البابا فرنسيس يستقبل الجمعيات المسيحية للعمال الإيطاليين

“إن التشفُّع من أجل السلام هو أمر يذهب أبعد من مجرد التسوية السياسية البسيطة، لأنه يتطلب المشاركة والمجازفة. وفي عالم مطبوع بالصراعات والانقسامات، أصبحت شهادتكم كصانعي سلام، وشفعاء سلام، ضرورية وثمينة أكثر من أي وقت مضى” هذا ما قاله قداسة البابا فرنسيس في كلمته إلى الجمعيات المسيحية للعمال الإيطاليين
استقبل قداسة البابا فرنسيس صباح السبت في الفاتيكان الجمعيات المسيحية للعمال الإيطاليين وللمناسبة وجّه الأب الأقدس كلمة رحّب بها بضيوفه وقال يسعدني أن أستقبلكم فيما تحتفلون بالذكرى الثمانين لتأسيسكم. إنه تاريخ طويل وغني، ويشهد على التزامكم وتفانيكم في خدمة الجماعة. لكونكم في الثمانين من عمركم، أنت أصغر مني قليلًا، لكن مسيرتكم مهمة جدًا؛ وهذه الذكرى هي فرصة جيدة لكي تعيدوا قراءة تاريخكم بأفراحه ولحظاته الصعبة، ولكي تعبِّروا عن الامتنان. أشكر معكم الرب الذي رافقكم وعضدكم طوال هذه المسيرة، وألهم أيضًا العديد من الأشخاص الذين، من خلال الجمعيات المسيحية للعمال الإيطاليين، كرسوا حياتهم لخدمة العمال والمتقاعدين والشباب والأجانب والعديد من الأشخاص الذين يجدون أنفسهم في العوز. إنَّ الجمعيات المسيحية للعمال الإيطاليين هي المكان الذي يمكننا فيه أن نلتقي بـ “القديسين الذين يقيمون في البيت المجاور”، الذين لا تنتهي أخبارهم على الصفحات الأولى من الصحف، لكنهم في بعض الأحيان يغيرون الأمور فعليًا، إلى الأفضل!
تابع البابا فرنسيس يقول هذا التاريخ هو تراث نستمد منه الطاقة الحيوية لكي ننظر إلى الأمام برجاء وحزم. ونجد فيه القيم التي ألهمت مؤسسيكم والتي جسدتها أجيال من الناشطين على مر السنين، من خلال حضورهم المهم في المجتمع. وفي هذا الصدد، أود اليوم أن أركز على خمس خصائص لهذا الأسلوب، والتي أعتقد أنها أساسية لمسيرتكم. الميزة الأولى هي النمط الشعبي. لا يقتصر الأمر على أن تكونوا قريبين من الناس فحسب، وإنما أن تكونوا وتشعروا بأنكم جزء من الشعب. وهذا يعني أن تعيشوا وتشاركوا أفراح وتحديات الجماعة اليومية، وتتعلّموا من قيم وحكمة الناس البسطاء. إن الأسلوب الشعبي يعني الاعتراف بأن المشاريع الاجتماعية العظيمة والتحولات الدائمة تولد من الأسفل، ومن الالتزام المشترك والأحلام الجماعية. لكن الجوهر الحقيقي للشعب يكمن في التضامن والشعور بالانتماء. في سياق مجتمع مجزأ وثقافة فردية، لدينا حاجة كبيرة إلى أماكن يمكن للأشخاص فيها أن يختبروا هذا الشعور الإبداعي والديناميكي بالانتماء، الذي يساعد على الانتقال من “أنا” إلى “نحن”، وعلى تطوير مشاريع مشتركة من أجل الخير العام وإيجاد السبل والطرق لتحقيقها. هذه هي دعوة “مجموعاتكم”: أن تفتحوا الأبواب وتبقوها مفتوحة، وأن تستقبلوا الأشخاص، وتسمحوا لهم ببناء روابط تضامن وشعور بالانتماء، والشروع معًا في مسيرة تكامل تنمّي “ثقافة اللقاء في انسجام متعدد”.
أضاف الأب الأقدس يقول الميزة الثانية: الأسلوب السينودسي. إن العمل معًا والتعاون من أجل الخير العام هو أمر أساسي. وهذا الأسلوب السينودسي يشهد عليه حضور أشخاص ينتمون إلى آفاق ثقافية واجتماعية وسياسية وحتى كنسية مختلفة، وهم هنا معكم اليوم. ولكنه أيضًا أسلوب ينتمي إليكم من الناحية الهيكلية لأنه، كما كتب رئيسكم عند تقديمكم، أنتم عبارة عن مجموعة من الجمعيات “المتعددة الأشكال والقلقة”. وهذا أمر جميل: التنوع والقلق – بالمعنى الإيجابي – الذي يساعدكم على السير معًا وكذلك على الاختلاط مع قوى المجتمع الأخرى، والتواصل وتعزيز المشاريع المشتركة. وبالتالي أطلب منكم أن تفعلوا ذلك أكثر فأكثر وأن تنتبهوا إلى الضعفاء في المجتمع، لكي لا يبقى أحدٌ في الخلف.
