الحديث الروحي حول الصوم الذي ألقاه صاحب الغبطة البطريرك يوسف العبسي الكلي الطوبى والجزيل الوقار، بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الملكيين الكاثوليك، أمام أصحاب السيادة مطارنة دمشق الكاثولبك وكهنة وراهبات ومكرسين دمشق الكاثوليك
روح العبـادة المسـيحيّة
الحياة الجديدة في المسيح
موضوع حديثنا هو روح العبادة المسيحيّة أو الحياة الجديدة في المسيح. في المسيحيّة ما نستطيع أن نسمّيه عبادات من مثل الصوم والصلاة والزكاة والحجّ والجهاد (المجاهدة) وقد تكلّم متّى الإنجيليّ عن الثلاث الأولى معًا (6: 1-18). أرغب في أن أتكلّم عن الروح التي تحيي هذه العبادات، أعني عن الحياة الجديدة التي دعا إليها السيّد المسيح والتي تكلّم عنها أيضًا القدّيس الرسول بولس، وهي من وحي إنجيل متّى من الفصل الخامس، والتي في الإمكان تسميتها شرعة الملكوت.
مبادىء أو شرعة حياة الملكوت
ليس في المسيحيّة شريعة بالمعنى اليهوديّ أو الإسلاميّ. لم يترك المسيح لنا مجموعة ولا لوائح من الفرائض أو المحرّمات كما ترك موسى ومحمّد، بل ترك لنا أمرًا واحدًا أو بالحريّ لنقل هدفًا واحدًا: “أنتم، كونوا كاملين كما أنّ أباكم السماويّ كامل” (متّى 5 : 48). هذا ما يطلبه بولس الرسول لأهل كورنثس بقوله: “إنّ ما نطلبه لكم في الصلاة هو أن تكونوا كاملين” (2كور 13:9). ومن هذا الأمر- الهدف يستوحي المسيحيّ مسلكه في علاقته مع ذاته ومع الله ومع القريب.
بالإضافة إلى الأمر بالكمال أوصانا السيّد المسيح بالمحبّة التي هي بمثابة الوسيلة أو الطريقة التي توصلنا إلى الهدف: “هذه وصيّتي لكم: أحبّوا بعضكم بعضًا كما أحببتكم أنا… فأنتم أحبّائي إذا عملتم بما أوصيكم به… فما أوصيكم به أن يحبّ بعضكم بعضًا” (يوحنّا 15 : 12-17). ويعقّب الرسول بولس على هذه الوصيّة ويشرحها بقوله: ” إنّ من أحبّ القريب قد أتمّ الناموس. فإنّ [هذه الوصايا]: “لا تزن، لا تقتل، لا تسرق، لا تشهد بالزور، لا تشته “، وكلّ وصيّة أخرى، تلخّص في هذه الكلمة: “أحبب قريبك كنفسك”. إنّ المحبّة لا تصنع بالقريب شرًّا؛ فالمحبّة إذن هي تمام الناموس “(روم 13: 8-10)؛ “كونوا بالمحبّة خدّامًا بعضكم لبعض، لأنّ الناموس كلّه يُتمّم في هذه الوصيّة الواحدة: أحبب قريبك كنفسك” (غلا 5: 13-14).
هكذا نرى بولس، حين يتكلّم عن “الأخلاق المسيحيّة”، لا يتكلّم بصيغة الأمر والنهي، بل يتكلّم عن الحرّيّة وعن ثمار الروح المرتبطة بها: “لقد حرّرنا المسيح لكي ننعم بهذه الحرّيّة. فاثبتوا إذن فيها ولا تعودوا ترتبطون بنير العبوديّة […] إنّما دعيتم إلى الحرّيّة، ولكن لا تجعلوا هذه الحرّيّة فرصة للجسد بل كونوا بالمحبّة خدّامًا بعضكم لبعض […] اسلكوا بالروح […] أمّا ثمر الروح فهو المحبّة والفرح والسلام وطول الأناة واللطف والصلاح والأمانة والوداعة والعفاف. وأمثال هذه ليس ضدّها ناموس” (غلا5). عن ثمار الروح التي هي على نقيض ثمار الجسد (غلا 5: 16-25). كذلك يتكلّم بولس عن أعمال النور التي هي مخالفة لأعمال الظلمة (روم 13: 11).
