“إذا توقفنا عن البحث عن الحقيقة معًا، تصبح الدراسة أداة للسلطة والسيطرة على الآخرين. لا تخدم، بل تتسلّط. أما الحقيقة فهي تحررنا. أتريدون الحريّة؟ كونوا باحثين وشهودًا للحقيقة! حاولوا أن تكونوا صادقين من خلال أبسط الخيارات اليومية. وهكذا تصبح هذه الجامعة يوميًّا ما تريد أن تكونه، أي جامعة كاثوليكية!” هذا ما قاله قداسة البابا فرنسيس في كلمته إلى طلاب جامعة لوفان الكاثوليكية
في إطار زيارته الرسوليّة إلى بلجيكا التقى قداسة البابا فرنسيس عصر السبت طلاب جامعة لوفان الكاثوليكية وللمناسبة وجّه الأب الأقدس كلمة قال فيها أيها الطلاب الأعزاء، يسعدني أن ألتقي بكم وأصغي إلى أفكاركم. في هذه الكلمات أشعر بالشغف والرجاء، والرغبة في العدالة، والبحث عن الحقيقة.
تابع البابا فرنسيس يقول من بين القضايا التي تناولتموها، أثّرت فيَّ تلك المتعلقة بالمستقبل والألم. نرى جيدًا مدى عنف وغطرسة الشر الذي يدمر البيئة والشعوب. يبدو أنه لا يعرف كيف يتوقّف. والحرب هي تعبيره الأكثر وحشية. وكذلك الفساد وأشكال العبودية الحديثة. وفي بعض الأحيان تلوث هذه الشرور الدين نفسه، فيصبح أداة للهيمنة. ولكن هذا تجديف، إذ يصبح إتحاد البشر مع الله، الذي هو محبة خلاصية، عبودية. وحتى اسم الأب، الذي هو علامة عناية، يصبح تعبيراً للغطرسة. الله هو أب، وليس سيّد؛ هو ابن وأخ وليس ديكتاتوراً. إنه روح محبة، وليس روح سيطرة. نحن المسيحيون نعلم أن الشر ليس له الكلمة الأخيرة، وأن أيامه معدودة، كما يقال. وهذا الأمر لا يخفف من التزامنا، بل على العكس يزيده: الرجاء هو مسؤوليتنا. في هذا الصدد، قد تسألونني ما هي العلاقة بين المسيحية والإيكولوجيا، أي ما هو مشروع إيماننا فيما يتعلق بالبيت المشترك للبشرية جمعاء. سأقول ذلك في ثلاث كلمات: الامتنان، والرسالة، والأمانة.
أضاف الأب الأقدس يقول الموقف الأول هو الامتنان، لأن هذا البيت قد أُعطي لنا: لسنا سادة، ولكننا ضيوف وحجاج على الأرض. والأول الذي يعتني بها هو الله: إن الله يعتني بنا أولاً، فهو الذي خلق الأرض – كما يقول إشعياء – “لا كخواء بل جبلها للسكنى”. ومفعم بالامتنان المندهش هو المزمور الثامن: “عندما أرى سمواتك صنع أصابعك والقمر والكواكب التي ثبتها؛ ما الإنسان حتى تذكره وابن آدم حتى تفتقده؟”