“من خلال البقاء متحدين مع المسيح، يمكننا أن نحمل ثمار الإنجيل إلى الواقع الذي نعيش فيه: ثمار العدالة والسلام، ثمار التضامن والعناية المتبادلة؛ وخيارات متنبّهة لحماية الإرث البيئي وإنما الإرث البشري أيضًا” هذا ما قاله قداسة البابا فرنسيس في عظته مترئسًا القداس الإلهي في ساحة القديس مرقس في البندقية
في إطار زيارته الرسوليّة إلى البندقية ترأس قداسة البابا فرنسيس عند الساعة ١١ صباحًا القداس الإلهي في ساحة القديس مرقس، وللمناسبة ألقى الأب الأقدس عظة قال فيها يسوع هو الكرمة ونحن الأغصان. والله، الآب الرحيم والصالح، يعمل بنا مثل مزارع صبور لكي تكون حياتنا مليئة بالثمر. لهذا السبب، يوصينا يسوع أن نحافظ على العطية التي لا تقدر بثمن، والتي هي العلاقة معه، والتي تعتمد عليها حياتنا وخصبنا. وبالتالي هو يكرر بإصرار: “أُثبُتوا فيَّ كما أَثبُتُ فيكم… فمَن ثَبَتَ فيَّ وثَبَتُّ فيه فَذاكَ الَّذي يُثمِرُ كثيرًا”. وحده الذين يبقى متّحدًا بيسوع هو الذي يُثمر. لنتوقف عند هذا.
تابع البابا فرنسيس يقول يسوع هو على وشك أن يختتم مهمته الأرضية. وفي العشاء الأخير، مع الذين سيكونون رسله، سلّمهم، مع الإفخارستيا، بعض الكلمات الأساسية. إحداها بالتحديد هي: “اثبتوا”، أي حافظوا على الرباط معي حيًّا، ابقوا متحدين بي مثل الأغصان في الكرمة. باستخدام هذه الصورة، يستخدم يسوع استعارة بيبلية يعرفها الشعب جيدًا ويجدها أيضًا في الصلاة، كما في المزمور الذي يقول: ” إرجع يا إله القوات تطلع من السماء وانظر وافتقد هذه الكرمة”. إسرائيل هو الكرمة التي غرسها الرب واعتنى بها. وعندما لم يحمل الشعب ثمار المحبة التي كان الرب ينتظرها، صاغ النبي أشعياء اتهامًا مستخدمًا مثل الفلاح الذي قَلَب كرمه وحصَّاه وغرس فيه أفضل كرمه وانتظر أن يُنتج خمرًا جيدًا، ولكنّه أثمر حصرمًا برِّيًّا. ويختتم النبي: ” إن كرم رب الجنود هو بيت إسرائيل، وغرس لذته رجال يهوذا. فانتظر حقا فإذا سفك دم، وعدلا فإذا صراخ”. ويسوع نفسه، إذ يستعيد قول أشعيا، يروي مثل الكرامين القتلة، ويسلّط الضوء على التناقض بين عمل الله الصبور ورفض شعبه.
أضاف الأب الأقدس يقول لذلك فإن استعارة الكرمة، بينما تعبر عن عناية الله المحبة لنا، هي تحذرنا من ناحية أخرى، لأننا إذا قطعنا هذا الرابط مع الرب، فلن نتمكّن من أن ننتج ثمار حياة صالحة وسنخاطر بأن نصبح أغصانًا يابسة، يتم التخلص منها. أيها الإخوة والأخوات، على خلفية الصورة التي استخدمها يسوع، أفكر أيضًا في التاريخ الطويل الذي يربط البندقية بعمل كروم العنب وإنتاج النبيذ، وعناية العديد من الكرامين والعديد من الكروم التي نمت في جزر البحيرة وفي البساتين بين شوارع المدينة، وفي الذين كانوا يُلزمون الرهبان في إنتاج النبيذ لجماعاتهم. في هذه الذكرى، ليس من الصعب أن نفهم رسالة مثل الكرمة والأغصان: إنَّ الإيمان بيسوع، والعلاقة معه لا يسجنان حريتنا، بل على العكس، هما يفتحاننا لكي نقبل عصارة محبة الله، الذي يضاعف فرحنا، ويعتني بنا ككرام صالح ويجعل البراعم تنمو فينا حتى عندما تصبح تربة حياتنا قاحلة.
