في تمام الساعة العاشرة والنصف من صباح يوم الأحد 12 تشرين الثاني 2023، احتفل غبطة أبينا البطريرك مار اغناطيوس يوسف الثالث يونان بطريرك السريان الكاثوليك الأنطاكي، بالقداس الإلهي بمناسبة أحد تجديد البيعة، وخلاله أقام غبطته صلاة جنّاز الأربعين راحةً لنفوس ضحايا فاجعة عرس بغديده (قره قوش)، وذلك على مذبح كنيسة العائلة المقدسة في سدّ البوشرية – المتن، لبنان.
شارك في القداس والجنّاز المونسنيور حبيب مراد القيّم البطريركي العام وأمين سرّ البطريركية، والأب كريم كلش أمين السرّ المساعد في البطريركية وكاهن إرسالية العائلة المقدسة للمهجَّرين العراقيين في لبنان، والأب طارق خيّاط الكاهن المساعد في إرسالية العائلة المقدسة. وخدم القداس بعض الشمامسة الإكليريكيين من طلاب إكليريكية سيّدة النجاة البطريركية بدير الشرفة، وجوق الإرسالية، بحضور ومشاركة جموع غفيرة من المؤمنين، وفي مقدّمتهم عدد من أهالي ضحايا فاجعة عرس بغديده المقيمين في لبنان، وجمع غفير من المؤمنين، ومن بينهم أعضاء إرسالية العائلة المقدسة من المهجَّرين العراقيين.
وفي موعظته بعد الإنجيل المقدس، أشار غبطة أبينا البطريرك إلى أنّنا “أتينا اليوم إلى هذه الكنيسة، كنيسة العائلة المقدسة، كي نحتفل بالذبيحة الإلهية بمناسبة أحد تجديد البيعة، ونقيم جنّاز الأربعين من أجل ضحايا الفاجعة الرهيبة التي وقعت في العرس في بغديده (قره قوش) في السادس والعشرين من شهر أيلول المنصرم، وتابعتم تطوّراتها المأساوية منذ ذلك اليوم المشؤوم. إنّها فاجعة أدمت قلوبنا جميعاً، فاجعة لا نستطيع أن نفهمها، فاجعة نطلب من الرب أن يقوّي إيماننا حتّى نقبل مشيئته بإيمان ورجاء. فاليوم كلّنا حزانى لفقدان أولئك الضحايا، ولدينا البعض من أهلهم هنا معنا، والكلّ مفجوعون، ليس فقط أنتم هنا، ولكن أيضاً الآلاف من إخوتنا المغتربين خارج العراق، وهم يشاركون الأهالي في بغديده، ويسألون الرب أن يقوّي إيمانهم جميعاً”.
وتحدّث غبطته عن “اليوم وهو أحد تجديد البيعة، كما سمعنا من القراءات من الكتاب المقدس، ففي الرسالة إلى العبرانيين تذكير بقدس الأقداس، حيث كان المؤمنون يتوجّهون إليه، ولم يكن يدخله إلا الكاهن المُعيَّن مرّةً واحدةً في السنة، وقدس الأقداس نسمّيه اليوم مذبح الرب. ومن هنا نفهم لماذا يوجد الستار في تقليدنا السرياني، وهو الذي يفصل قدس الأقداس، أي المذبح، عن باقي أقسام الهيكل، أي عن باقي أقسام الكنيسة اليوم”.
ولفت غبطته إلى أنّ “هذا الأمر يذكّرنا أنّنا عندما ندخل إلى الكنيسة، نعرف أولاً أنّ الكنيسة هي بيت الله، وفيها تقام القداديس، فيها يُذبَح الرب سرّياً على المذبح. وهذه الذبيحة الإلهية هي لخلاص جميع المؤمنين، لأنّ يسوع قدّم ذاته من أجلهم، ولا نحتاج إلى ذبائح حيوانية كما في السابق، إذ أنّ يسوع هو مقدِّمٌ ذاتَه، هو الذبيحة بعينها، والكاهن الذي يقيم القداس يتشبّه بيسوع. لذا علينا أن نتعمّق بإيماننا، فلا يكون لدينا فقط الوله لاتّباع ما يُسمَّى بالوسائل الإعلامية ووسائل التواصل الاجتماعي، وسواها، لكن علينا أن ندرك أسس إيماننا المسيحي، وأن نقرّ بالحقيقة، إذ عندما نتغرّب، للأسف، نهتمّ بأشياء كثيرة، لكنّ إيماننا يبدو وكأنّه ضعيف، لأنّنا لم نتعمّق بالكتاب المقدس وبأسرار الخلاص التي علّمَتْنا إيّاها الكنيسة منذ نشأتنا في بلدنا الأمّ في الشرق”.
