صدر في المكتبات الإيطالية، خلال الأيام الماضية، كتاب للمونسينيور أنتونيو ستياليانو في الذكرى السنوية الخامسة والعشرين لصدور الرسالة العامة للبابا يوحنا بولس الثاني “الإيمان والعقل”. المجلد الجديد يحمل عنوان “إعادة النظر في الفكر” ويبدأ بتوطئة بقلم البابا فرنسيس سلط فيها الضوء على أهمية البحث اللاهوتي وضرورة أن يأخذ في عين الاعتبار التبدلات الراهنة. واعتبر فرنسيس أن اللاهوت الذي نحتاج إليه اليوم يجب ألا يقتصر على البيئات الأكاديمية إذ لا بد أن يخرج منها لملاقاة الناس.
كتب الحبر الأعظم أن العقل بالغ الأهمية وضروري جداً وعلى الرغم من ذلك نلمس لمس اليد كل يوم كيف أن سر الحياة هو أكبر من كل ما يمكن أن يصل إليه العقل البشري مذكرا بما كتبه الفيلسوف الفرنسي بليز باسكال عندما اعتبر أن الخطوة الأخيرة للعقل تكمن في الإقرار بوجود أمور لا متناهية تتخطى هذا العقل نفسه. واعتبر فرنسيس أن هذه الكلمات تكتسب أهمية أكبر عندما نضع أنفسنا في حضرة سر الله، مشيرا إلى أن استخدام العقل والتعمق في الفكر يمكنهما أن يفتحا مساراتٍ للمعرفة فقط عندما يولدان من الصلاة ومن روح التأمل في سر الله.
من هذا المنطلق أكد الحبر الأعظم أن واجب اللاهوت لا يمكن أن يقتصر على تنظيم الأفكار والمفاهيم، كما لا بد أن نبقي عيناً ساهرة على شبح العقلانية المنوِّرة التي تحملنا على تنظيم محتويات الإيمان وتجعله يقتصر على مجرد نظرية منفصلة عن الواقع الملموس، وعن تاريخ الشعب المؤمن، وعن تساؤلات الحياة وجراح الأشخاص الفقراء. وهنا – كتب البابا – ينبغي ألا ننسى أن المسيحية تجد محورها الحيوي في تجسد الله في يسوع، الذي ما يزال حجر عثرة بالنسبة لكثيرين، والذي غالبا ما يُستعاض عنه بـ”إيمان فكري” ينحصر بالطبقة البورجوازية.
هذا ثم أكد البابا فرنسيس أنه عندما يُفسح التأمل اللاهوتي المجال أمام تجربة عقلنة الإيمان، يصبح هذا اللاهوت علماً عقيماً يفتقر إلى الجسد والقلب، ويكون عاجزاً عن نقل الشعور الجميل باللقاء مع الله. وذكّر بأن الكاردينال نيومان تحدث في إحدى عظاته عن “اغتصاب العقل” الذي يحمل الإنسان على تفسير الإيمان والأسفار المقدسة وفقاً للحكمة البشرية، ولذهنية دنيوية.
بعدها دعا البابا للعودة إلى الدرب التي تقود نحو لاهوت لا يولد من أفكار مجردة تُعد مسبقاً، بل ينبع من مخاض التاريخ، ومن حياة الشعوب ومن رموز الثقافة ومن التساؤلات المخبأة ومن الصرخة التي تتعالى من أفواه الفقراء المتألمين. وشدد فرنسيس على الحاجة اليوم إلى لاهوت يولد من الله ويحمل في طياته إعلان التحرر، لاهوت ينتقل من علم الإيمان إلى الحكمة الروحية، كي يرافق نساء ورجال زماننا الراهن في عملية اكتشاف حداثة الإنجيل، لاهوت ينتقل من المعرفة الأكاديمية إلى القلوب ليوقظ فيها شغفاً إلهياً ويحرك الرغبة البشرية على الاقتراب من سر الله. وهذا يعني أيضا أننا بحاجة إلى لاهوت يترك محبة الله تفاجئه، ويغوص في مغامرة الكرازة بالإنجيل وخدمة شعب الله.
لم تخلُ توطئة الكتاب من الحديث عن التبدلات الكبيرة التي يشهدها عالمنا المعاصر وأكد البابا في هذا السياق أن ثمة حاجة إلى دروب ومعايير جديدة، ثمة حاجة إلى “إعادة النظر في الفكر”، واعتبر أن هذه هي المحاولة الشجاعة التي يقوم بها كتاب المونسينيور أنتونيو ستياليانو، رئيس الأكاديمية اللاهوتية الحبرية، باحثاً عن طرق خلاقة لممارسة اللاهوت، وموجها أيضا رسائل إلى عظماء الفلسفة واللاهوت في عالم اليوم.
وأضاف البابا أن تلك الرسائل تسلط الضوء على حاجة ملحة، ألا وهي أن الفكر المسيحي، الذي يحتفظ بثروات كبيرة، يحتاج اليوم إلى إعادة النظر في ضوء الإنجازات البشرية والعلمية والثقافية الجديدة، كما يحتاج أيضا إلى تحدي متطلبات الكرازة بالإنجيل، التي تقتضي لاهوتاً يخرج من ذاته ويكون قادراً على الاستجابة للتساؤلات المعقدة، ويحتاج إلى لغة متجددة قادرة على مخاطبة قلوب الجميع وعلى جذب الأشخاص البعيدين ومن لديهم أفكار مختلفة، وعلى تعزية المتألمين. ثمة حاجة إلى لاهوت ينظر إلى الأعلى، ويصغي إلى كلمة الله، لاهوت يصب اهتمامه على محور الحياة المسيحية الذي هو الرب يسوع، لاهوت ينحني، كما فعل الرب، كي يغسل أرجل العالم، ويبحث في التاريخ عن بذور ملكوت الله ويرافق البشرية.
في ختام توطئة الكتاب عبر البابا فرنسيس عن سروره لهذه الفرصة التي أتيحت له مشيرا إلى أن المجلد الجديد يسلط الضوء أيضا على قيمة اللاهوت الشعبي، الذي يخرج من ذاته ليسكن أماكن أخرى، أي ينبغي ألا يقتصر على البيئات الأكاديمية بل يجب أن يتوجه إلى الطرقات، وينبغي يسلط الضوء على لاهوت لا ينحصر بالبحث العلمي، بل يسعى لإيجاد الأجوبة على تساؤلات القلب، ولا يقتصر نشاطه على العقل وحسب إنما على المخيلة أيضا، ويكون قادرا على إيجاد وقع محبة الله وسط خطوات البشر المتأرجحة أحياناً، وعلى رؤية عيني يسوع النيرتين وسط ظلمات القلب وعتمة هذا العالم، من أجل إيجاد الدروب التي يفتحها الروح القدس والكفيلة بالقضاء على انغلاقنا وتجعلنا شجعاناً كي نبني عالماً أخويا ومتضامنا.