“إن المحبة التي يظهرها الله لنا، والتي يدعونا بدورنا إلى ممارستها، هي هكذا: تستجيب بسخاء لاحتياجات الفقراء، وتتميز بالشفقة على المتألمين، وهي على استعداد لتقديم الضيافة، وأمينة في الأوقات الصعبة، ومستعد على الدوام لأن تغفر وترجو” هذا ما قاله قداسة البابا فرنسيس في عظته مترئسًا القداس الإلهي في الاستاد الوطني في سنغافورة
في إطار زيارته الرسوليّة إلى سنغافورة ترأس قداسة البابا فرنسيس عصر الأربعاء بالتوقيت المحلي القداس الإلهي في الاستاد الوطني وللمناسبة ألقى الأب الأقدس عظة قال فيها “إن المعرفة تنفخ، أما المحبة فتبني”. يوجه القديس بولس هذه الكلمات إلى الإخوة والأخوات في الجماعة المسيحية في كورنتوس: جماعة غنية بمواهب كثيرة وغالبًا ما يوصيها الرسول، في رسائله، بتنمية الشركة في المحبة. نحن نصغي إليها فيما نشكر الرب معًا من أجل كنيسة سنغافورة، الغنية أيضًا بالمواهب، والحيوية، والتي في نمو وفي حوار بناء مع مختلف الطوائف والأديان الأخرى التي تتقاسم معها هذه الأرض الرائعة.
ولهذا السبب بالتحديد، تابع البابا فرنسيس يقول أود أن أعلق على هذه الكلمات عينها انطلاقًا من جمال هذه المدينة، ومن المباني الهندسية الكبيرة والجريئة التي تساهم في جعلها مشهورة ورائعة، بدءًا من مجمع الاستاد الوطني الرائع الذي نجتمع فيه. وأود أن أفعل ذلك من خلال التذكير بأنه حتى في أصل هذه الأبنية المهيبة، مثل أي مشروع آخر يترك علامة إيجابية في هذا العالم، لا يوجد في المقام الأول، كما يعتقد الكثيرون، الأموال ولا التقنية ولا حتى الهندسة -التي هي كلها وسائل مفيدة-، وإنما الحب: “الحب الذي يبني”. ربما يظن البعض أن هذا كلام ساذج، لكن إذا فكرنا فيه جيداً، فالأمر ليس كذلك. في الواقع، لا يوجد عمل جيد لا يوجد خلفه أشخاص ربما أذكياء، وأقوياء، وأغنياء، ومبدعين، ولكنهم يبقون دائمًا نساء ورجالاً هشّين وضعفاء، مثلنا، والذين بالنسبة لهم بدون الحب لا توجد حياة، ولا اندفاع، ولا سبب للتصرف، ولا قوة للبناء.
أضاف الأب الأقدس يقول أيها الإخوة والأخوات الأعزاء، إذا كان هناك شيء صالح باقٍ في هذا العالم، فذلك فقط لأنه، في ظروف لا متناهية ومتنوعة، انتصر الحب على الكراهية، والتضامن على اللامبالاة، والسخاء على الأنانية. بدون ذلك، ما كان ليتمكن أحد هنا أيضًا من أن ينمّي مثل هذه المدينة الكبيرة، ما كان ليتمكن المهندسون من أن يصمموا، ولا العمال من أن يعملوا وما كان من الممكن أن يتحقق أي شيء. لذا فإن ما نراه هو علامة، وخلف كل عمل من الأعمال التي أمامنا هناك العديد من قصص الحب التي يجب اكتشافها: رجال ونساء متحدون مع بعضهم البعض في جماعة، ومواطنون مخلصون لوطنهم، وأمهات وآباء يعتنون بعائلاتهم، مهنيّون وعاملون على اختلاف أنواعهم ومستوياتهم، يلتزمون بأمانة في مختلف أدوارهم ومهامهم. وسيساعدنا أن نتعلم أن نقرأ هذه القصص المكتوبة على واجهات منازلنا والمرسومة على شوارعنا، وأن ننقل ذكراها، لكي نتذكر أنّ لا شيء يدوم يولد وينمو بدون الحب.
تابع الحبر الأعظم يقول في بعض الأحيان، قد تجعلنا عظمة مشاريعنا ننساها، وتوهمنا بأننا نستطيع بمفردنا أن نكون صانعي حياتنا، وثرواتنا، ورفاهيتنا، وسعادتنا، لكن الحياة في النهاية تعيدنا إلى الحقيقة الوحيدة: لسنا شيئًا بدون الحب. من ثمَّ، يثبِّتنا الإيمان وينيرنا أكثر حول هذا اليقين، لأنه يقول لنا إنه في أساس قدرتنا على أن نحب وأن نكون محبوبين، هناك الله نفسه، الذي أرادنا بقلب أب وأتى بنا إلى الحياة بطريقة مجانية تمامًا، وبطريقة مجانية أيضًا فدانا وحررنا من الخطيئة والموت، بموت وقيامة ابنه الوحيد. وفيه يجد أساسه وتمامه كل ما نحن عليه وما يمكننا أن نصبح عليه.