. الموقف الثاني هو الرسالة: نحن موجودون في العالم لكي نحافظ على جماله وننمّيه لخير الجميع، ولاسيما للأجيال القادمة، والمستقبل القريب. هذا هو “البرنامج الإيكولوجي” للكنيسة. ولكن لن تتمكن أية خطة تنموية من النجاح إذا بقي العنف والغطرسة والتنافس في ضمائرنا. علينا أن نذهب إلى مصدر المشكلة، الذي هو قلب الإنسان. ومن هناك تأتي الضرورة الملحة للقضية البيئية أيضًا: من لامبالاة الأقوياء المتغطرسة، التي تضع دائمًا المصلحة الاقتصادية في المقام الأول. وطالما سيكون الأمر كذلك، سيتم إسكات كل نداء أو سيتم قبوله فقط بقدر ما سيكون مناسبًا للسوق. وطالما سيبقى السوق في المقام الأول، سيعاني بيتنا المشترك من الظلم. إن جمال العطيّة يطلب مسؤوليتنا: نحن ضيوف، ولسنا طغاة. وفي هذا الصدد، أيها الطلاب الأعزاء، اعتبروا الثقافة كتعزيز للعالم، وليس للأفكار فقط. وهنا يكمن تحدي النمو المتكامل، الذي يتطلب الموقف الثالث: الأمانة. الأمانة لله والإنسان. وهذا التطور يعني في الواقع جميع الأشخاص في جميع جوانب حياتهم: الجسدية والأخلاقية والثقافية والاجتماعية والسياسية؛ وهذا الأمر يتعارض مع أي شكل من أشكال القمع والتهميش. إن الكنيسة تدين هذه الإساءات، وتلتزم أولاً في ارتداد كل فرد من أعضائها، أي نحن، إلى العدالة والحقيقة. وبهذا المعنى، تناشد التنمية المتكاملة قداستنا: إنها دعوة إلى حياة عادلة وسعيدة للجميع. وبالتالي فالخيار الذي يتعين اتخاذه هو بين التلاعب بالطبيعة وتعزيز الطبيعة. بدءًا من طبيعتنا البشرية – لنفكر في تحسين النسل، والكائنات السيبرانية، والذكاء الاصطناعي. إن الاختيار بين التلاعب أو التنمية يتعلق أيضًا بعالمنا الداخلي.
تابع الحبر الأعظم يقول إن التفكير في الإيكولوجيا البشرية يقودنا إلى التطرق إلى موضوع عزيز على قلوبكم وعلى قلبي وقلوب أسلافي: دور المرأة في الكنيسة، وهنا يثقِّل العنف والظلم، إلى جانب التحيزات الأيديولوجية. لذلك علينا أن نجد مجدّدًا نقطة البداية: من هي المرأة ومن هي الكنيسة. الكنيسة هي شعب الله، وليست شركة متعددة الجنسيات. وفي شعب الله، المرأة هي الابنة والأخت والأم. كما أنني ابن وأخ وأب. هذه هي العلاقات التي تعبّر عن كوننا على صورة الله، رجلاً وامرأة، معًا، وليس منفصلين! إنّ النساء والرجال في الواقع، هم أشخاص، وليسوا أفرادًا؛ وهم مدعوون منذ “البدء” لكي يُحبّوا ويُحَبّوا. دعوة وهي رسالة. ومن هنا يأتي دورهم في المجتمع وفي الكنيسة.
