“إن أعظم تعزية لنا، في هذا الصراع مع العالم الخارجي ومع ما في داخلنا، هي أن نعرف أن المسيح لا يزال، بعد قيامته، يصلّي إلى الآب من أجلنا” هذا ما قاله واعظ القصر الرَّسوليّ في تأمّله الثاني لزمن الصوم
ألقى واعظ القصر الرَّسوليّ الكاردينال رانييرو كانتالاميسا صباح الجمعة تأمّله الثاني لزمن الصوم في قاعة بولس السادس بالفاتيكان، تحت عنوان “أنا نور العالم”. استهل الكاردينال كانتالاميسا تأمّله بالقول في تأملات الصوم هذه، اقترحنا أن نتأمل حول كلمات “أنا هو” (Ego eimi) العظيمة التي قالها يسوع في إنجيل يوحنا. من مجمع كفرناحوم في الجليل، ننتقل اليوم إلى هيكل أورشليم في اليهودية، حيث ذهب يسوع بمناسبة عيد المظال. وهنا دار النقاش مع “اليهود”، الذي يُدرج فيه إعلان يسوع عن نفسه والذي نريد أن نجمعه في هذا التأمل: “أَنا نُورُ العالَم مَن يَتبَعْني لا يَمْشِ في الظَّلام بل يكونُ له نورُ الحَياة”. هذه الكلمة هي عظيمة الأهميّة وجميلة جدًا لدرجة أن المسيحيين اختاروها على الفور كأحد التسميات المفضلة للمسيح. يسوع نور العالم: لقد أصبحت هذه الكلمات بالنسبة لنا، اليوم، حقيقة نؤمن بها ونعلنها، ولكن كان هناك وقت لم تكن فيه كذلك فقط؛ بل كانت خبرة معاشة، وتتحدث عن ذلك رسالة القديس بطرس الأولى وتصفها كـانتقال من الظلمات إلى النور العجيب.
تابع الكاردينال رانييرو كانتالاميسا يقول وبالتالي نسأل أنفسنا على الفور السؤال: ماذا تعني لنا كلمة يسوع هذه الآن وهنا: “أنا نور العالم”؟ إن عبارة “نور العالم” لها معنيان أساسيان. المعنى الأول هو أن يسوع هو نور العالم لأنه تجلّي الله الأسمى والنهائي للبشرية. وتوضح الرسالة إلى العبرانيين هذا الأمر بطريقة واضحة جدًّا: ” إن الله، بعدما كلم الآباء قديما بالأنبياء مرات كثيرة بوجوه كثيرة، كلمنا في آخر الأيام هذه بابن جعله وارثا لكل شيء وبه أنشأ العالمين”. إنَّ الحداثة تكمن في الحقيقة الفريدة والتي لا تتكرّر وهي أن الكاشف هو نفسه الوحي! “أنا هو النور”، وليس أنا هو الذي أحمل النور إلى العالم. يتكلّم يسوع بضمير المتكلم: “أقول لكم!”: وبالتالي فالوسيلة هي الرسالة؛ والرسول هو الرسالة!
أضاف واعظ القصر الرَّسوليّ يقول هذا هو المعنى الأول لعبارة “نور العالم”. والمعنى الثاني هو أن يسوع هو نور العالم من حيث أنه ينير العالم، أي أنّه يكشف العالم لنفسه؛ ويجعل كل شيء يُرى في نوره الصحيح، كما هو أمام الله. لنتأمل حول هذين المعنيين، بدءًا من الأول، أي من يسوع باعتباره الإعلان الأسمى لحقيقة الله. ومن هذا المنطلق، كان للنور الذي هو المسيح على الدوام منافس شرس: العقل البشري. ونحن لا نتحدث عن هذا بقصد جدلي أو دفاعي، أي لكي نعرف ماذا نرد على معارضي الإيمان، وإنما لكي نثبت في الإيمان. إن المناقشات حول الإيمان والعقل، وبشكل أكثر دقة، حول العقل والوحي، تتأثر بعدم تناسق جذري. فالمؤمن يشارك الملحد في العقل؛ أما الملحد فلا يشارك الإيمان في الوحي مع المؤمن. المؤمن يتكلم لغة محاوره الملحد؛ أما الملحد فلا يتكلم لغة نظيره المؤمن. ولهذا السبب فإن أعدل جدال حول الإيمان والعقل هو الذي يدور داخل نفس الشخص، بين إيمانه وعقله. ولدينا حالات مشهورة في تاريخ الفكر الإنساني لأشخاص لا يمكن أن يكون هناك شك في وجود شغف متطابق فيهم لكل من العقل والإيمان: أوغسطينوس، وتوما الأكويني، وبليز باسكال، وسورين كييركغارد، وجون هنري نيومان، ويمكننا أن نضيف يوحنا بولس الثاني، وبندكتس السادس عشر… والخلاصة التي توصل إليها كل منهم هي أن الفعل الأسمى للعقل البشري هو الاعتراف بوجود شيء فوقه. وهو أيضًا أكثر ما يعظم العقل لأنه يشير إلى قدرته على تجاوز نفسه. لأنَّ الإيمان لا يتعارض مع العقل، بل يفترض العقل، كما أن “النعمة تفترض الطبيعة”.
