“هذه الليلة يغير الحب التاريخ. اجعلنا يا رب نؤمن بقوة محبتك التي تختلف عن قوة العالم. اجعلنا على مثال مريم ويوسف والرعاة والمجوس نجتمع حولك لكي نعبدك. وإذ جعلتنا أكثر شبهاً بك، سنكون قادرين على أن نشهد لجمال وجهك للعالم. ” هذا ما قاله قداسة البابا فرنسيس في عظته مترئسًا قداس ليلة عيد الميلاد
ترأس قداسة البابا فرنسيس عند الساعة السابعة والنصف من مساء الأحد قداس ليلة عيد الميلاد في بازيليك القديس بطرس، وألقى عظة استهلها بالقول “إحصاء جميع أهل الـمعمور”. هذا هو السياق الذي ولد فيه يسوع والذي يتوقّف عنده الإنجيل. كان بإمكانه أن يشير إليه بسرعة، ولكنه يتحدث عنه بدقّة. وبهذا يُبرز تناقضًا كبيرًا: فبينما يحصي الإمبراطور سكان العالم، يدخل الله بطريقة خفيّة تقريبًا؛ وبينما يحاول الذين يحكمون أن يرتقوا بين عظماء التاريخ، يختار ملك التاريخ درب الصِّغر. لم يتنبّه له أحد من ذوي النفوذ، وإنما بعض الرعاة فقط، المُبعَدين إلى هامش الحياة الاجتماعية.
تابع البابا فرنسيس يقول لكن الإحصاء يقول لنا أكثر. ولم يكن يترك ذكرى جميلة في الكتاب المقدس. فالملك داود، إذ استسلم لإغراء الأعداد الكبيرة والادعاء غير السليم للاكتفاء الذاتي، ارتكب خطيئة جسيمة بإحصاء الشعب. لقد أراد أن يعرف قوّته وبعد حوالي تسعة أشهر حصل على عدد الذين يمكنهم أن يحاربوا بالسيف. فغضب الرب وأصابت الشعب مصيبة. لكن في هذه الليلة، وُلد “ابن داود”، يسوع، بعد تسعة أشهر في بطن مريم، في بيت لحم، مدينة داود، ولم يعاقب الإحصاء، بل سمح بأن يُحصى هو أيضًا بكل تواضع. وبالتالي نحن لا نرى إلهًا غاضبًا يعاقب، بل إلهًا رحيمًا يتجسد، ويدخل ضعيفًا إلى العالم، يسبقه الإعلان: “السلام في الأرض للناس”. وقلبنا الليلة هو في بيت لحم، حيث لا يزال أمير السلام يتعرّض للرفض من قبل منطق الحرب الخاسر، مع هدير الأسلحة الذي يمنعه اليوم أيضًا من أن يكون له موضِعٌ في العالم.
باختصار، أضاف الأب الأقدس يقول يُظهر إحصاء جميع أهل الـمعمور، من ناحية، الحبكة البشريّة التي تمر عبر التاريخ: حبكة عالم يبحث عن السلطة والقوة والشهرة والمجد، وحيث يُقاس كل شيء بالنجاحات والنتائج، وبالأعداد والأرقام. إنه هوس الإنجازات. ولكن في الوقت عينه يُبرز الإحصاء درب يسوع الذي يأتي لكي يبحث عنا بواسطة التجسد. فهو ليس إله الإنجازات، بل إله التجسد. فهو لا يُنزل الظلم من الأعلى بالقوة، بل يرفع من الأسفل بالحب؛ هو لا يكتسح بقوة بدون حدود، بل يحلُّ في محدوديّتنا؛ هو لا يتجنب ضعفنا، بل يأخذه على عاتقه.
تابع البابا فرنسيس يقول أيها الإخوة والأخوات، في هذه الليلة يمكننا أن نسأل أنفسنا: بأي إله نؤمن؟ بإله التجسد أم بإله الإنجازات؟ نعم، لأن هناك خطر أن نعيش عيد الميلاد مع فكرة وثنية عن الله في رؤوسنا، كما لو كان سيدًا قويًا في السماء؛ إله يقترن بالسلطة والنجاح الدنيوي وعبادة النزعة الاستهلاكية. تعود دائمًا الصورة الزائفة لإله بعيد وحادِّ الطَّبع، يتصرف بشكل جيد مع الصالحين ويغضب مع الأشرار، إله خُلق على صورتنا، ومفيد فقط لحل مشاكلنا وإزالة شرورنا. أما هو فلا يستخدم عصا سحرية، وليس الإله التجاري “لكل شيء وعلى الفور”؛ ولا يخلِّصنا بكبسة زر، بل يقترب لكي يغير الواقع من الداخل. ومع ذلك، تبقى متجذِّرة فينا الفكرة الدنيوية عن إله بعيد ومسيطر، صارم وقوي، يساعد شعبه لكي يتسلّط على الآخرين! ولكن الأمر ليس كذلك: لقد وُلد من أجل الجميع، خلال إحصاء جميع أهل الـمعمور.
