البطريرك العبسي : نعيش في عالم أعوج غير مستقيم استولى عليه الشرّير في عالم ظالم ليس في قلبه رحمة للضعيف والمعوز

عظة صاحب الغبطة البطريرك يوسف العبسي الكلي الطوبى والجزيل الوقار بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الملكيين الكاثوليك، في الليترجيا الإلهية المقدسة،الاحد الرابع من الصوم الاربعيني المقدس، في كاتدرائية سيدة النياح – حارة الزيتون
بطريركية الروم الملكيين الكاثوليك
إلى متى أحتملكم
متى17: 10-18، مرقس 9: 17-31
إنجيل اليوم يعرض أمام أعيننا مأساة رجل أب إزاء ابن له مريض استولى عليه الشيطان، استولت عليه قوة شريرة، يحاول فلا يسعه أن يمدّ له يد المساعدة. وإذا به يسمع
بيسوع فيخفّ إليه، ومن ألمه يجثو بين يديه ويناديه: “يا سيدي ارحم ولدي”، “إن استطعت شيئًا فتحنن علينا وأغثنا” (مرقس). كان من قبل سأل تلاميذ يسوع، ومن قبلهم على الأرجح أطبّاء، أن يشفوه فلم يستطيعوا، فما بقي له سوى يسوع ملجأ أخيرًا.
في تأمل هذه الحادثة الإنجيلية غالبًا ما نشبه أنفسنا بالأب غالبا ما نرى أنفسنا في الأب. قلوبنا موجعة، أحوالنا تعبانة، صحّتنا متدهورة، حياتنا في خطر، مستقبلنا غامض، علاقاتنا متوتّرة، أعمالنا خاسرة، فنصرخ إلى يسوع: “يا سيّد ارحمنا”.
إنّ هذه الصرخة الصادرة من قلب أب موجع هي صرخة الكنيسة إلى الله في كلّ يوم وفي جميع الصلوات وعشرات المرات: “يا رب ارحم”. إنّ طلب الرحمة من الله هو أجمل ما
يسعنا طلبه منه أكان للأحياء أم للأموات، أكنّا خاطئين أم لم نكن خاطئين. إنّ طلب الرحمة هو أصدق ما يسعنا قوله في حضرة الله أيًّا كان الموقف وأيًّا كانت الظروف والأسباب، هو أصدق تعبير عن وقفة الإنسان الحقيقية في حضرة الله تعالى، وقفة الاعتراف بضعفنا، من جهة، ووقفة الاعتراف بقوة الله من جهة أخرى، لعلمنا بأنّنا مهما فعلنا فإننا عبيد بطّالون، كما يقول يسوع، ولعلمنا أيضًا بأنّ القضاء الأخير أو الحكم الأخير متروكان لرحمة الله، وقد ورد في الكتاب المقدّس: “لي القضاء يقول الربّ”.
بإزاء طلبنا الرحمة فإنّ الله يطلب منا أن نكون مؤمنين. إنّ طلب الرحمة من الله تعالى
يجب أن يكون مبنيًّا على الإيمان، صادرًا من قلب مؤمن وسليم، ليس فيه رئاء أو اعوجاج: “أيها الجيل الغير المؤمن الأعوج!”. إن يسوع ليس ساحرًا غريبًا فنطلب منه معجزات وعجائب ثمّ يذهب كلّ منا في طريقه، بل هو الرؤوف المحسن والشافي الذي يريد أن يلمّ حوله جميع الناس: “أنا متى رُفعت عن الأرض اجتذبت إليّ الجميع” (يوحنا ۱۲ : ۳۲). فأنا عندما أصرخ إلى يسوع “يا ربّ ارحم” فإني أؤمن مسبقًا أنّه إله قدير مخلّص. وإن كان التلاميذ لم يستطيعوا أن يشفوا الغلام فذلك “لقلة إيمانهم” كما قال لهم يسوع موبّخًا.
غير أنّ يسوع، بالرغم من قلّة إيماننا، في بعض الأحيان، يشفينا ويصنع إلينا المعجزات لأنّه أمين في وعده وفي قسمه بأن يخلّصنا كما يقول بولس في الرسالة إلى العبرانيّين (٦: ١٣-٢٠). “إليّ به إلى ههنا… وشفي الولد من تلك الساعة”. فإنّ يسوع ما جاء ليهلك بل ليخلّص. صحيح أنّ الناس غير المؤمنين ولا الرحيمين، ونحن لسنا بغريبين كثيرًا عنهم، يثيرون استياء يسوع بحيث يضيق بهم ذرعًا ويصرخ بهم: “إلى متى أكون معكم؟ إلى متى أحتملكم؟”، غير أنّهم مع ذلك لن يكونوا مانعًا أو حاجزًا أمام رحمة يسوع الواسعة ومحبّته المجّانية. لذلك، “انتهر يسوع الشيطان فخرج، وشفي الغلام من تلك الساعة”. أجل إن محبّة يسوع، بل كلّ محبّة، من أي مصدر أتت، سوف تنتصر في النهاية مهما طال الألم وامتدّ الزمان. ولا عجب، أفلم يقل يومًا: إنّي أتحنّن على هذا الشعب، وأيضًا: إني أريد رحمة لا ذبيحة؟ وهكذا، ونحن في جحيم عذابنا، يطلّ علينا دومًا وجه يسوع الرحيم، وجه يسوع الذي يمسح عن كلّ وجه كلّ دمعة. المهمّ أنّ نكون نحن متمسّكين “بالرجاء الموضوع أمامنا”، كما يقول بولس أيضًا. إنّ إنجيل اليوم هو دعوة لنا لكي نقوّي رجاءنا وإيماننا بيسوع، بأنّه هو الله الرحيم المخلّص القادر خصوصًا أن يمنحنا الحياة بانتصاره على الموت.
لكننا إذا كنا نشبه أنفسنا بالأب، فنحن في أحيان أخرى كثيرة نشبه الابن، ربّما من دون أن ندري، نعيش في عالم يتخبّط في صرع وضياع وجنون، في عالم أعوج غير مستقيم استولى عليه الشرّير في عالم ظالم ليس في قلبه رحمة للضعيف والمعوز، في عالم فقد معنى الصوم والصلاة، في عالم قلّ إيمانه أو فقد الإيمان حتّى أنكر قدرة الله بل محا الله من حياته معتمدًا على قواه الخاصًة ومتوسلاً وسائل خاصّة، يتصرف ويسلك وكأن الله غير موجود، على مستويات مختلفة وفي كثير من الميادين في الدين والسياسة والاقتصاد والاجتماع…. والنتيجة واحدة، وهي أن الكثير من البشر يتعذّب من جرّاء ذلك، ويتعذّب “عذابًا شديدًا” كذلك الابن في الإنجيل، وليس من يرحم أو يشفق أو يمدّ يد المساعدة.
لنرفع صلاتنا في هذه الليترجيّا من أجل جميع المعذّبين، وما أكثرهم في العالم ولا سيما في بلدنا سورية، لكي يحصلوا على الشفاء والفرح والسلام. ولنرفع الشكر الله تعالى الذي يأتي دومًا إلى شفائنا حين نطلب ذلك منه بإيمان. آمين.
+ يوسف
الكاتدرائية، دمشق، في ٢٠٢٤/٠٣/١٠