أضاف الأب الأقدس يقول وهكذا نرى في محبتنا انعكاسًا لمحبة الله، كما قال القديس يوحنا بولس الثاني بمناسبة زيارته لهذه الأرض، مضيفًا عبارة مهمة وهي أنه “لهذا السبب يتميّز الحب بالاحترام العميق لجميع البشر، بغض النظر عن عرقهم أو عقيدتهم أو أي شيء يجعلهم مختلفين عنا”. إنها كلمة مهمة بالنسبة لنا، لأنها، بالإضافة إلى الدهشة التي نشعر بها أمام الأعمال التي صنعها الإنسان، تذكرنا بأن هناك عظائم أكبر علينا أن نعانقها بإعجاب واحترام أكبر: أي الإخوة والأخوات الذين نلتقي بهم كل يوم في مسيرتنا، بدون تفضيلات وبدون اختلافات، كما يشهد بوضوح المجتمع والكنيسة في سنغافورة، المتنوعان عرقيًا والمتحدان والمتضامنان في الوقت عينه!
تابع الحبر الأعظم يقول إن أجمل بناء، وأثمن كنز، والاستثمار الأكثر ربحًا في نظر الله هو نحن: أبناء الآب المحبوبين، المدعوون بدورنا لكي ننشر الحب. تُحدثنا عن ذلك بطرق مختلفة قراءات هذا القداس، التي تصف من وجهات نظر مختلفة الواقع نفسه: المحبة، الرقيقة في احترام هشاشة الضعفاء، والحكيمة في معرفة ومرافقة الذين يتردّدون في مسيرة الحياة، والسخية في المغفرة التي تفوق كل حساب وقياس. إن المحبة التي يظهرها الله لنا، والتي يدعونا بدورنا إلى ممارستها، هي هكذا: “تستجيب بسخاء لاحتياجات الفقراء، وتتميز بالشفقة على المتألمين، وهي على استعداد لتقديم الضيافة، وأمينة في الأوقات الصعبة، ومستعد على الدوام لأن تغفر وترجو”، لدرجة أن “الرد على التجديف بالبركة هو نقطة ارتكاز الإنجيل”.
أضاف الأب الأقدس يقول يمكننا أن نرى ذلك في العديد من القديسين: رجال ونساء جذبهم إله الرحمة، لدرجة أنهم أصبحوا انعكاسًا له، وصداه، وصورته الحية. وأود في الختام أن أذكر اثنين منهم. الأولى هي مريم، التي نحتفل اليوم باسمها الأقدس. كم من الأشخاص منحهم دعمها وحضورها الرجاء، وعلى كم من الشفاه ظهر ويظهر اسمها في لحظات الفرح والحزن! وذلك لأننا نرى فيها محبة الآب تتجلى بإحدى أجمل الطرق وأكثرها شمولاً: حنان الأم، التي تفهم وتغفر كل شيء والتي لا تتخلى عنا أبدًا. ولهذا السبب نحن نلجأ إليها! والثاني هو قديس عزيز على هذه الأرض، وقد وجد هنا ضيافة عدة مرات خلال رحلاته الرسوليّة. أنا أتحدث عن القديس فرنسيس كسفاريوس، الذي تم استقباله في هذه الأرض في مناسبات عديدة، كان آخرها في ٢١ تموز يوليو ١٥٥٢. ولدينا رسالة جميلة منه موجهة إلى القديس إغناطيوس ورفاقه الأوائل، يعرب فيها عن رغبته في الذهاب إلى جميع جامعات عصره “لكي يصرخ هنا وهناك كالمجنون ويهز الذين لديهم علم أكثر من المحبة”، فيشعرون بأنهم مدفوعون إلى أن يصبحوا مرسلين محبة بالإخوة، ويقولون من أعماق قلوبهم: “ها أنا ذا، يا رب؛ ماذا تريدني أن أفعل؟”.
وختم البابا فرنسيس عظته بالقول يمكننا نحن أيضًا أن نتبنى هذه الكلمات، على مثاله ومثال مريم: “ها أنا ذا، يا رب؛ ماذا تريدني أن أفعل؟”، لكي ترافقنا ليس في هذه الأيام وحسب، بل على الدوام، كالتزام دائم بالإصغاء والاجابة السريعة على دعوات الحب والعدالة التي لا تزال تصلنا اليوم من محبة الله اللامتناهية.