غبطة البطريرك يونان: “نسأل الله أن يقوّينا، هنا في لبنان، فلا نقوم فقط بالتشكّي والتذمّر من الوضع الراهن، ونقول إنّ الكلّ مسؤولون. بل يجب أن تكون لدينا الشجاعة كي نعلن لمن يأتي إلينا ونجاهر أمامه بأنّ المسؤولين السياسيين هم الذين يقبلون بخراب البلد، بعد أن كان لبنان الشعلة في محيطه بين البلدان العربية. لقد كان لبنان أرض الحضارة والحرّية والتآخي، أمّا اليوم فوصلنا إلى درجة لا نُحسَد عليها أبداً. فالعالم ينظر إلينا بسخرية، لأنّنا لم نعرف كيف نقوم بتدبير أمور هذا البلد، وخاصّةً بانتخاب رئيس جديد للجمهورية يكون عاملاً للجمع والألفة بين كلّ الطوائف والمكوّنات”.
في تمام الساعة الخامسة من مساء يوم الجمعة 29 آذار 2024، احتفل غبطة أبينا البطريرك مار اغناطيوس يوسف الثالث يونان بطريرك السريان الكاثوليك الأنطاكي، برتبة السجدة للصليب ودفن المصلوب يوم الجمعة العظيمة، وذلك في كاتدرائية سيّدة البشارة، المتحف – بيروت، لبنان.
عاون غبطتَه المونسنيور حبيب مراد القيّم البطريركي العام وأمين سرّ البطريركية، والأب سعيد مسّوح نائب مدير إكليريكية سيّدة النجاة البطريركية بدير الشرفة وقيّم الدير، والأب كريم كلش أمين السرّ المساعد في البطريركية وكاهن إرسالية العائلة المقدسة للمهجَّرين العراقيين في لبنان.
وخدم الرتبة جوق الرعية، بمشاركة جموع غفيرة جداً من المؤمنين غصّت وضاقت بهم الكاتدرائية وساحاتها، وقد حضروا بأعداد كبيرة وملفتة للتعبير عن محبّتهم للرب يسوع وتوقهم إلى السجود لصليبه المقدس في هذا اليوم الفريد المبارك.
خلال الرتبة، أُنشِدَت الترانيم بلحن الحاش (الآلام) المؤثّر، وتخلّلَتْها القراءات والإنجيل المقدس.
وألقى غبطة أبينا البطريرك موعظة الجمعة العظيمة، بعنوان “لقد صُلِبْتُ مع المسيح، فلستُ أنا الحيّ، بل المسيح حيٌّ فيَّ”، فتحدّث غبطته عن “الجمعة العظيمة التي هي اليوم العظيم في إيماننا المسيحي، ونرى هذا الحضور الغفير من صغير وكبير، نأتي جميعنا لكي نسجد للمسيح المصلوب على خشبة العار لكي يفدينا”.
ونوّه غبطته إلى أنّنا “استمعنا إلى نصوص من الكتاب المقدس، في العهد القديم، نبوءة زكريّا والمزامير، وهي تتنبّأ عن الذي يُطعَن، الذي سيُقتَل، وعليه تنوح القبائل لأنّه البريء. واستمعنا إلى القراءة من سفر أعمال الرسل، حيث شهادة بولس أمام الملك، كيف اختاره المسيح، وظهر له على طريق دمشق، وجعله مبشّراً ورسولاً، بينما كان يضطهد المؤمنين بالمسيح. واستمعنا إلى رسالة مار بولس إلى أهل غلاطية، حيث يقول بولس إنّ إيماننا كلّه هو بقبولنا سرّ الفداء، سرّ محبّة الرب لنا حتّى بذل الذات. ومن هنا نفهم قول هذا الرسول العظيم، رسول الأمم بولس: لستُ أنا الحيّ، بل المسيح هو حيٌّ فيّ”.
ولفت غبطته إلى أنّنا “جئنا أيّها المبارَكون كي نصلّي ونتأمّل بهذا السرّ العظيم، ونطلب من الرب الفادي المعونات التي نحتاجها، ليس فقط نحن هنا نحتاج المعونات، لكن هناك من هو محتاج أكثر منّا، إن كان مادّياً أو معنوياً، أو أولئك الذين يعيشون في حالة المرض والوحدة ولا أحد يفكّر بهم. نحن نعرف، ولو أنّ عائلاتنا لا تزال متماسكة، لكن هناك الكثير ممّا نسمّيه نكران الجميل تجاه الأهل، فننساهم. جئنا كي نطلب من المصلوب أن يقوّينا في هذه المعاناة التي نعيشها، أكان هنا في لبنان منذ سنوات، وإن كان في سوريا، وإن كان في العراق، وإن كان في الأراضي المقدسة، ولا سيّما في قطاع غزّة”.