أضاف الأب الأقدس يقول لننظر إذن إلى “الله الحق الحي” (١ تسالونيكي ١، ٩): إلى الذي هو فوق كل حساب بشري ومع ذلك يسمح بأن نحصيه في حساباتنا؛ إلى الذي يُحدث انقلابًا في التاريخ من خلال الإقامة فيه؛ إلى الذي يحترمنا لدرجة أنه يسمح لنا أن نرفضه؛ إلى الذي يمحو الخطيئة إذ يأخذها على عاتقه، والذي لا ينزع الألم بل يحوِّله، إلى الذي لا يزيل المشاكل من حياتنا، بل يعطي حياتنا رجاء أعظم من المشاكل. هو يرغب في أن يعانق وجودنا لدرجة أنه، هو اللامتناهي، جعل من نفسه مُتناهٍ؛ والكبير، جعل من نفسه صغيرًا؛ والبار، أقام في ظلمنا. هذه هي دهشة عيد الميلاد: وليس مزيجًا من المشاعر الحلوة ووسائل الراحة الدنيوية، بل حنان الله غير المسبوق الذي يخلص العالم بالتجسد. لننظر إلى الطفل، لننظر إلى مذوده، لننظر إلى المغارة التي يسميها الملائكة “العلامة”: إنها في الواقع العلامة التي تظهر وجه الله الذي هو حنان ورحمة وقدير دائمًا وفقط في المحبة.
تابع الحبر الأعظم يقول أيها الأخوات، أيها الإخوة، لنندهش لأنه “صار جسدًا”. جسد: كلمة تذكّر بهشاشتنا ويستخدمها الإنجيل لكي يقول لنا إن الله قد دخل إلى عمق حالتنا البشرية. لماذا ذهب إلى هذا الحدّ؟ لأنه يهتم بكل ما يتعلق بنا، لأنه يحبنا لدرجة أنه يعتبرنا أثمن من أي شيء آخر. أيها الأخ، أيتها الأخت بالنسبة لله الذي غيّر التاريخ خلال الإحصاء، أنت لست رقماً، بل وجهاً؛ واسمك مكتوب في قلبه. ولكنك، إذ تنظر إلى قلبك، إلى أدائك الذي لا يرقى إلى المستوى، إلى العالم الذي يحكم ولا يغفر، فربما أنت تعيش بشكل سيئ عيد الميلاد هذا العام، وتعتقد أنك لست على ما يرام، وتربي شعورًا بالنقص وعدم الرضا بسبب هشاشتك وسقطاتك ومشاكلك. لكن اليوم، من فضلك، اترك المبادرة ليسوع الذي يقول لك: “من أجلك صرتُ جسدًا، ومن أجلك صرتُ مثلك”. لماذا تبقى في سجن أحزانك؟ على مثال الرعاة الذين تركوا قطعانهم، اترك حظيرة حزنك وعانق حنان الله الطفل. بدون أقنعة وبدون دروع، ألقِ فيه همومك وهو سوف يعتني بك: فهو الذي صار جسدًا، لا ينتظر انجازاتك الناجحة، بل قلبك المفتوح والواثق. وفيه ستكتشف مجدّدًا من أنت: ابن يحبه الله، وابنة يحبها الله. الآن يمكنك أن تصدق ذلك، لأن الرب قد ظهر هذه الليلة لكي ينير حياتك وعيناه تلمعان بالحب لك.
تابع الأب الأقدس يقول نعم، المسيح لا ينظر إلى الأرقام، بل إلى الوجوه. ولكن من ينظر إليه بين العديد من الأشياء والسباقات المجنونة لعالم مشغول على الدوام وغير مبالٍ؟ في بيت لحم، بينما كان الكثير من الناس، وقد أخذتهم نشوة الإحصاء، يأتون ويذهبون، يملؤون المساكن والفنادق ويتحدثون عن هذا وذاك، كان بعضهم قريبين من يسوع: وهم مريم ويوسف، الرعاة، وثم المجوس. لنتعلم منهم. إذ يقفون وأبصارهم مثبتة على يسوع، وقلوبهم موجهة نحوه، لا يتكلمون، بل يعبدون. العبادة هي الدرب لقبول التجسد. لأنه في الصمت يصبح يسوع، كلمة الآب، جسدًا في حياتنا. لنفعل نحن أيضًا ما فعلوه في بيت لحم، التي تعني “بيت الخبز”: لنقف أمامه، هو خبز الحياة. ولنكتشف مجدّدًا العبادة، لأن العبادة لا تعني إضاعة الوقت، وإنما أن نسمح لله بأن يقيم في زمننا. إنها أن نجعل بذرة التجسد تزهر فينا، وأن نعاون في عمل الرب الذي كالخميرة يغير العالم. إنها الشفاعة والتعويض والسماح لله بأن يقوِّم التاريخ. كتب راوي ملاحم عظيم لابنه: “أقدم لك الشيء العظيم الوحيد الذي عليك أن تحبه على الأرض: القربان المقدس. هناك ستجد السحر والمجد والشرف والأمانة والدرب الحقيقي لجميع أشكال الحب على الأرض”.
وختم البابا فرنسيس عظته بالقول هذه الليلة يغير الحب التاريخ. اجعلنا يا رب نؤمن بقوة محبتك التي تختلف عن قوة العالم. اجعلنا على مثال مريم ويوسف والرعاة والمجوس نجتمع حولك لكي نعبدك. وإذ جعلتنا أكثر شبهاً بك، سنكون قادرين على أن نشهد لجمال وجهك للعالم.