لكنّ المسيح لم يكتف بأن أمرنا بالكمال على مثاله، بل أعطانا بعض الأمثلة عن تصرّف الكاملين أو الذين يسعون إلى الكمال إزاء الآخرين. يقول: “إنّ من غضب على أخيه يستوجب القضاء. ومن قال لأخيه ’رقا‘ يستوجب حكم المجلس. ومن قال “يا معتوه” يستوجب جهنّم النار…ومن نظر إلى امرأة في شهوة فقد زنى بها في قلبه…ومن حلف هو من الشرّير… لا تقاوموا الشرّير. بل من لطمك على خدّك الأيمن فقدّم له الآخر أيضًا…ومن سخّرك لميل واحد فامض معه ميلين… أحبّوا أعداءكم…” (متّى 5:21-48). إنّ هذه الأمثلة على سلوك الكاملين أو الساعين إلى الكمال تبيّن لنا أنّ المسيح حين عدل عن إعطاء شريعة على الطريقة اليهوديّة والطرق المشابهة لها، ما فعل ذلك إلاّ لأنّه كان متطلّبًا أكثر. لم يرد أن يضع بالشريعة حدًّا للمسلك البشريّ بل جعل حدّه الكمال. على هذا النحو لا يعود المسيحيّ يقول مثلما قال الشاب الغنيّ: هذا كلّه حفظته وفعلته منذ صباي، بل مهما فعل يقول أنا عبد بطّال، أي إنّي مهما فعلت فأنا دون المطلوب منّي وتعوزني دومًا بعد واحدة.
كذلك القدّيس بولس أعطى هو أيضًا أمثلة عن تصرّف المحبّين أو الذين يسعون إلى المحبّة إزاء الآخرين. يقول: “المحبّة تتأنّى وترفق؛ المحبّة لا تحسد؛ المحبّة لا تتباهى ولا تنتفخ؛ لا تأتي قباحة ولا تطلب ما لنفسها؛ لا تحتدّ ولا تظنّ السوء؛ لا تفرح بالظلم بل تفرح بالحقّ؛ تتغاضى عن كلّ شيء، وتصدّق كلّ شيء، وترجو كلّ شيء، وتصبر على كلّ شيء”.
هكذا تبدو حقًّا “الشريعةُ الجديدة نعمةَ الروح القدس المعطاة للمؤمنين بالإيمان بالمسيح” (التعليم المسيحيّ الكاثوليكيّ، 1966). وهكذا “تتمِّم الشريعةُ الإنجيليّة وصايا الشريعة. إنّ الخطبة على الجبل هي أبعد من أن تلغي وتقلّل من قيمة رسوم الشريعة القديمة بل تبرز إمكاناتها المخفيّة وتبعث متطلّبات جديدة…يقود الإنجيل على هذا النحو الشريعة إلى كمالها بالاقتداء بكمال الأب السماويّ، وبمسامحة الأعداء وبالصلاة من أجل المضطهِدين، على غرار الكَرَم الإلهيّ” (التعليم المسيحيّ الكاثوليكيّ، 1968).
تطبيقات عمليّة
إنسجامًا إذن مع الأمر بالكمال والوصيّة بالمحبّة لم يسنّ لنا السيّد المسيح ناموسًا على طريقة موسى ولا شريعةً على طريقة محمّد، أي لم يسنّ نظامًا أو قانونًا شاملاً لكلّ ميادين الحياة وملزمًا بالحرف، بل علّمنا كيف نحيي من الداخل، كيف “نروحن”، كيف نجعل كاملاً كلّ عمل نقوم به، بغضّ النظر عن إلزاميّة هذا العمل أو لا إلزاميّته، بل بالنظر إلى بنيان أنفسنا وبنيان الآخرين في السعي إلى الكمال . يقول، على سبيل المثال: “وأمّا أنت فمتى تصدّقت فلا تعرف شمالك ما تصنع يمينك، لكي تكون صدقتك في الخفية، وأبوك الذي يرى في الخفية هو يجازيك…ومتى صلّيت فصلّ لأبيك الذي هو هناك في الخفية… وصلّ هكذا: ’أبانا… … ‘ وإذا صمت فطيّب رأسك، واغسل وجهك لكي لا تظهر للناس أنّك صائم بل لأبيك الذي في الخفية. وأبوك الذي يرى في الخفية هو يجازيك” (متّى 6 : 1-18) . وقد لامه الفرّيسيّون على أنّه لا يغسل يديه قبل الطعام، فيما يسعى هو إلى غسل القلوب بالمحبّة والغفران.
