“لا توجد مسكونية حقيقية دون ارتداد داخلي. وبينما نصلي معًا، لنعترف، كل واحد منا بدءاً من نفسه، أننا بحاجة إلى الارتداد، ولأن نسمح للرب بأن يغير قلوبنا. هذا هو الدرب: أن نسير معًا ونخدم معًا، واضعين الصلاة في المقام الأوّل” هذا ما قاله قداسة البابا فرنسيس في عظته مترئسًا صلاة الغروب في اختتام أسبوع الصلاة من أجل وحدة المسيحيين
لمناسبة عيد ارتداد القديس بولس الرسول وفي اختتام أسبوع الصلاة من أجل وحدة المسيحيين ترأس قداسة البابا فرنسيس مساء الخميس، صلاة الغروب في بازيليك القديس بولس خارج أسوار روما القديمة. وتخللت الاحتفال عظة للأب الأقدس استهلها بالقول في الإنجيل الذي سمعناه، على الرغم من أنّ معلم الشريعة، يتوجّه إلى يسوع ويدعوه “معلِّم”، إلا أنه لا يريد أن يسمح له بأن يعلّمه، وإنما أن “يجربه”. ولكن من سؤاله تظهر كذبة أكبر: “ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية؟”.
تابع البابا فرنسيس يقول أن أفعل لكي أرث، وأن أفعل لكي أملك: إنّه تديُّن مشوه، يقوم على التملُّك وليس على العطيّة، يكون فيه الله الوسيلة للحصول على ما أريد، وليس الغاية التي عليَّ أن أحبّها من كل قلبي. لكن يسوع كان صبورًا ودعا معلّم الشريعة لكي يجد الجواب في الشريعة التي كان خبيرًا بها، والتي تنصُّ: “أحبب الرب إلهك بكل قلبك، وكل نفسك، وكل قوتك، وكل ذهنك وأحبب قريبك حبك لنفسك”. فأراد ذلك الرجل “أن يزكّي نفسه” فطرح سؤالاً ثانيًا: “ومن قريبـي؟”. إذا كان السؤال الأول ينطوي على خطر اختزال الله في “الأنا”، فإن هذا السؤال يحاول أن يقسّم: أن يقسّم الأشخاص بين الذين علينا أن نحبّهم والذين يمكننا تجاهلهم. والتقسيم ليس من الله أبدًا، بل من الشيطان. لكن يسوع لا يجيب من خلال نظرية، بل بمثل السامري الصالح، بقصة ملموسة، تدعونا أيضًا إلى التساؤل. لماذا أيها الإخوة والأخوات الأعزاء، تصرّف الكاهن واللاوي بشكل سيئ، وبلا مبالاة، ووضعا حماية تقاليدهم الدينية قبل احتياجات المتألمين. فيما أعطى، سامري، مهرطق معنى لكلمة “قريب”، لأنه صار قريبًا: شعر بالرحمة، واقترب وانحنى بحنان فوق جراح ذلك الأخ؛ واعتنى به، بغض النظر عن ماضيه وأخطائه، وخدمه بكل نفسه. وهذا الأمر سمح ليسوع أن يستنتج أن السؤال الصحيح ليس “من هو قريبي؟”، بل: “هل أجعل نفسي قريبًا للآخرين؟” وحدها هذه المحبة التي تصبح خدمة مجانية، وحدها هذه المحبة التي أعلنها يسوع وعاشها، هي التي ستقرب المسيحيين المنفصلين من بعضهم البعض. نعم، وحده هذا الحب، الذي لا يعود إلى الماضي لينأى بنفسه أو يشير بأصابع الاتهام، وحده هذا الحب الذي يضع باسم الله الأخ أمام الدفاع الشديد عن نظامه الديني، هو الذي سيوحدنا.
أضاف الأب الأقدس يقول أيها الإخوة والأخوات، لا ينبغي لنا أبدًا أن نطرح هذا السؤال فيما بيننا: “من هو قريبي؟”. لأن كل معمد ينتمي إلى جسد المسيح عينه؛ لا بل، لأن كل شخص في العالم هو أخي أو أختي، وجميعنا نكوَّن “سيمفونية الإنسانية”، التي يعتبر المسيح بكرها وفاديها. وكما يذكّرنا القديس إيريناوس، الذي سعدت بإعلانه “ملفان الوحدة”، “إن الذي يحب الحقيقة لا يجب أن يسمح بأن يجرفه اختلاف كل صوت، ولا أن يتصور أنه هو صانع هذا الصوت ومبدعه وأن آخرًا هو خالق ومبدع الصوت الآخر، وإنما عليه أن يعتقد أن واحدًا فقط هو من قام بذلك”. وبالتالي ليس “من هو قريبي؟”، بل “هل أجعل نفسي قريبًا؟” هل أنا ومن ثم جماعتي وكنيستي وروحانيتي نجعل من أنفسنا قريبين؟ أم أننا نبقى متحصنين في الدفاع عن مصالحنا الخاصة، وغيورين على استقلاليتها، ومنغلقين في حسابات مكاسبنا الخاصة، ولا نقيم علاقات مع الآخرين إلا من أجل الحصول على شيء منهم؟ إذا كان الأمر كذلك، فلن يكون الأمر مجرد أخطاء استراتيجية، وإنما عدم أمانة للإنجيل.
