البابا يستقبل المشاركين في دورة التنشئة التي نظّمتها محكمة الروتا الرومانية

“أنتم مدعوون لكي تحبوا العدالة والمحبة والحقيقة، ولكي تلتزموا يوميًا لتطبيقها في عملكم كقانونيين وفي كل المهام التي تقومون بها في خدمة المؤمنين” هذا ما قاله قداسة البابا فرنسيس في كلمته إلى المشاركين في دورة التنشئة التي نظّمتها محكمة الروتا الرومانية
استقبل قداسة البابا فرنسيس صباح السبت في القصر الرسولي بالفاتيكان المشاركين في دورة التنشئة التي نظّمتها محكمة الروتا الرومانية حول موضوع “خدمة العدالة والمحبة في الحقيقة”، وللمناسبة وجه الاب الاقدس كلمة رحب بها بضيوفه وقال “إن المحبة في الحقيقة، التي شهد لها يسوع المسيح بحياته الأرضية، ولاسيما بموته وقيامته، هي القوة الدافعة الرئيسية للنمو الحقيقي لكل شخص وللبشرية جمعاء. إن المحبة هي قوة غير عادية تدفع الأشخاص إلى الالتزام بشجاعة وسخاء من أجل العدالة والسلام. إنها قوة تجد أصلها في الله والمحبة الأبدية والحقيقة المطلقة”. بهذه الكلمات افتتح البابا بندكتس السادس عشر رسالته العامة “المحبة في الحقيقة” التي يعرض فيها العقيدة الاجتماعية للكنيسة من منظور العلاقة بين المحبة والعدالة، وكلاهما مع الحقيقة. إنها كلمات تصلح لمجال المجتمع المدني بأكمله، ولكنها تصلح أيضًا عند النظر في العلاقات بين المؤمنين وبينهم وبين الرعاة، داخل شعب الله. لذلك من المناسب جدًا أن نصف رسالة محكمة الروتا الرومانية بأنها “خدمة العدالة والمحبة في الحقيقة”؛ ويمكن توسيع هذا الوصف ليشمل جميع المحاكم الكنسية في العالم، لا بل ليعانق كل العمل الرعوي للكنيسة، وهو موضوع هذا المؤتمر.
تابع البابا فرنسيس يقول إن جوهر الرسالة التي أود أن أتركها لكم اليوم هو هذا: أنتم مدعوون لكي تحبوا العدالة والمحبة والحقيقة، ولكي تلتزموا يوميًا لتطبيقها في عملكم كقانونيين وفي كل المهام التي تقومون بها في خدمة المؤمنين. يتعلق الأمر بمحبة الثلاثة في الوقت نفسه، لأنها تسير معًا، وإذا تجاهلتم واحدة منها تفقد البقية أصالتها. في الواقع، إنَّ مثالنا هو يسوع المسيح الذي هو الحق وهو عادل ورحيم. فلا عدالة بدون محبة، ولا محبة بدون عدالة. العدالة هي فضيلة أساسية مهمة جدًّا تحمل إلى إعطاء كل فرد حقه. وهذه الفضيلة يجب أن تُعاش بالتأكيد أيضًا داخل الكنيسة: وحقوق المؤمنين وحقوق الكنيسة نفسها تتطلب ذلك. لكن، لا يكفي في أي جماعة بشرية، ولا حتى في الكنيسة، احترام الحقوق وحسب، بل ينبغي الذهاب إلى أبعد، بدفع المحبة، والبحث عن خير الآخر من خلال البذل السخي لحياتنا. من الضروري أن نعيش خدمة المحبة، “لأنه لا يمكن فهم العدالة إلا في ضوء المحبة”. حتى في واجباتكم القانونية يجب أن تتذكروا هذا الأمر دائمًا: لا يجب أن تعاملوا الأشخاص فقط وفقًا للعدالة، التي لا مفر منها، وإنما أيضًا وبشكل خاص بمحبة. لا تنسوا أبدًا أن الذين يتوجهون إليكم طالبين منكم أن تمارسوا وظيفتكم الكنسية يجب أن يلتقوا دائمًا بوجه أمنا الكنيسة المقدسة التي تحب جميع أبنائها بحنان.
وهكذا، أضاف الأب الأقدس يقول يتمُّ تجنب عدالة باردة تكون مجرد عدالة توزيعية بدون أن تذهب أبعد من ذلك، أي بدون رحمة. يمكننا أن نُطبق على العدالة ما جاء في الرسالة العامة “Fratelli tutti”: “يمكن للأشخاص أن ينمّوا بعض المواقف التي يقدمونها كقيم أخلاقية: القوة والرصانة والاجتهاد وغيرها من الفضائل. لكن من أجل توجيه أعمال الفضائل الأخلاقية المختلفة بشكل صحيح، يجب أن نأخذ بعين الاعتبار أيضًا مدى ما تحققه هذه الفضائل من ديناميكية انفتاح ووحدة تجاه الأشخاص الآخرين. هذه الديناميكية هي المحبة التي يبعثها الله. وإلا فربما لن يكون لدينا سوى مظهر من مظاهر الفضائل، وهذه لن تكون قادرة على بناء حياة مشتركة”. لكن لا يمكننا أن نتصور محبة بدون عدالة. “إنَّ المحبة” في الواقع، يتابع البابا بندكتس السادس عشر شارحًا: “تتجاوز العدالة، لأن المحبة هي أن أعطي، وأن أُقدم “ما هو لي” للآخر؛ ولكنها لا تخلو أبدًا من العدالة، التي تدفعني لكي أعطي الآخر ما هو “له”، ما هو من حقّه بسبب كيانه وعمله. لا يمكنني أن “أعطي” للآخر ما هو “لي” بدون أن أعطيه أولاً ما هو “له” بحسب العدالة. إن الذي يحب الآخرين بمحبة يكون أولاً عادلاً تجاههم”. ولأنكم تحبون الجميع وكل فرد من المؤمنين، عززوا حساسيتكم القانونية، لا كما يُعتقد في كثير من الأحيان كمجرد استيفاء الشكليات الواجبة، وإنما كإقرار دقيق لما يشكل حقًا حقيقيًا للشخص في الكنيسة. إذ يجب احترام كرامته اللامتناهية بشكل مثالي في العلاقات داخل الكنيسة.