تابع الحبر الأعظم يقول لكن الاستعارة التي خرجت من قلب يسوع يمكن قراءتها أيضًا من خلال التفكير في هذه المدينة المبنية على المياه، والمعروفة بفرادتها كواحدة من أكثر الأماكن المُوحية في العالم. البندقية هي كيان واحد مع المياه التي ترتفع فوقها، وبدون العناية بهذه البيئة الطبيعية وحمايتها يمكنها أن تزول من الوجود. هكذا أيضًا هي حياتنا: نحن أيضًا، إذ نغوص دائمًا في ينابيع محبة الله، نتجدّد في المعمودية، ونولد مجدّدًا لحياة جديدة من الماء والروح القدس، ونُدخل في المسيح مثل الأغصان في الكرمة. إن عصارة هذا الحب تجري فينا، وبدونها نصبح أغصانًا يابسة لا تثمر. قال الطوباوي يوحنا بولس الأول ذات مرة، عندما كان بطريركًا لهذه المدينة، إن يسوع قد “جاء لكي يحمل الحياة الأبدية للبشر […]. تلك الحياة التي فيه وتنتقل منه إلى تلاميذه، كما يخرج النسغ من جذع الكرمة إلى أغصانها. إنها ماء عذب يعطيه الرب، وينبوع يتدفق على الدوام”.
أضاف الأب الأقدس يقول أيها الإخوة والأخوات، هذا هو المهم: أن نثبُتَ في الرب، ونقيمَ فيه. ولا ينبغي أن نفسر هذا الفعل – الثبات – على أنه شيء جامد، وكأنه يريد أن يقول لنا أن نبقى ساكنين، راكنين في السلبية؛ لا بل هو يدعونا في الواقع، لكي نتحرّك، لأن الثبات في الرب يعني أن ننمو في العلاقة معه، والحوار معه، ونقبل كلمته، ونتبعه على درب ملكوت الله. لذلك يتعلّق الأمر بأن ننطلق في مسيرة خلفه، ونسمح لإنجيله بأن يحثنا ويحركنا ونصبح شهودًا لمحبته. لهذا يقول يسوع أن من يثبت فيه يثمر. ولا يتعلّق الأمر بمجرد أي فاكهة! إنَّ ثمر الأغصان التي يتدفق فيها النسغ هو العنب، ومن العنب يأتي الخمر، الذي هو علامة مسيحانية بامتياز. إنَّ يسوع، في الواقع، المسيح الذي أرسله الآب، يحمل خمر محبة الله إلى قلب الإنسان ويملؤه بالفرح والرجاء.
تابع الحبر الأعظم يقول أيها الإخوة والأخوات الأعزاء، هذه هي الثمرة التي نحن مدعوون لكي نحملها في حياتنا، وفي علاقاتنا، وفي الأماكن التي نتردد عليها يوميًا، وفي مجتمعنا. إذا نظرنا اليوم إلى مدينة البندقية هذه، سنعجب بجمالها الساحر، ولكننا سنشعر بالقلق أيضًا من المشاكل العديدة التي تهددها: التغيرات المناخيّة، التي لها تأثير على مياه البحيرة وعلى المنطقة؛ وهشاشة المباني والإرث الثقافي، وإنما هشاشة الأشخاص أيضًا؛ وصعوبة خلق بيئة تكون على المستوى البشري من خلال إدارة سياحية ملائمة؛ بالإضافة إلى كل ما قد تولده هذه الحقائق من حيث العلاقات الاجتماعية المتوترة والفردية والوحدة. ونحن المسيحيون، الذين نحن أغصان متحدين بالكرمة، كرم الله الذي يعتني بالبشرية، والذي خلق العالم كبستان لكي نُزهر فيه ونجعله يزهر، كيف نجيب؟ من خلال البقاء متحدين مع المسيح، يمكننا أن نحمل ثمار الإنجيل إلى الواقع الذي نعيش فيه: ثمار العدالة والسلام، ثمار التضامن والعناية المتبادلة؛ وخيارات متنبّهة لحماية الإرث البيئي وإنما الإرث البشري أيضًا: نحتاج إلى أن تصبح جماعاتنا المسيحية وأحيائنا ومدننا أماكن مضيافة وإدماجيّة. والبندقية، التي كانت على الدوام مكانًا للقاء والتبادل الثقافي، مدعوة لكي تكون علامة جمال في متناول الجميع، بدءًا من الأخيرين، وعلامة أخوَّة وعناية ببيتنا المشترك.