“تابع الحبر الأعظم يقول ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية؟ “هكذا بدأ الحوار بين معلّم الشريعة ويسوع. لكن هذا السؤال الأول يقلبه اليوم القديس بولس الرسول، الذي نحتفل بارتداده في البازيليك المخصصة له. عندما التقى شاول الطرسوسي، مُضطهِد المسيحيين، بيسوع في رؤيا النور الذي غمره وغيّر حياته، سأله: “ماذا أعمل، يا رب؟”. لا “ماذا أعمل لأرث؟” وإنما “ماذا أعمل، يا رب؟”: الرب هو غاية الطلب، الإرث الحقيقي، الخير الأسمى. وبولس لم يغير حياته بناءً على أهدافه، ولم يصبح أفضل لكي يحقق مشاريعه. إن ارتداده يولد من انقلاب وجودي، حيث لم تعد الأولوية لمهارته في مواجهة الشريعة، وإنما لطاعته لله، في انفتاح كامل على ما يريده. إذا كان هو الكنز، فلا يمكن لبرنامجنا الكنسي أن يقوم إلا على تحقيق مشيئته، وتلبية رغباته. وهو، في الليلة التي سبقت بذل حياته من أجلنا، صلى بحرارة إلى الآب من أجلنا جميعًا، “ليكونوا بأجمعهم واحدًا”. هذه هي مشيئته.
أضاف الأب الأقدس يقول إن جميع الجهود نحو الوحدة الكاملة مدعوة لكي تتبع مسار بولس عينه، وتضع جانبًا محورية أفكارنا لكي نبحث عن صوت الرب ونترك له المبادرة والمجال، وقد فهم ذلك جيّدًا بولس آخر، رائد عظيم من الحركة المسكونية، الأب بول كوتورييه، الذي كان في صلاته يطلب وحدة المؤمنين “كما يريدها المسيح”، “وبالسُبل التي يريدها”. نحن بحاجة إلى ارتداد المنظور هذا، ولاسيما إلى ارتداد القلب، لأنه، كما أكّد المجمع الفاتيكاني الثاني لستين سنة خلت: “لا توجد مسكونية حقيقية دون ارتداد داخلي”. وبينما نصلي معًا، لنعترف، كل واحد منا بدءاً من نفسه، أننا بحاجة إلى الارتداد، ولأن نسمح للرب بأن يغير قلوبنا. هذا هو الدرب: أن نسير معًا ونخدم معًا، واضعين الصلاة في المقام الأوّل. في الواقع، عندما ينضج المسيحيون في خدمة الله والآخرين، هم ينمون أيضًا في التفاهم المتبادل، كما يعلن المجمع الفاتيكاني الثاني أيضًا: “كلما كانت شركتهم وثيقة مع الآب، ومع الكلمة والروح القدس، سيتمكنون من أن يجعلوا الأخوّة المتبادلة أكثر حميمية وأسهل”.
تابع الحبر الأعظم يقول ولهذا السبب نحن هنا الليلة من بلدان وثقافات وتقاليد مختلفة. أنا ممتن لصاحب السيادة جوستين ويلبي، رئيس أساقفة كانتربري، وللمتروبوليت بوليكاربوس، ممثل البطريركية المسكونية، ولكم جميعًا، الذين تجعلون العديد من الجماعات المسيحية حاضرة. وأوجه تحية خاصة إلى أعضاء اللجنة الدولية المختلطة للحوار اللاهوتي بين الكنيسة الكاثوليكية والكنائس الأرثوذكسية الشرقية، الذين يحتفلون بالذكرى العشرين لمسيرتهم، وإلى الأساقفة الكاثوليك والأنغليكان الذين يشاركون في لقاء اللجنة الدولية للوحدة والرسالة. من الجميل أن نتمكن اليوم مع أخي، رئيس الأساقفة جوستين، من أن نمنح هؤلاء الأساقفة المهمّة لكي يواصلوا الشهادة للوحدة التي يريدها الله لكنيسته في مناطقهم، ويمضوا قدمًا معًا “لكي ينشروا رحمة الله وسلامه في عالم يحتاج لهما”. كما أحيي طلاب المنح الدراسية في لجنة التعاون الثقافي مع الكنائس الأرثوذكسية التابعة لدائرة تعزيز وحدة المسيحيين والمشاركين في الزيارات الدراسية التي يتمُّ تنظيمها للكهنة والرهبان الشباب من الكنائس الأرثوذكسية الشرقية، ولطلاب المعهد المسكوني بوسي التابع لمجلس الكنائس العالمي. معًا، كإخوة وأخوات في المسيح، نرفع صلاتنا مع بولس قائلين: “ماذا نعمل، يا رب؟”. وفي السؤال هناك جواب، لأن الجواب الأول هو الصلاة. الصلاة من أجل الوحدة هي المهمة الأولى في مسيرتنا. وهي مهمة مقدسة، لأنها تعني أن نكون في شركة مع الرب، الذي صلى بشكل خاص إلى الآب من أجل الوحدة. ونواصل أيضًا الصلاة من أجل نهاية الحروب، لاسيما في أوكرانيا والأراضي المقدسة. ويتوجّه الفكر أيضًا إلى شعب بوركينا فاسو الحبيب، وبشكل خاص إلى الجماعات التي أعدت هناك نصوص وصلوات أسبوع الصلاة من أجل الوحدة: لتحل محبة القريب محل العنف الذي يُعذِّب بلدهم.
وختم البابا فرنسيس عظته بالقول “ماذا أعمل، يا رب؟”، فقال لي الرب – يخبر القديس بولس – “قم فاذهب”. قم، يقول يسوع لكل واحد منا، ولبحثنا عن الوحدة. لننهض إذن، باسم المسيح، من تعبنا وعاداتنا، ولنستمر، ونمضي قدمًا، لأنه يريد ذلك، ويريده “لكي يؤمن العالم”. لنصلِّ إذن ولنمضِ قدمًا، لأن هذا ما يريده الله منا.الفاتيكان