تابع الحبر الأعظم يقول علينا أن نتغلب على المخاوف غير الضرورية. أولاً، الخوف من العدالة، كما لو كان بإمكانها يمكن أن تقوض المحبة أو أن تقلل منها. عند الفحص الدقيق، ينبع هذا الخوف من مفهوم خاطئ للعدالة، التي يُنظر إليها كمطالبة أنانية وربما متعارضة. إن جوهر العدالة هو شيء آخر تمامًا: إنها فضيلة إيثارية بشكل رائع تتحرك نحو خير الآخر. فإذا كان هذا الآخر يستطيع، وعليه أحيانًا أن يطالب باحترام حقه، فهذا الأمر يفترض موضوعية ما هو مستحق. وبصفتكم عاملين للعدالة، لديكم واجب مهمٌّ جدًّا وهو أن تساهموا في التأكد من حقوق المؤمنين وواجباتهم وكيفية حمايتها عن طريق المحاكمات التي هي ضرورية جداً عند الضرورة لخير الكنيسة وجميع أعضائها. كذلك لا يمكننا أن نخاف من المحبّة والرحمة كتعبير مميز لها. فالمحبة لا تحل العدالة، ولا تجعل الحقوق نسبيّة. باسم المحبة، لا يمكننا أن نُهمل ما هو واجب العدالة. على سبيل المثال، لا يمكننا أن نفسر القواعد الحالية المتعلقة بالدعاوى الزوجية كما لو كانت، في السعي الواجب نحو القرب والسرعة، تعني ضمناً إضعافاً لمتطلبات العدالة. إنَّ الرحمة من جهتها لا تلغي العدالة، بل على العكس، هي تحثنا على عيشها بلطف أكبر كثمرة شفقة إزاء آلام القريب. في الواقع، “إن العتبة التي تدعم حياة الكنيسة هي الرحمة. ويجب أن يُغلَّفَ كل عملها الرعوي بالحنان الذي تتوجه به إلى المؤمنين؛ إذ لا يمكن لأي شيء من إعلانها وشهادتها للعالم أن يكون بدون رحمة. إنَّ مصداقية الكنيسة تمر عبر درب الحب الرحيم والشفوق”.
أضاف الأب الأقدس يقول إن الانسجام بين المحبة والعدالة يستنير في مرجعيتهما المشتركة إلى الحقيقة. المحبة الحقيقية والعدالة الحقيقية: هذا هو الأفق الرائع والتحدي الجذاب لخدمتكم الكنسية. وقد ذكّرت به مقدّمة الرسالة العامة للبابا بندكتس السادس عشر: “المحبة في الحقيقة”. وقد علّم في هذا الصدد: “في الحقيقة وحدها تسطع المحبة ويمكنها أن تُعاش”. الحقيقة هي النور الذي يعطي معنى وقيمة للمحبّة. وهذا النور هو، في الوقت عينه، نور العقل والإيمان، الذي من خلاله يصل العقل إلى الحقيقة الطبيعية والفوق طبيعية للمحبة، فيدرك معناها المتمثل في العطاء والقبول والشركة. بدون الحقيقة، تنزلق المحبة إلى العاطفية. ويصبح الحب قوقعة فارغة، تُملأ اعتباطًا. هذه هي الخطورة القاتلة للحب في ثقافة بدون حقيقة”.
وخلص البابا فرنسيس إلى القول أيها الإخوة والأخوات، إنَّ الكنيسة تضع ثقة كبيرة فيكم كعاملي عدالة ومحبة في الحقيقة. ليكن مناخ عملكم مناخ الرجاء، الذي هو محور السنة المقدسة القادمة. يمكن أن تنطبق عليكم الدعوة وجهتها في رسالة إعلان اليوبيل: “لنسمح منذ الآن للرجاء بأن يجذبنا ولنسمح له بأن يصبح من خلالنا معديًا للذين يرغبون فيه. ولتقل لهم حياتنا: “أرجُ الرب وتشدد وليتشجع قلبك وارجُ الرب”. لتملأ قوة الرجاء حاضرنا، في الانتظار الواثق لعودة الرب يسوع المسيح الذي له الحمد والمجد إلى الدهور”. من أجل رسالتكم ومن أجل تقديسكم فيها، أمنحكم فيض البركة الرسولية. وأنتم، من فضلكم، لا تنسوا أن تصلوا من أجلي.