ونوّه غبطته إلى أنّنا “نجدّد اليوم فعل إيماننا بالرب، وهذا الأمر ليس سهلاً، فالذي يصاب بهذه المصيبة المخيفة التي حدثت، فاجعة الحريق في عرس بغديده، ليس من السهل عليه أن يعود ويطلب من الرب أن يقوّي إيمانه ويثبّته بالرجاء كي يقبل مشيئته وأحكامه التي لا ندركها. لكنّنا اليوم كشعب مؤمن، علينا أن نجدّد إيماننا وثقتنا بالرب كلّ يوم وكلّ ساعة، وأن نعلّم أولادنا معنى إيماننا بالرب يسوع، ومعنى الألم والصلب والموت، وأن نعي ونُفهِم أولادنا أنّه ليس لنا منزل أبدي على هذه الأرض، بل سنلتقي جميعنا في السماء متى يريد الرب، فنجدّد فعل إيماننا بالرب الذي نتوق أن نلاقيه في السماء. لذا نقيم اليوم هذا القداس، ونصلّي من أجل الضحايا، ضحايا هذه الفاجعة الرهيبة، ونصلّي أيضاً من أجل الحاضرين والمجتمعين هنا اليوم. فنتذكّر أنّنا، وإن كنّا على طريق التغرُّب إلى بلاد أخرى، علينا أن نحافظ بكلّ أمانة على ما تعلّمناه من آبائنا وأجدادنا وحافظنا عليه على مدى السنوات”.
وتطرّق غبطته إلى “وضعنا في العراق اليوم، فنحن إزاء تحدّيات كبيرة، صحيح لم يعد هناك هجمات إرهابية كما حدث من قبل، أكان في مذبحة كاتدرائية سيّدة النجاة في بغداد قبل 13 سنة، وفي قره قوش وسهل نينوى قبل 9 سنوات، لذا علينا أن نجدّد إيماننا ونقبل أن نعيش كما أراد الرب. لن نهاجر ونتغرّب كلّنا، فالذين سيبقون ويتابعون العيش في أرض آبائهم وأجدادهم في بلدهم، عليهم أن يعرفوا أن يتفادوا كلّ البيانات والإعلانات والكلام الذي يثير العواطف من دون أن نصل إلى فائدة. فالعراق اليوم، بالرغم من كلّ النقائص، هو في طور التقدُّم، والحكومة لا تقوم بأيّ شيء إلا باحترام المسيحيين والطلب من الذين بقوا أن يظلّوا في بلدهم العراق، لأنّ عليهم، رغم كلّ الويلات التي حلّت بهم، أن يكونوا الشعب المتمسّك بالإيمان والرجاء”.
وذكّر غبطته أنّنا “قدّمنا في العراق ضحايا وشهداء كثيرين، لكنّنا ندرك جيّداً أنّ الطريق إلى السماء هو طريق الصليب، كما قال لنا يسوع: من أراد أن يتبعني فليكفر بنفسه، والكفر بالنفس هنا لا يعني أن نكفر بالخليقة، بل بأهوائنا البشرية وبأنانيتنا وبأفكارنا التي لا تكون، في كثير من الأحيان، أفكار الله وأفكار الذين آمنوا ونقلوا لنا الإيمان. علينا أن نكفر بذواتنا ونتألّم ونحمل صليبنا ونسير وراء معلّمنا الرب يسوع بكلّ فخر واعتزاز، لأنّ يسوع لم يكذب علينا أبداً، ولم يقل لنا بأنّ دعوتنا هي إلى السماء مباشرةً، ولكن، من خلال العمل الفدائي الذي علينا أن نقدّمه معاً بالشراكة مع الرب يسوع، نصل إلى السعادة الحقيقية في السماء”.
وختم غبطته موعظته ضارعاً “إلى الرب يسوع، هو الذي حمل صليبه وقدّم ذاته ذبيحةً فدائيةً عنّا وعن البشر أجمعين، ثمّ تمجّد بالقيامة، ونسأله أن يقوّينا ويشدّدنا في مسيرتنا على هذه الأرض، ويقوّي فينا إيماننا ورجاءنا، رغم كلّ الصعوبات والمضايقات والتحدّيات، ويذكّرنا دائماً أنّنا مدعوون أن نلتقي معه ومع أمّه وأمّنا العذراء مريم والقديسين والشهداء ومع أمواتنا الأبرار في السماء، حيث لا ألم ولا وجع ولا حزن، لكن حيث السعادة التي يهبنا إيّاها الرب”.
وقبل نهاية القداس، أقام غبطة أبينا البطريرك صلاة الجنّاز راحةً لنفوس الراقدين من ضحايا هذه الفاجعة الرهيبة، سائلاً الله أن يتغمّدهم في ملكوته السماوي مع الأبرار والصدّيقين، ويعزّي قلوب أهلهم وذويهم وقلوبنا جميعاً فقدانهم، ويهبَ الجرحى والمصابين الشفاء العاجل والتامّ.
بعدئذٍ منح غبطته البركة الختامية.