر الكنيسة وحياتنا. لقد وصف القديس يوحنا بولس الثاني البشارة الجديدة بأنها بشارة “جديدة في الحماسة، جديدة في الأساليب، جديدة في التعبير”. إنَّ يوحنا المعمدان هو معلمنا بشكل خاص في أول هذه الأشياء الثلاثة، الحماسة. هو ليس لاهوتيًا عظيمًا؛ ويستخدم صورًا بسيطة جدًا: “أنا لست مستحقًا – كما يقول – أن أحل رباط نعليه…” ولكن، على الرغم من فقر لاهوته، ينجح بشكل رائع في أن يجعلنا نشعر بعظمة المسيح وتفرده! وتعليقًا على كلمات القديس يوحنا بولس الثاني أشار أحدهم في ذلك الوقت إلى أن البشارة الجديدة يمكنها، لا وبل ويجب، أن تكون جديدة “في الحماسة والأسلوب والتعبير”، ولكن ليس في المحتويات التي يجب أن تبقى كما هي والتي تنبع من الوحي. بمعنى آخر: يمكن ويجب أن يكون هناك بشارة جديدة ولكن ليس إنجيلًا جديدًا. هذا كلّه صحيح. لا يمكن أن يكون هناك محتوى جديد حقًّا. ومع ذلك، قد تكون هناك محتويات جديدة، بمعنى أنه لم يتم تسليط الضوء عليها بشكل كافٍ في الماضي، وبقيت في الظل، وتم التقليل من قيمتها. قال القديس غريغوريوس الكبير: الكتاب المقدس ينمو مع الذي يقرأه. وفي فقرة أخرى يشرح أيضًا السبب. “في الواقع، يقول، إن المرء يفهم [الكتاب المقدس] بشكل أعمق كلما زاد الاهتمام الذي يوليه له”. ويتحقق هذا النمو أولاً على المستوى الشخصي في النمو في القداسة؛ ولكنه يتحقق أيضًا على المستوى العالمي، مع تقدم الكنيسة عبر التاريخ.
تابع الكاردينال كانتالاميسا يقول إن الوحي – الكتاب المقدس والتقليد معًا – ينمو وفقًا للطلبات والاستفزازات التي يتعرض لها عبر التاريخ. لقد وعد يسوع الرسل بأن البارقليط سيرشدهم “إلى الحق كله”، لكنه لم يحدد المدة: في جيل أو جيلين، أو – كما يشير كل شيء – إلى الوقت الذي تكون فيه الكنيسة حاجّة على الأرض. تقدّم لنا كرازة يوحنا المعمدان الفرصة لملاحظة آنية ومهمّة فيما يتعلق تحديدًا بـ “نمو” كلمة الله الذي يعمله الروح القدس في التاريخ. لقد جمع التقليد الليتورجي واللاهوتي، أولاً، صرخته: “هوذا حمل الله الذي يرفع خطيئة العالم!”. وتقدمه لنا الليتورجيا مجدّدًا في كل قداس قبل المناولة، بعد أن يكون الشعب قد رنّم ثلاث مرات: “يا حمل الله الحامل خطايا العالم، ارحمنا”. ولكن في الواقع، هذا ليس سوى نصف نبوءة المعمدان عن المسيح. فهو يصف المسيح، بنفس واحد تقريباً، وفي الأناجيل الأربعة، بأنه “الذي يُعمِّد بالروح القدس”. وبالتالي فإن الخلاص المسيحي ليس مجرد شيء سلبي، “إزالة الخطيئة”، لا وإنما هو بشكل خاص شيء إيجابي: إنه “عطاء”، وبعث حياة جديدة، حياة الروح. إنها ولادة جديدة. بطبيعة الحال، هذا الجانب الإيجابي لم يُنسى أبدًا. ولكن ربما لم يتم التركيز عليها بشكل كافٍ دائمًا. لقد خاطرنا، في الروحانية الغربية، برؤية المسيحية، ولاسيما بطريقة “سلبية”، كحل لمشكلة الخطيئة الأصلية؛ كشيء مظلم ومحبط. لكنَّ الاهتمام المتزايد بعمل الروح القدس ومواهبه، والذي يحدث منذ بعض الوقت في جميع الكنائس المسيحية، هو مثال ملموس على أن الكتاب المقدس “ينمو مع الذين يقرؤونه”.
وختم واعظ القصر الرَّسوليّ الكاردينال رانييرو كانتالاميسا تأمّله الأوّل لزمن المجيء بالقول يحب القديسون أن يواصلوا، من السماء، الرسالة التي قاموا بها أثناء حياتهم على الأرض. وقد وضعت القديسة تريزيا الطفل يسوع – التي نحتفل في هذا العام بالذكرى الخمسين بعد المائة لولادتها – هذا كشرط لله لكي تذهب إلى السماء. كذلك يحب القديس يوحنا المعمدان أن يواصل كسابق للمسيح، ويحب أن يُعدَّ له الدروب. لنُعطِه إذن صوتنا!