وتناول غبطته الأوضاع في لبنان، مشدّداً على أنّنا “نسأل الله أن يقوّينا، هنا في لبنان، فلا نقوم فقط بالتشكّي والتذمّر من الوضع الراهن، ونقول إنّ الكلّ مسؤولون. بل يجب أن تكون لدينا الشجاعة كي نعلن لمن يأتي إلينا ونجاهر أمامه بأنّ المسؤولين السياسيين هم الذين يقبلون بخراب البلد، بعد أن كان لبنان الشعلة في محيطه بين البلدان العربية. لقد كان لبنان أرض الحضارة والحرّية والتآخي، أمّا اليوم فوصلنا إلى درجة لا نُحسَد عليها أبداً. فالعالم ينظر إلينا بسخرية، لأنّنا لم نعرف كيف نقوم بتدبير أمور هذا البلد، وخاصّةً بانتخاب رئيس جديد للجمهورية يكون عاملاً للجمع والألفة بين كلّ الطوائف والمكوّنات”.
وأشار غبطته إلى أنّنا “جئنا كي نتأمّل بالمصلوب، وبشكلٍ خاصّ نسعى جهدنا لنعيش الآلام التي تحمَّلها لأجلنا. نتأمّل بالكلمات، التي نسمّيها الكلمات السبع، والتي فاه بها الرب يسوع على الصليب. وأول كلمة هي أنّه غفر لصالبيه: يا أبتاه أغفرْ لهم لأنّهم لا يعرفون ماذا يفعلون. نعم، نحن مستعدّون أن نغفر للجميع، فالرب علّمنا الغفران، وفي الوقت ذاته يجب علينا أن نكون رسل الحقيقة، وشجعاناً نقول الحقّ بالمحبّة. وعلينا أن نصارح المجرم تجاه بلده وشعبه بأنّ عمله هذا غير مقبول البتّة، ولو أنّه لربّما يظنّ أنّه يعمل الحق، لكن عليه أن يكون متواضعاً ويراجع نفسه”.
وتابع غبطته: “نتأمّل بالوعد الذي أعطاه الرب يسوع للصّ اليمين: اليوم تكون معي في الفردوس. تصوّروا مجرماً، لكنّ النعمة حلّت في قلبه، وطلب من يسوع أن يذكره متى يأتي في ملكوته. فيجيبه يسوع ويمنحه علامة الغفران، ليضحي لصّ اليمين أول شخصٍ ينال نعمة الفداء: اليوم تكون معي في الفردوس”.
وأردف غبطته: “نتأمّل بالكلمات التي سمعناها حين أوكل يسوع أمَّه إلى يوحنّا تلميذه، إذ قال لها: هذا هو ابنك، وقال للتلميذ: هذه هي أمّك. وهذا دليلٌ على أنّ مار يوسف كان قد تُوُفِّي، وأنّ يسوع كان الابن الوحيد لمريم، وإلا فلماذا يسلّم أمّه للتلميذ يوحنّا. ومن تلك الساعة، يقول لنا إنجيل يوحنّا، أخذ يوحنّا مريم العذراء إلى بيته”.
وأكمل غبطته: “نتأمّل بهذه العبارة التي تجعلنا أحياناً نتساءل: هل يا تُرى يسوع كان ابن الله؟ فإن كان ابن الله، لمَ لمْ ينزل عن الصليب، كما كان يستهزئ به صالبوه: إن كنتَ ابن الله فانزل عن الصليب، بينما يقول يسوع: إلهي إلهي لماذا تركتَني. نتأمّل هنا بسرّ التجسُّد، فيسوع إله كامل وإنسان كامل، تحمّل الآلام والموت بطبيعته البشرية، هذا هو ما نسمّيه سرّ التجسّد. وهنا نسأل: لماذا قَبِلَ يسوع بالصلب؟، فلْنَنْتبه لأنّ حياتنا ليست فقط عبارة عن الأمور المادّية والمنظورة، بل علينا أن نسعى جاهدين للعيش بأحسن حال. إنّنا مدعوون منذ ولادتنا كي نحيا علاقتنا مع الله ونظرُنا شاخصٌ إلى السماء. يجب أن نكون إذاً الشهود ليسوع، كما يقول بولس: يسوع يحيا فينا، ولو أنّه قَبِلَ الموت، لأنّه هو ابن الله”.
