الكاردينال لويس روفائيل ساكو
نحن اليوم أمام صورة جديدة مختلفة للمجتمع، فالعالم في حالة تحولات ومتغيرات، خصوصاً وقد الغى الانترنت الحدود والمسافات بين الشعوب والأشخاص، وتقدّم “الذكاء الاصطناعي” والثورة التكنولوجية. لا نُبالغ حين نقول ان إنسان القرن الواحد والعشرين تغيّر.
في الغرب تُهيمن الليبرالية العلمانية التي تؤكد على حرية الفرد. هذه العلمانية خلقت عقلية استهلاكية تقوم على عدم حرمان الذات من شيء. وظهرت أثار هذه المتغيرات على فكر الناس وقراراتهم. كما طغت على الاخلاق والقيم بحيث يصعب ضبطها. مواجهة هذا الواقع، يجب أن تتم بالانفتاح والتفكير والتحليل وفهم عقلية الناس، وأن يكون ذلك بحكمة ومسؤولية. هذا ما دفعني الى كتابة هذه الخاطرة عن الإيمان والعبادة والتقليد، للتمييز والاستنارة والتوعية لا سيما ونحن في زمن الصوم الكبير الذي يدعونا الى المراجعة والتصحيح والتجديد.
ديناميكية الإيمان
الإيمان هو في العقل والقلب. انه علاقة وجدانية أبلغ من ممارسة طقوس العبادة. لان ما فائدة الصلاة ان لم تُغيّر سلوكنا وتعاملنا مع الآخرين والتفاعل مع الحياة العامة.
الإيمان هو أكثر عمقاً ووجداناً وشمولاً من طقوس العبادة. إنه فعل حبّ يستَحوِذ على كلّ كيَّان المؤمن: فكره وذاكرته وقلبه ومشاعره، ويشمل كلّ تفاصيل الحياة بحيث يرى كل شيء بعين الحبّ. والإيمان هو مضمون كرازة يسوع وروحه الذي يعبّر عنه الإنجيل. الإيمان يساعد على التَجذُّر والنمو والإرتقاء. هذا الايمان- الحبّ “الأعظم” هو ما جعل مسيحيين عديدين على مرّ التاريخ شهداء، يعطون حياتهم من أجل المسيح، ويحاكونه في موته.
تتطلب مسيرة المؤمن عيش الإيمان بأصالة وصدق، في حضرة الله وخدمة الناس. وعلى الكنيسة (الاكليروس) تقع مسؤولية مرافقة المؤمنين ومساعدتهم في مسيرتهم الإيمانية وتعزيز الرجاء والمحبة فيهم. في الإنجيل لا نجد فصلاً بين يسوع وكلمته – تعليمه. يسوع يأتي الينا، يتكلم لغتنا ويوجّهنا، والمؤمن الذي يسمع كلامه، لا يعمل سوى الخير.
طقوس العبادة
طقوس العبادة المتعددة تشكّل ركيزة أساسية للتعبير عن الإيمان، شرط أن تتم بشكل صحيح وواع وفي جوّ خشوعي. في هذه الأجواء الروحية الحقّة تصبح الصلاة وطقوس العبادة قوّة ناعمة تُغذي الإيمان، وتمنح المؤمن القدرة على التواصل بفرح مع الله ومع الناس من كل الخلفيات ودروب الحياة. ويجعل المؤمن الحقيقي مَنْ معه يشعرون بأنهم مميَّزون. الإيمان والطقوس يتكاملان.
لقد بدأتْ ممارسة هذه الطقوس اليوم بالتراجع، وقلَّ عدد المترددين على الكنائس؟ ونَتجَ عن هذا أن العديد من المسيحيين ليسوا فاعلين! على الكنيسة أن تُراجع ذاتها، وتتساءَل لماذا هذا التراجع؟ ليس بالضرورة أن من لا يأتي الى الكنيسة هو ملحد، لكن قد يكون السبب أن هذه الطقوس التقليدية لا تجذبه!
هذه الطقوس يجب أن تنسجم مع طبيعة الإيمان، وتمنح لِمَن يمارسها الشعور بالانشراح والسلام والانتعاش. ضروري أن يفهمها الشعب ويشترك فيها، لان عندما لا تنعكس الطقوس على الحياة الشخصية والعامة تصبح حالة سلبية نسميها “التديّن” أي المغالاة في ممارسة طقوس العبادة بحرفية. ولقد “حارَب” المسيح هؤلاء المتشددين: “الفريسيين” وهاجم تعاليمهم.
مخاطر التقليد
بالرغم من هوَس البعض في التمسك بالتقليد، فشلتْ واقعيّاً تجربة التقليد خصوصاً غير الأصيل أمام تغيير الثقافة والسياسة والاقتصاد واسلوب الحياة وبحث الناس عن تعزيز أمنهم ورفاهية الحياة. وصاروا يبحثون عن معرفة كل شيء.
لقد تاثر المؤمنون بهذه التحولات، لذلك عمَدَتْ الكنيسة الغربية إلى التجديد والتأوين لأنهما السبيل الأكثر فعالية لعيش الإيمان. وراحت تجدّد الليتورجيا والتعليم، وتريد تجديد البُنى- الهيكليات وإيجاد اخرى جديدة لها جذورها في العهد الجديد والتقليد الرسولي، وتفعيل دور العلمانيين في السينودالية “السير معا” (2023-2024). تريد الكنيسة أن تكون في حركة دائمة من التغيير والتأثير لتكون حاضرة في قلب العالم. التجدّد والتأوين هما في طبيعة رسالة الكنيسة وطقوسها.
اما الكنائس الشرقية فهي بطبيعتها محافِظة، قد يكون بسبب المجتمع الإسلامي الكلاسيكي، لكني أسأل: الى متى تقدر أن تحتمي بالتقليد أمام غزو وسائل التواصل الاجتماعي؟ هذا ما أدى إلى انحسار حضور المؤمنين خصوصاً ان عدداً من شباب هذه الكنائس خاصة في بلدان الاغتراب توجهو للانخراط في كنائس “مجهرية…”
من المؤسف ان ثمة أشخاصاً وجماعات يرفضون تجدّد الطقوس وإعادة النظر في تقاليد وهيكليات الكنيسة وراحوا الى حد “شيطَنة” الكنيسة. أمام هذه الحالة المتغيرة البالغة الحساسيّة والأهمية، فالكنيسة وخصوصاً الكنائس الشرقية بحاجة للتفكير جدياً: كيف تكون كنيسة حاملة رسالة المسيح؟ وكيف يمكنها إعلان الإنجيل بمبادرات أصيلة… أو ما يسمى بحركة أنجلة جديدة بكلام بسيط، ومفردات مختارة ومفهومة؟ عليها أن تقوم بأبحاث ودراسات جادة عن هذا الواقع المتحرك والمقلق! انه الطريق الى المستقبل.