أضاف الأب الأقدس يقول إنَّ ما يُميِّز المرأة، وما هو أنثوي، لا يقره الإجماع أو الأيديولوجيات. والكرامة يضمنها قانون أصلي، لا مكتوب على الورق، بل بالجسد. الكرامة هي خير لا يقدر بثمن، وصفة أصلية، لا يمكن لأي قانون بشري أن يمنحها أو يسلبها. وانطلاقًا من هذه الكرامة المشتركة والمتقاسمة، تطوّر الثقافة المسيحية دائمًا، في سياقات مختلفة، دعوة الرجل والمرأة ورسالتهما ووجودهما المتبادل لبعضهما البعض، في الشركة. ليس واحد ضد الآخر، مع مطالبات متعارضة، وإنما واحد للآخر. لنتذكر أن المرأة هي في قلب الحدث الخلاصي. ومن “نعم” مريم يأتي الله نفسه إلى العالم. المرأة هي قبول خصب، عناية وتفاني حيوي. لنفتح أعيننا على العديد من أمثلة الحب اليومية، من الصداقة إلى العمل، ومن الدراسة إلى المسؤولية الاجتماعية والكنسية، ومن الزواج إلى الأمومة، وإلى البتولية لملكوت الله والخدمة. أنتم أنفسكم موجودون هنا لكي تنمووا كنساء وكرجال. أنتم في مسيرة، في تنشئة كأشخاص. لذلك يشمل مساركم الأكاديمي مجالات مختلفة: البحث، والصداقة، والخدمة الاجتماعية، والمسؤولية المدنية والسياسية، والتعبيرات الفنية… أفكر في الخبرة التي تعيشونها يوميًّا، في هذه الجامعة الكاثوليكية في لوفان، وأشارك ثلاثة جوانب، بسيطة وحازمة للتنشئة: كيف أدرس؟ لماذا أدرس؟ لمن أدرس؟
تابع الحبر الأعظم يقول كيف أدرس: ليس هناك طريقة واحدة فقط، كما هو الحال في كل علم، بل هناك أسلوب. يمكن لكل شخص أن يعزز أسلوبه. إن الدراسة في الواقع هي على الدوام سبيل لمعرفة الذات. ولكن هناك أيضًا أسلوب مشترك يمكن مشاركته في الجماعة الجامعيّة. أن ندرس معًا: بفضل الذين درسوا قبلي – الأساتذة، وزملاء الدراسة السابقين – والذين يدرسون معي، في الفصل الدراسي. إنَّ الثقافة كعناية بالذات تتضمّن عناية متبادلة. ثانيًا: لماذا أدرس. هناك سبب يدفعنا وهدف يجذبنا. يجب أن يكونا جيّدَين، لأن معنى الدراسة واتجاه حياتنا يعتمدان عليهما. أحيانًا أدرس للعثور على هذا النوع من الوظائف، ولكن ينتهي بي الأمر بالعيش وفقًا له. فنصبح نحن “السلعة”. نحن لا نعيش لكي نعمل، بل نعمل لكي نعيش؛ من السهل قول ذلك، ولكنه يتطلب الالتزام بوضعه موضع التنفيذ بصدق. ثالثًا: لمن أدرس. لنفسي؟ لكي أؤدي حسابًا للآخرين؟ نحن ندرس لكي نكون قادرين على تربية وخدمة الآخرين، ولاسيما من خلال خدمة الكفاءة والسلطة. وبالتالي قبل أن نسأل أنفسنا ما إذا كانت الدراسة تفيد بشيء، لنقلق أولاً بشأن خدمة شخص ما. عندها ستشهد الشهادة الجامعية على القدرة على تحقيق الخير العام.
وختم البابا فرنسيس كلمته بالقول أيها الطلاب الأعزاء، إنه لمن دواعي سروري أن أشارككم هذه التأملات. وبينما نفعل ذلك، ندرك أن هناك واقع أعظم ينيرنا ويسمو علينا: الحقيقة. بدون الحقيقة، تفقد حياتنا معناها. تكون الدراسة منطقية عندما تبحث عن الحقيقة، ومن خلال البحث عنها نفهم أننا قد خلقنا لكي نجدها. إنَّ الحقيقة قد وجدت لكي نجدها: وهي مضيافة ومتوفرة وسخيّة. إذا توقفنا عن البحث عن الحقيقة معًا، تصبح الدراسة أداة للسلطة والسيطرة على الآخرين. لا تخدم، بل تتسلّط. أما الحقيقة فهي تحررنا. أتريدون الحريّة؟ كونوا باحثين وشهودًا للحقيقة! حاولوا أن تكونوا صادقين من خلال أبسط الخيارات اليومية. وهكذا تصبح هذه الجامعة يوميًّا ما تريد أن تكونه، أي جامعة كاثوليكية! شكرا على هذا اللقاء. أبارككم من كلِّ قلبي أنتم ومسيرة تنشئتكم. وأوصيكم: لا تنسوا أن تصلّوا من أجلي.