الميزة الثالثة، تابع الحبر الأعظم يقول، الأسلوب الديمقراطي. لقد كانت الأمانة للديمقراطية دائما سمة مميزة للجمعيات المسيحية للعمال الإيطاليين. واليوم نحن في حاجة ماسة إليها. ديمقراطي هو ذلك المجتمع الذي يوجد فيه بالفعل مكان للجميع، في الواقع وليس فقط في التصريحات وعلى الورق. ولهذا السبب مهمٌّ جدًّا هو العمل الذي تقومون به مهم، خاصة لدعم الذين يواجهون خطر التهميش: الشباب، الذين تستهدفهم مبادرات التنشئة المهنية بشكل خاص؛ والنساء اللاتي غالباً ما يعانين من أشكال التمييز وعدم المساواة؛ العمال والمهاجرون الأكثر هشاشة، الذين يجدون في الجمعيات المسيحية للعمال الإيطاليين شخصًا قادرًا على مساعدتهم في الحصول على احترام حقوقهم؛ وأخيرا المسنون والمتقاعدون، الذين يجدون أنفسهم بسهولة “منبوذين” من قبل المجتمع. أنتم تقدمون لهؤلاء الأشخاص خدمة مهمة، لا يجب أن تبقى فقط ضمن نطاق المساعدة، بل عليها أن تعزز كرامة كل شخص وإمكانية أن يتمكن الجميع من أن يقدّموا مواردهم ومساهماتهم الخاصة.
أضاف الأب الأقدس يقول الميزة الرابعة الأسلوب السلمي، أي أسلوب صانعي السلام. في عالم تُدميه العديد من الحروب، أعلم أنني أشارككم الالتزام والصلاة من أجل السلام. لهذا السبب أقول لكم: إن الجمعيات المسيحية للعمال الإيطاليين هي صوت ثقافة السلام، وفسحة نؤكِّد فيها أن الحرب ليست “حتمية” أبدًا بينما السلام هو ممكن على الدوام؛ وأن هذا الأمر ينطبق على العلاقات بين الدول وعلى حياة العائلات والجماعات وفي أماكن العمل. لقد شدد الكاردينال مارتيني، خلال عشيّة صلاة من أجل السلام، على القدرة على “التشفع”، أي على الوقوف بين المتنافسين، ووضع اليد على كتف كليهما وقبول المخاطرة التي ينطوي عليها ذلك. إنَّ الذين يعرفون كيفية اتخاذ موقف واضح يبنون السلام، ولكنهم في الوقت نفسه يسعون جاهدين لبناء الجسور والاصغاء وفهم مختلف الأطراف المعنية، وتعزيز الحوار والمصالحة. إن التشفُّع من أجل السلام هو أمر يذهب أبعد من مجرد التسوية السياسية البسيطة، لأنه يتطلب المشاركة والمجازفة. وفي عالم مطبوع بالصراعات والانقسامات، أصبحت شهادتكم كصانعي سلام، وشفعاء سلام، ضرورية وثمينة أكثر من أي وقت مضى.
وأخيرًا، تابع الحبر الأعظم يقول أسلوب مسيحي. وأذكره أخيرًا ليس كملحق، وإنما لأنه خلاصة وأصل للجوانب الأخرى التي تحدثنا عنها. إلى من يمكننا أن ننظر لكي نفهم ما يعنيه أن نكون صانعي سلام على أكمل وجه، إن لم يكن إلى الرب يسوع؟ أين يمكننا أن نجد الإلهام والقوة لاستقبال الجميع، إن لم يكن في حياة يسوع؟ إن تبني الأسلوب المسيحي لا يعني فقط توفير وقفات صلاة في لقاءاتنا؛ وإنما يعني أن ننمو في الألفة مع الرب وفي روح الإنجيل، لكي يتغلغل في كلِّ ما نقوم به ويكون لعملنا أسلوب المسيح ويجعله حاضرًا في العالم. وبشكل خاص، أمام الرؤى الثقافية التي تهدد بإلغاء جمال الكرامة الإنسانية وبتمزيق المجتمع، أدعوكم إلى تنمية “حلم جديد للأخوة والصداقة الاجتماعية لا يقتصر على الكلمات”. إنه حلم القديس فرنسيس الأسيزي والعديد من القديسين الآخرين، والعديد من المسيحيين، والعديد من المؤمنين من جميع الأديان: ليكن هذا حلمكم أيضًا!
وختم البابا فرنسيس كلمته بالقول أيها الأصدقاء الأعزاء في الجمعيات المسيحية للعمال الإيطاليين، أشكركم على التزامكم وأحثكم على المضي قدمًا بشجاعة. ليستمر الروح القدس في جعل عملكم خصبًا وليرشدكم في خدمة المجتمع. سيروا قدمًا بفرح وفي الرجاء! أبارككم من كلِّ قلبي. ومن فضلك لا تنسوا أن تصلوا من أجلي.