في تمام الساعة السادسة من مساء يوم الخميس 28 آذار 2024، احتفل غبطة البطريرك مار اغناطيوس يوسف الثالث يونان بطريرك السريان الكاثوليك الأنطاكي، بقداس خميس الفصح ورتبة غسل أقدام التلاميذ، وذلك في كنيسة عذراء فاتيما، جونيه – كسروان، لبنان.
عاون غبطتَه المونسنيور حبيب مراد القيّم البطريركي العام وأمين سرّ البطريركية، والأب يوسف درغام كاهن الرعية، والأب كريم كلش أمين السرّ المساعد في البطريركية والكاهن المسؤول عن إرسالية العائلة المقدسة للمهجَّرين العراقيين في لبنان.
شارك في القداس والرتبة صاحب السيادة مار غريغوريوس بطرس ملكي، بمشاركة جمع غفير من المؤمنين من أبناء الرعية ومن إرسالية العائلة المقدسة.
بدايةً ترأّس غبطته رتبة الغسل بحسب الطقس السرياني الأنطاكي، حيث قام بغسل أقدام 12 شخصاً من المؤمنين، يمثّلون تلاميذ الرب يسوع الإثني عشر. ثمّ احتفل غبطته بالقداس الإلهي بمناسبة خميس الفصح.
وفي موعظته بعد رتبة الغسل، تحدّث غبطة أبينا البطريرك عن احتفال الكنيسة المقدسة في هذا اليوم “بخميس الأسرار أو خميس الفصح. كما تابعتم هذا الاحتفال الذي يمتاز بالأناشيد السريانية العريقة والمعبّرة، إذ احتفلنا برتبة غسل الأقدام، وهي رتبة قديمة وتقليد قديم في كنيستنا السريانية، وبعد كنيستنا السريانية تبعت باقي الكنائس هذه الرتبة، أكان في الغرب أو في الشرق، وفي المدن الكبيرة حيث هناك كنائس لطوائف مختلفة، فكانت حفلة رتبة الغسل مشهورة. لذلك نلتقي هذا المساء معاً كي نشترك في هذه الرتبة، ونتأمّل بشكل خاص في هذا السرّ العظيم، سرّ المحبّة الذي به أحبّنا يسوع”.
ونوّه غبطته إلى أنّنا “سمعنا من القراءات، أكان من سفر التكوين، حيث يستقبل ابراهيم الضيوف الثلاثة مع أنّه لم يكن يعرفهم، لكنّه استقبلهم واعتبر حضورهم تكريماً له. والكنيسة عادةً تلجأ إلى هذا النص، حيث ثلاثة أشخاص يأتون، ويدعوهم ابراهيم “يا سيّدي”، فالكنيسة تستند إلى هذا النص كي تؤكّد لنا أنّ سرّ الثالوث الأقدس هو ثلاثة أقانيم متساوية لإله واحد أوحاه الرب لنا منذ السفر الأول للكتاب المقدس، سفر التكوين”.
وأشار غبطته إلى أنّنا “سمعنا من رسالة القديس يوحنّا الحبيب، وليوحنّا رسائل ثلاث نقرأها في العهد الجديد بعد رسائل مار بطرس، حيث نرى كيف يكرّر القديس يوحنّا كلمة المحبّة، فكما أحبّنا الله، علينا أن نحبّ بعضنا البعض. ويقال بحسب التقليد المسيحي إنّ يوحنّا كان يطلب من المؤمنين في كلّ مواعظه أن يحبّوا بعضهم بعضاً. وهناك بعض الناس سألوا يوحنّا، أليس لديك موضوع آخر لتعظنا به؟ فأجابهم بأنّ المحبّة هي الكمال، فإن كان فينا حبُّ بعضنا لبعض، نستطيع أن نبرهن على أنّنا نحبّ الله الذي لا نراه، ولكن علينا أن نحبّ أيضاً الإنسان القريب الذي نراه، كي نبرهن عن محبّتنا لله. كما سمعنا من القديس مار بولس هذا النص الرائع من رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس، نشيد المحبّة، فليس أجمل وأروع من هذا النشيد الذي كتبه بولس قبل ألفي سنة. المحبّة هي الأساس، وأفضل كلّ الفضائل والصفات المسيحية، لأنّنا بالمحبّة نكون قريبين من الرب”.
ولفت غبطته إلى أنّنا “نجتمع إذاً في هذه الكنيسة، بيت الله، حتّى نعيش روحانية هذه الرتبة والعشاء الأخير للرب يسوع مع تلاميذه. الفصح يعني العبور، حينما عَبَرَ الشعب العبراني البحر نحو أرض الميعاد، وقبل العبور ذبحوا الحمل الفصحي، كي يعرف ملاك الله من هم أعضاء الشعب المختار، ويرافقهم في عبورهم للبحر مع النبي موسى. لقد أتمّ يسوع الشريعة كلّها، فاحتفل أيضاً بالفصح اليهودي، وكان يجب أن يكون الاحتفال يوم السبت، لكن بما أنّه كان عالماً، كما سمعنا من الإنجيل المقدس، أنّه سيسلَّم إلى الموت، طلب من تلاميذه أن يعدّوا له العشاء الفصحي يوم الخميس. ولهذا نسمّيه العشاء السرّي والعشاء الأخير الذي فيه جسّد يسوع المحبّة التي يحبّنا بها، نحن البشر، بأنّه أعطانا ذاته، شخصه بالذات، تحت شكلَي الخبز والخمر اللذين يتناولهما عادةً الشعب العبراني في صلوات الفصح السنوي”.