وتأمّل غبطته “بالقول الذي هو أشبه بالبكاء والتنهُّد: أنا عطشان. نعم يسوع عطشان لمحبّتنا، ولأن يكون البشر صادقين، شرط ألا يتعاملوا مع الآخرين بأنانية، بل بالمحبّة بعضهم لبعض، واعين للحاجات ولظروف البلاد والأشخاص، لا سيّما الفقراء والضعفاء. يسوع عطشان إلى محبّتنا وإلى افتخارنا به وبصليبه، فهو نفسه قال: من أنكرني أمام الناس أنكره أمام أبي السماوي، ومن اعترف بي أمام الناس أعترف به أمام أبي السماوي”.
وتوقّف غبطته عند عبارة “يا أبتاه بين يديك أسلّم روحي، هذه العبارة التي جاءت تعبيراً عن أنّه دوماً متّحدٌ مع أبيه السماوي، ولو أنّه بطبيعته البشرية قال له: إلهي إلهي لماذا تركتَني. لكنّه كان متّحداً مع أبيه السماوي مِن كلّ نفسه ومن كلّ قلبه، ومن كيانه بكامله، لذلك قال: بين يديك أسلّم روحي”.
وأكّد غبطته على “الكلمة الأخيرة للرب يسوع وهو على الصليب: لقد تمّ، نعم، أيّها المبارَكون الأحبّاء، تمّ عمل فدائنا، لكنّ هذا العمل الفدائي يتحقّق في كلّ واحدٍ منّا عندما نعيش دعوتنا المسيحية بصدق وأمانة، وعندما تكون العائلات شاهدةً للمحبّة والحنان والتفاهم والغفران، فتتميّز عائلاتنا بدعوتها في سرّ الزواج. يتمّ فداء الرب لكلّ واحدٍ منّا عندما نعرف أن نكون حقيقةً شهوداً له أينما كنّا، فعلينا أن ندرك أنّنا تلاميذ ليسوع وشهود له، شهود للفداء”.
وختم غبطته موعظته “ضارعاً ومتوسّلاً إلى الرب يسوع، المائت على الصليب كي يمنحنا الحياة والخلاص، بشفاعة أمّنا مريم العذراء، سيّدة البشارة، والتي صارت أمّاً لنا عندما سلّمها يسوع إلى يوحنّا، فهي الأمّ الحنونة والمُعينة، أن يقوّينا ويعزّينا ويرافقنا في حياتنا على الدوام، ويحفظ بلدنا لبنان وشرقنا والعالم”.
وبعد الموعظة، أنشد غبطته بالسريانية نشيد السجود للصليب: “ܣܳܓܕܺܝܢܰܢ ܠܰܨܠܺܝܒܳܐ سوغدينان لصليبو” (فلنسجد للصليب الذي به خُلِّصنا، ومع لصّ اليمين نهتف: أذكرنا في ملكوتك). ثمّ جثا غبطته وقبّل الصليب، وفعَل مثله الآباء الكهنة، فيما الجميع يردّدون النشيد عينه بالسريانية والعربية. وبعد ذلك أتمّ غبطته تحنيط المصلوب، فقام بغسله بماء الورد، ونَضَحَهُ بالزيت، ورشَّ عليه البخور والطيوب.
بعدئذٍ أقيم زيّاحٌ بنعش المسيح المصلوب داخل الكاتدرائية، ثمّ في ساحاتها، ليخرج الجميع في زيّاح مهيب في الشوارع المحيطة بالكاتدرائية. ثمّ مرّ الجميع تحت النعش فنالوا البركة، وبعدئذٍ أقام غبطته رتبة دفن المصلوب، واضعاً إيّاه في قبرٍ خاص تحت المذبح بحسب التقليد العريق لكنيستنا السريانية، وختمَه وبخّره.
وفي الختام، منح غبطته المؤمنين بركة آلام الرب يسوع وموته الخلاصي بالصليب المقدس.