اللغة اللاتينية وإرثها الثقافي الهام في عالم اليوم. كان هذا موضوع الرسالة التي وجهها قداسة البابا فرنسيس إلى عميد دائرة الثقافة والتربية الكاردينال جوزيه تولينتينو دي ميندونسا لمناسبة تسليم جائزة الأكاديميات الحبرية ٢٠٢٣.
لمناسبة تسليم جائزة الأكاديميات الحبرية ٢٠٢٣ للأكاديمية الحبرية للاتينية وجَّه قداسة البابا فرنسيس الأربعاء ٢٣ تشرين الأول أكتوبر رسالة إلى عميد دائرة الثقافة والتربية، الكاردينال جوزيه تولينتينو دي ميندونسا، أشار في بدايتها إلى أن منح الجائزة يعني تكريم بحث وشغف وعمل باحثين شباب اختاروا تكريس جهودهم الفكرية وحبهم للمعرفة لترجمة الإرث اللغوي والثقافي اللاتيني الذي لا يُقدَّر بثمن. وذكَّر الأب الأقدس بأن تكريم اليوم يتألف من جائزتين، الأولى موضوعها اللاتينية والعلوم والثانية اللاتينية والسياسة.
وواصل البابا فرنسيس معربا عن تهنئته للفائزين بالجائزة وذلك على التزامهم في مجال اللغة اللاتينية وأهميتها في العالم المعاصر، ووجه قداسته التهنئة بشكل خاص إلى مجموعة الباحثين الذين تعاونوا في إصدار “الأعمال الرياضية” لفرنشيسكو ماوروليكو والذي لم يكن فقط عالِما في الرياضيات بل وأيضا كاهنا.
شدد قداسة البابا بعد ذلك على كون اللاتينية كنزا للمعرفة والفكر ومفتاحا للتعرف على النصوص الكلاسيكية التي شكلت عالمنا. وتابع مشيرا إلى أن اللاتينية تشكل جذور الحضارة الغربية وبالتالي هويتنا أيضا بأشكال مختلفة، قال قداسته. وأضاف البابا فرنسيس أن اللاتينية هي لغة ترتبط بالفلسفة والعلوم والفن والسياسة ما يُبرز قيمتها كأداة للتأمل وللحوار والذي هو ضروري اليوم أكثر من أي وقت مضى وذلك في عالم مفكك مثل عالمنا. وواصل قداسته أن الحاصلين على الجائزة هذا العام يقدمون رؤية معاصرة ونضرة حول مواصلة قدرة هذه اللغة القديمة على أن تتحدث إلينا وتحفز تأملاتنا. وأضاف أن ما يقوم به المكرمون من أبحاث لا يتطرق فقط إلى فكر كبار معلمي الماضي بل يُدخل معارفهم في إطار حديث لتكون قريبة من تحديات زمننا. ويرى الأب الأقدس من جهة أخرى أن أعمال جميع من تسابقوا للحصول على الجائزة تدعونا إلى البحث في الرباط بين المعرفة العلمية وتلك السياسية وذلك من خلال لغة لها تاريخ طويل.
ثم توقف الأب الأقدس عند الجائزة الأولى الخاصة باللاتينية والعلوم فقال إنها تجعلنا نفكر في روعة الخليقة. وشدد البابا على الأهمية الكبيرة للتأمل في عالم الطبيعة في زمننا الذي يزداد فيه وعينا بهشاشة البيئة، وأضاف أن العلم يقدم انا أدوات لفهم قوانين الطبيعة واستكشاف سر الحياة ومواجهة التحديات الإيكولوجية. إلا أنه فقط من خلال التحليل الأخلاقي والثقافي والروحي يمكن أن نلمس بالفعل المعنى العميق للكون المحيط بنا والذي نحن جزء منه.
وتابع البابا فرنسيس أن النظر إلى الطبيعة في مجملها باعتبارها عطية من الله يدعونا إلى التفكير في مسؤوليتنا إزاء البيت المشترك، ثم تحدث عن أن بإمكان العلم والإيمان وعليهما أن يتحاورا، فكليهما مدعوان إلى توجيه فهمنا للعالم. وقال الأب الأقدس في هذا السياق إن الجائزة الممنوحة تُذكرنا بأن العلم لا يمكن اختزاله إلى مجرد جمع لبيانات بل يجب أن يساعد على استيعاب الطابع المركب للخليقة وجمالها.