يعقّب الرسول بولس على قول المسيح ويشرحه ويفصّله. يقول: “من يأكل [من كلّ شيء] فللربّ يأكل، لأنّه يشكر الله، ومن لا يأكل فللربّ لا يأكل، وهو أيضّا يشكر الله…إنّي عالم ومتيقّن في الرب يسوع أنّه ما من شيْ نجس في ذاته؛ بيد أنّ من يحسب شيئًا نجسًا فله يكون نجسًا. فإن كان أخوك يغتمّ من أجل طعام، فلست تسلك بعد بحسب المحبّة. فلا تهلك بطعامك من لأجله مات المسيح… فلنتبع إذن ما هو للسلام، وما هو لبنيان بعضنا بعضًا… لا جرم أنّ كلّ شيء طاهر، بيد أنّ الإنسان يسيْ العمل إذا ما أكل بمعثرة… فليرض كلّ واحد منّا القريب للخير، لأجل البنيان” (روم 14: 5-15: 2).
في الواقع، فإنّ المسيح، بالرغم من أنّه كان يصوم ويصلّي ويصنع الخير، كما يخبرنا الإنجيل، لم يشأ أن يضع لهذه الممارسات تشريعًا وحدودًا: متى وكيف وكم ومن. بل نلاحظ من الإنجيل أيضًا أنّ الرسل قليلاً ما كانوا يصلّون ويصومون، وقد لام البعض يسوع على ذلك، فاكتفى بأن أجاب سيصومون متى يرفع العريس عنهم (متّى 9 :14-15)، أي يتدبّرون ساعتئذ بأنفسهم ما هو من أمر الصوم. كما أنّهّ هو نفسه عاتب رسله كيف لم يقدروا أن يسهروا ويصلّوا معه ساعة نزاعه في بستان الزيتون، ونبّههم، يوم جاءوا يخبرونه بأنّهم لم يتمكّنوا من إخراج الشيطان، إلى أنّ هذا الجنس لا يخرج إلاّ بالصوم والصلاة (متّى 17: 14-21). وبالرغم من ذلك لم يأمرهم أو يلزمهم بتشريع كما فعل موسى أو غيره ممّن سبقوه أو لحقوه.
ما يفسّر موقف يسوع هو أنّه لم يأت ليؤسّس دينًا، كما فعل غيره (اليوم أكملت لكم دينكم)، بل جاء يعلن بشرى الخلاص، جاء يعلن محبّة الله لجميع الناس وصفحه عنهم، جاء يعلن أنّ الله هو أبوهم وأنّهم هم أبناؤه، ولم يشأ أن يتبعوا شريعة أو كتابًا بل أن يتبعوه هو النور والطريق والحقّ والحياة وأن يكونوا له تلاميذ: “تعالوا إليّ يا جميع المتعبين تحت ثقل أحمالكم وأنا أوتيكم الراحة. خذوا نيري عليكم وتتلمذوا لي، لأنّي وديع ومتواضع القلب، فتجدوا الراحة لنفوسكم. أجل إنّ نيري ليّن وحملي خفيف” (متّى 11: 28 -30). ولـمّا جاء شابّ غنيّ إلى يسوع يسأله ماذا يعمل ليرث الحياة الأبديّة قال له المعلّم: احفظ الوصايا، لكنّه أردف: إن شئت أن تكون كاملاً فاذهب وبع مالك ووزّعه على المساكين وتعال اتبعني. وإذا كان موسى صعد إلى جبل سيناء وعاد بلوحي الشريعة، فإنّ المسيح صعد إلى جبل حرمون وكشف عن وجه الله الأب: هذا هو ابني.
لكن ربّ قائل: أليس عندنا نحن المسيحيّين شريعة، وصايا ومبادىء أخلاقيّة؟ بلى عندنا، إلاّ أنّنا لا نبدأ نحن بالوصيّة لننتهي إلى الله، لا نرتقي من الشريعة أو بالشريعة إلى الله، بل نبدأ من الله الذي يحبّنا محبّة الأب لأولاده، نبدأ من الله الذي منه وُلدنا، ونعبّر من ثمّ عن حبّنا له وعن بنوّتنا بمسلكنا أو بما نسمّيه الشريعة والوصيّة. ليست الوصيّة هي التي تقودني إلى الله، بل عندما أرى محبّة الله لي أرى الوصيّة على ضوئها: “إنّ لطف الله يدعوك إلى التوبة” (روم 2: 4). من هنا القول المأثور الذي قاله القدّيس أوغسطينس أحد الذين خبروا حبّ المسيح في العمق: أحبب وافعل ما تشاء.