وأكّد غبطته على أنّنا “نعرف أنّنا تسلّمنا إيماننا من أهلنا، من آبائنا وأجدادنا، الذين أعطونا نعمة الإيمان. واليوم نسعى، بمشاركتنا في رتبة غسل الأقدام، كي نعيش هذا السرّ العظيم، سرّ محبّة الله لنا، سرّ الفداء. والتلاميذ الذين غسلْنا أقدامهم يمثّلون التلاميذ الإثني عشر الذين كانوا مع يسوع، وكوننا تلاميذ المسيح ليس بكلام عابر، إذ عندما نكون تلاميذ المسيح، نعرف أنّ المسيح هو المعلّم والمخلّص والرب، وعلينا أن نسير معه على درب آلامه كي نتمجّد معه في القيامة”.
وتناول غبطته “المعاناة والآلام التي تعيشونها ونعيشها في هذه الأيّام، أكان في لبنان مؤخَّراً، أو في البلاد المجاورة، في سوريا والعراق، ومعنا اليوم وفدٌ من أبناء إرسالية العائلة المقدسة من المهجَّرين العراقيين في لبنان، والذين يشاركوننا في هذا الاحتفال، لأنّهم مبنيُّون على صخرة الإيمان في بلدهم وقراهم، ولا يغفلون عن المشاركة في أيّ احتفال، بل يشاركون بأعداد كبيرة أيضاً. إنّ معاناتنا معروفة، لكن علينا أن نصلّي بكلّ حرارة كي يخفّف الرب من هذه المعاناة، خاصّةً عند ذوي الحاجات، أكانت مادّية أو معنوية، أولئك الذين طُرِدوا ونُفُوا من أرضهم، والذين يعيشون بالوحدة، والمرضى والمسنّين والأشخاص ذوي إعاقة وسواها، والذين لا يفكّر بهم أحد، فيما هم يسعون كلّ جهدهم كي يبقوا متجذّرين في أرضهم، هنا في لبنان، وفي سائر البلدان التي يعيش فيها أهلنا”.
وشدّد غبطته على أنّنا “نفكّر خاصّةً بالعائلات، بالآباء والأمّهات، وبالصعوبات والتحدّيات التي يجابهونها في هذه الأوقات العصيبة. نفكّر بالشباب والأولاد والأطفال، ونحثّهم كي يحافظوا على نعمة إيماننا، ويبقوا فخورين بالرب يسوع. نصلّي إلى الرب الإله المخلّص الذي جمع تلاميذه بالتواضع، وعلّمهم، ليس بالكلام بل بالفعل، إذ قد غسل أقدامهم. وكانت عادة الغسل هذه معروفةً بين الشعوب القديمة، خاصّةً عند العبرانيين، وهذا واضح، لأنّ الحياة كانت بسيطة، وكان الخدام يغسلون أقدام الضيف عندما يزور بيت أحدهم، لأنّه كان في سفر ومعرَّضاً لغبار الطريق وسواه”.
واعتبر غبطته أنّنا “من هنا نفهم كيف أنّ بطرس مَثَّلَ التلاميذ، وتعجّب كيف أنّ السيّد، أي الرب يسوع، يغسل له قدميه. لم يكن بطرس يقبل بذلك، لأنّه كان معروفاً أنّ غسلَ الأقدام هو عمل خاصّ بالخدام، في حين أنّ يسوع هو المعلّم والرب والمخلّص. فأجابه يسوع إنّه لا يفهم معنى ذلك الآن، لكنّه سيفهم أنّ الله هو المحبّة، ويسوع هو التواضع. وعلّمنا بفعله قبل كلامه، بغسله أقدام تلاميذه الذين كانوا مذهولين تماماً بالتواضع الذي كان يقدّمه أمامهم ويعلّمهم إيّاه”.
وتضرّع غبطته إلى الرب يسوع “سائلاً منه وهو مخلّصنا أن يقوّينا بالرغم من كلّ معاناتنا، وأن يحفظنا دائماً عائلاتٍ مسيحيةً متّحدةً بالمحبّة والصبر والتفاهم. ونفكّر كآباء وأمهات، أنّه مهما كانت صعوباتنا العائلية، فالرب أعطانا الأولاد كعطية وأمانة بين أيدينا، فلا ننخدع مهما يأتينا في وسائل التواصل الاجتماعي عمّا يُسمَّى بالحرّية الفردية. فنحن عائلات مؤسَّسة على الإيمان، ولدينا الشهداء الذين قدّموا التضحيات الجسيمة إيماناً بالرب يسوع ومحبّةً له وتكريماً لأمّنا مريم العذراء، كما جرى في العراق وفي سوريا، واليوم في لبنان، وفي الأراضي المقدسة، حيث يُقتَل الكثير من الشهداء بسبب إيمانهم، ولم يتنكّروا لهذا الإيمان”.
وختم غبطته موعظته مبتهلاً “إلى الرب أن يقوّينا ويجعلنا رعية صالحة، فيتعظّم اسمه، ونكون شهوداً لمحبّته أينما كنّا، شاكرين الرب يسوع الذي وهبنا سرّ الكهنوت وسرّ الإفخارستيا، بذبيحة ذاته، في مثل هذا اليوم وفي العشاء الفصحي عينه، كما سمعنا في الإنجيل: هذا هو جسدي، وهذا هو دمي. وسيتكلّل ذلك يوم الجمعة العظيمة غداً، والتي فيها يتمّ فداؤنا على خشبة الصليب، ليس بالقول إنّما بالفعل، كي يتمجّد الرب يسوع بالقيامة يوم الأحد”.
وقبل نهاية القداس، طاف غبطته حاملاً القربان المقدس في زيّاح حبري داخل الكنيسة وفي ساحتها، ومباركاً به جموع المؤمنين. ثمّ، وبعد فترة من السجود والتأمّل، منح غبطته المؤمنين البركة الختامية.