أما في حديثه عن الجائزة الثانية، وموضوعها اللاتينية والسياسة، فقال البابا فرنسيس إنها تحفزنا على البحث في البنى السياسية من خلال التأمل في الخير العام والعدالة. وتوقف الأب الأقدس هنا عند ما وصفها بقيمة التراث اللاتيني في فترات عدم الاستقرار الاجتماعي وذلك لأنه يشجع الربط بين الأمور العامة والمبادئ الأساسية للتأمل. وأضاف البابا أن السياسة حين تمارَس بنزاهة واستقامة هي فن نبيل ودعوة من أجل خدمة الجماعة، لا المصالح الخاصة.
هذا وشدد البابا فرنسيس على أن اقتراح أخلاقيات تقوم على قيم الأنسنة هو دعوة إلى العمل بمسؤولية في أجواء حوار واحترام ودمج. وتابع أن على السياسة أن تواجه اللامساواة وأن تعزز خير الجميع وبشكل خاص الفئات الأكثر ضعفا. وتلعب في هذا المجال دورا أساسيا التنشئة الإنسانية والثقافية، كتب الأب الأقدس، وذلك لأن فقط المواطنين المكوَّنين بشكل جيد والواعين يمكنهم أن يكونوا صناع تغيرات صحية في المجتمع.
وانطلاقا من موضوعَي الجوائز المذكورَين أكد البابا فرنسيس أن اللاتينية تُعِد أرضا خصبة لاستكشاف العلم والثقافة والسياسة والتوافق بينها. ومن هذا المنطلق فإن الأب الأقدس لا يعتبر أبحاث الفائزين بجوائز الأكاديميات الحبرية ٢٠٢٣ مجرد إسهام أكاديمي، بل هي دعوة بكل معنى الكلمة موجهة إلى كل واحد منا. وتابع البابا فرنسيس أن هذا يعني أن لقاء اليوم لتسليم الجوائز لا يقتصر على كونه تكريما للبحث بل ويدعونا إلى أن نعيد تأكيد التزامنا من أجل ثقافة نمو متكامل للإنسان.
فلنتساءل بالتالي، كتب البابا فرنسيس، كيف يمكننا أن نترجم في الحياة اليومية الاكتشافات التي نكرمها اليوم، كيف يمكننا تشجيع الأجيال الجديدة على اختيار دروب البحث وطرح التساؤلات وعدم التخوف من الاستكشاف، وكيف يمكننا أن ننشر لدى الشباب مذاق الثقافة والعلم. وواصل قداسته أن جرأة الفكر والإبداع، والتي تشجعها الكنيسة، تنطلق من إعادة اكتشاف جمال معرفةٍ قادرة على تشكيل القلوب والأذهان وتشييد الجسور وهدم الجدران. ومن وجهة النظر هذه فإن اللغة اللاتينية ومعها الإرث الفكري للبشرية، حسبما واصل قداسة البابا، يمكنهما أن يكونا أدوات من أجل التناغم بين الشعوب وتعزيز الاحترام المتبادل والكرامة الإنسانية. ثم أعرب قداسته عن تمنياته أن تصبح جوائز اليوم علامة رجاء وأن يلهِم شغف مَن فازوا بها آخرين من أجل التزام مماثل.
وفي ختام رسالته إلى عميد دائرة الثقافة والتربية الكاردينال جوزيه تولينتينو دي ميندونسا لمناسبة تسليم جوائز الأكاديميات الحبرية ٢٠٢٣ شكر البابا فرنسيس الكاردينال على التفاني والعمل كما وشكر أعضاء الأكاديمية الحبرية للاتينية وجميع المشاركين في حفل توزيع الجوائز. ثم بارك الأب الأقدس الجميع بما في ذلك المتعاونين مع الأكاديمية، وتضرع كي يجعل الرب جهودهم والتزامهم أكثر إثمارا دائما.