أجل إنّ الإيمان بإله أب محبّ مخلّص هو أساس العبادة في المسيحيّة، وهو الذي يطلبه السيّد المسيح: آمن فيكون لك ما تريد. وما العبادة وما الدين إلاّ مظاهر وتعابير عن الإيمان ترك لنا يسوع أن نحدّدها نحن بأنفسنا بوحي ممّا ترك لنا من أقوال وأظهر لنا من أفعال. وليست مشيئة الله أن يخضعنا لشريعة فيربّينا ويهذّبنا بها، بل أن يعيد في كلّ واحد منّا ولادة ابن له وأن ينفخ فيه روح محبّته الذي هو روح البنوّة. فإنّ الله يرى في كلّ منّا إمكانيّة لنشوء محبّة ولولادة كائن جديد يولد لحياة حرّة ولولادة ابن مدعوّ إلى الدخول والمشاركة في حياة الثالوث الأقدس. إنّ الوصاية علينا ولّت وحلّت محلّها البنوّة والنعمة: “فأنتم إذن بالنعمة مخلَّصون بواسطة الإيمان. وهذا [الخلاص] ليس هو منكم بل عطيّة من الله” (أف 2: 8)؛ “أنا لا أستهين بنعمة الله، لأنّه إن كان البرّ يحصل بالناموس، فالمسيح إذن مات لغير علّة” (غلا 2: 21).
لذلك فإنّ الأمر الأهمّ والأوّل لكلّ إنسان هو أن يعرف أنّ له إلهًا أبًا يحبّه، ويحبّه محبّة عظيمة بحيث إنّه بذل في سبيله، وليس للتكفير عنه وحسب، ابنه الحبيب والوحيد، حتّى لنكاد نقول إنّه فضّلنا على ابنه: “ماذا نزيد على ذلك؟ إذا كان الله معنا فمن علينا؟ هو الذي لم يشفق على ابنه الخاصّ، بل أسلمه عنّا جميعًا، كيف لا يهبنا أيضًا معه كلّ شيء؟” (روم 8: 31-32). وإنّ من الضروريّ بالتالي أن نعلم أنّ الخطيئة ليست تعدّيًا على وصايا بقدر ما هي ابتعاد عن الله الأب، عن البيت الأبويّ.
ولا بدّ هنا من الإشارة إلى أنّ الدين، لكونه تعبيرًا عن الإيمان، هو عنصر من عناصر الحضارة. ولـمّا كان الدين المسيحيّ مؤسّسًا على الإيمان بإله محبّ يدعو إلى المحبّة، ففي وسعنا وصفه بدين المحبّة ووصف الحضارة التي يسهم في إنشائها أو يدعو إليها بأنّها حضارة المحبّة. اللهمّ إذا أردنا أن نتكلّم عن حضارة، لأنّ المسيحيّة هي أكثر من حضارة. إنّها حضور الروح القدس في العالم.
الصيام مثَل
ليس الصوم فريضة تفرض على المسيحيّ من الخارج ويتمّها بالتالي روتينيًّا وآليًّا، بل يشكّل بعدًا هامًّا من أبعاد الحياة المسيحيّة ومقوّمًا من مقوّماتها، ويرتبط ارتباطًا وثيقًا بباقي أركان العبادة المسيحيّة. لذلك يحسن أن نتقصّى معناه:
1- التهيّؤ بالصوم
إنّ الصوم عمل دينيّ يتهيّأ به المسيحيّ للشروع بعمل دينيّ آخر: أصوم لأعترف وأتناول، أو لأقوم بإخراج شياطين، أو لأعتمد (كان الصيام الأربعينيّ تهيئة لنيل سرّ العماد)، أو لأستعدّ لعيد: صيام الآلام تهيئة للقيامة، أو لاستقبال حدث دينيّ: مؤتمر دينيّ، إنتخاب مطران، بطريرك، أو خصوصًا لاستقبال الله أو لتدخّل الله في حياته. أمثلة على ذلك:
• المسيح صام بعد العماد وقبل الشروع في رسالته العلنيّة (متّى 4: 1-11).
• الرسول بولس صام بعد ظهور المسيح له وقبل تقبّله العماد (أع 9: 9).
• جماعة من المؤمنين والرسولان بولس وبرنابا في أنطاكية صاموا في أنطاكيا قبل انطلاق هذين الأخيرين إلى الرسالة (أع 13: 2-3).
• الرسولان بولس وبرنابا صاما، في لسترة وإيكونيوم وأنطاكية، عندما غادرا للرسالة (أع 14: 23).
• الكنيسة تصوم قبل كلّ عيد استعدادًا لاستقباله. وكلّما كان العيد كبيرًا كان الصوم أطول وأقسى.
في حياتنا أحداث ومناسبات كثيرة لها شأنُها من المفيد أن نستعدّ لها بالصوم: العمادة، الزواج، الكهنوت، صعوبة في حياتنا الزوجيّة أو في حياتنا الرهبانيّة…
2- صوم الجماعة
الصوم عمل كنسيّ جماعيّ. فالكنيسة هي التي تصوم وليس الأفراد. إنّها هي العروس التي تستعدّ للقاء العريس بالصوم والسهر والصلاة. وإذا ما صام أحد منّا صومًا فرديًّا فبصفته عضوًا في جسد المسيح وعضوًا في الكنيسة وبالاتّحاد مع الكنيسة. ولا يرتدي صومه أهمّية ومعنى إلاّ بهذه الصفة. ولذلك تحدّد الكنيسة نفسها أوقات الصوم وأنواعه وطرقه وشروطه. ولذلك أيضًا إذا لم يصم بعض الأفراد فإنّ الصوم في الكنيسة يبقى قائمًا لأنّ الكنيسة هي التي يصوم وتعوّض عن عدم صيامه. ولذلك يبقى الصوم عملاً كنسيًّا ولو لم يكن جماعيًّا. لذلك من المحبّذ أن يكون جماعيًّا.
3- صوم القيامة والفرح
المسيحيّ ابن القيامة وإنسان الفرح في كلّ الأحوال ومن دون استثناء، ولا سيّما في وقت الشدّة، لأنّه يعلم حقّ العلم أنّه إنسان يحبّه الله وقد افتداه وخلّصه بدم ابنه وأقامه بقيامته: “افرحوا بالحريّ بمقدار ما تشتركون في آلام المسيح حتّى تفرحوا أيضًا وتبتهجوا في تجلّي مجده” (1 بط 4: 13). لذلك، إذا ما صام يصوم بالفرح لا بالكبت والحرج والتضايق والتأفّف، ولا يصوم عن غصب أو كره أو ترهيب أو ترغيب، ولا يصوم رغبة في العذاب والألم، بل يصوم عن قناعة وبمحبّة. فالصوم ليس عملاً سلبيًّا بل إيجابيّ، يبني ولا يهدم، يقوّي ولا يضعف. “متى صمتم فلا تكونوا معبّسين…وأمّا أنت فإذا صمت فطيّب رأسك، واغسل وجهك… ” (متّى 6: 16-17). فإن لم نكن من المؤمنين بالقيامة يفقد صيامنا أساسه. ونحن لا نصوم لكي “نموت” بل لكي نحيا، ولا لأنّنا أموات مقضيّ علينا، بل لأنّنا أحياء.
4- الصوم والتجربة والجهاد الروحيّ: تعبير عن التوبة وطريق إلى القداسة
جمع السيّد المسيح في الصلاة الربيّة التي تركها لنا بين التجربة والشرّير أي الشيطان، وحثّنا على أن نصلّي كي لا نقع في التجربة ولا يسيطر علينا الشيطان؛ ذلك أنّ الحياة، على ما يبدو، هي تجربة مستمرّة، والزمن الأربعينيّ هو زمن الجهاد الرّوحيّ لتغليب الفضيلة على الرذيلة والإنسانِ الجديد على الإنسان العتيق، بممارسة فضائل التوبة والتواضع والمسامحة والصبر والمحبّة، وبممارسة الصوم الذي هو من الوسائل الناجعة التي ذكرها السيّد المسيح وتدعو الكنيسة إلى التسلّح بها لمحاربة الشيطان: “هذا الجنس لا يخرج إلاّ بالصوم والصلاة” (…)، ولمكافحة جميع مظاهر السوء والخطيئة. وإنّ الكنيسة، حين تذكر أبناءها الذين قضوا حياتهم في النسك، تخاطبهم بقولها: “لقد صرت ملاكًا بالجسم…وإذ حزت المواهب السماويّة بالصوم والسهر والصلاة، فأنت تشفي السقماء… “. أجل، بالصوم، كما قال السيّد المسيح وكما تردّد الكنيسة من بعده، يصبح المرء ملاكًا وصانعًا للعجائب. الصوم عمل تقديس ونعمة. إنّه سعي إلى العودة إلى الفردوس، كما تصوّره الكنيسة، فينبغي أن نخرج منه وقد تغيّرنا وتروحنّا واستنرنا كخروجنا من زمن نقاهة.
+ يوسف
حديث لكهنة ورهبان وراهبات دمشق الكاثوليك
دمشق، في 20/02/2024