تابع الكاردينال رانييرو كانتالاميسا يقول إن النقاش حول الإيمان والعقل، قبل أن يصبح جدلاً بيننا وبينهم، بين المؤمنين وغير المؤمنين، يجب أن يكون جدلاً بين المؤمنين أنفسهم. في الواقع، إنَّ أسوأ أنواع العقلانية ليس العقلانية الخارجية، بل العقلانية الداخلية للاهوت. ويكتب القديس بولس إلى أهل كورنتوس: “لم يعتمد كلامي وتبشيري على أسلوب الإقناع بالحكمة، بل على أدلة الروح والقوة، كيلا يستند إيمانكم إلى حكمة الناس، بل إلى قدرة الله”؛ وكذلك: “أجل، إننا نحيا حياة بشرية، ولكننا لا نجاهد جهادًا بشريًّا. فليس سلاح جهادنا بشريًّا، ولكنه قادر في عين الله على هدم الحصون. ونهدم الاستدلالات وكل كبرياء تحول دون معرفة الله، ونأسر كل ذهن لنهديه إلى طاعة المسيح”.
أضاف واعظ القصر الرَّسوليّ يقول إنَّ ما كان الرسول يخشاه كثيرًا ما حدث بيننا. لقد ابتعد اللاهوت، وخاصة في الغرب، بشكل متزايد عن قوة الروح، ليعتمد على الحكمة البشرية. وكانت العقلانية الحديثة تتطلّب أن تقدم المسيحية رسالتها بطريقة جدلية، أي من خلال إخضاعها، في جميع جوانبها، للبحث والمناقشة، بحيث يمكن أن تتناسب مع الجهد العام المقبول فلسفيًا لفهم مشترك ومؤقت دائمًا لمصير الإنسان والكون. ولكن بهذه الطريقة، يتمُّ إخضاع إعلان موت المسيح وقيامته لحالة مختلفة، تعتبر أسمى. ولم يعُد هذا إعلان خلاصي، بل مجرد فرضية واحدة بين العديد من الفرضيات الأخرى.
تابع الكاردينال رانييرو كانتالاميسا يقول إنَّ الخطر الكامن في هذا النهج في اللاهوت هو أن الله يصبح شيئًا نتحدث عنه، وليس شخصًا نتحدث معه – أو بحضوره. إنه رد الفعل العنيف لجعل اللاهوت “علمًا”. إن الواجب الأول على من يمارسون العلم هو أن يكونوا محايدين إزاء موضوع بحثهم؛ ولكن هل يمكن للمرء أن يكون محايدًا إزاء ما يتعلّق بالله؟ لقد كان هذا السبب الرئيسي الذي دفعني، في مرحلة ما من حياتي، إلى ترك التدريس الأكاديمي للاهوت والتفرغ للوعظ. في الواقع، إن نتيجة هذه الطريقة في ممارسة اللاهوت هي أنه يصبح أكثر فأكثر حوارًا مع النخبة الأكاديمية، وأقل غذاءً لإيمان شعب الله. ولا يمكننا أن نخرج من هذا الوضع إلا من خلال الصلاة، والتحدث مع الله، حتى قبل التحدث عن الله. “إذا كنت لاهوتيًا فسوف تصلي حقًا، وإذا صليت حقًا فستكون لاهوتيًا”، قال أحد آباء الصحراء القدماء. والقديس أوغسطينوس قد جعل من لاهوته لاهوتًا أكثر ديمومة – ويمكننا أن نضيف أكثر يقينًا – من خلال التحدث إلى الله في اعترافاته. ويساعدنا في ذلك أيضًا التأمل والاقتداء بأمِّ الله، فهي لم يكن لديها أي علاقة بالأفكار المجردة عن الله وابنها يسوع، وإنما فقط بواقعهما الحي.
أضاف واعظ القصر الرَّسوليّ يقول لقد أشرتُ أعلاه إلى معنى ثان لعبارة “نور العالم”، وهو ما أود أن أخصص له الجزء الأخير من تأمُّلي، لأنه أيضًا المعنى الذي يهمنا. كنت أقول إنه المعنى الذرائعي، إذا جاز التعبير، الذي فيه يسوع هو نور العالم: أي بقدر ما يلقي الضوء على جميع الأشياء؛ فهو يفعل تجاه العالم ما تفعله الشمس تجاه الأرض. وبهذا المعنى الثاني أيضًا، لدى يسوع وإنجيله منافس هو الأخطر على الإطلاق، لكونه منافسًا داخليًا، وعدوًا في المنزل. إن عبارة “نور العالم” تتغير تماما في المعنى بحسب ما نأخذ عبارة “العالم”؛ أي اعتمادًا على ما إذا كان العالم هو الشيء الذي يُضاء، أو الشيء الذي يُنير. في هذه الحالة الثانية، ليس الإنجيل، بل العالم هو الذي يجعلنا نرى كل الأشياء في نوره. والإنجيلي يوحنا كان يحثُّ تلاميذه بهذه الكلمات: “لا تحبوا العالم وما في العالم. من أحب العالم لم تكن محبة الله فيه. لأن كل ما في العالم من شهوة الجسد وشهوة العين وكبرياء الغنى ليس من الآب، بل من العالم”.
تابع الكاردينال رانييرو كانتالاميسا يقول إنَّ العالم الذي نتحدث عنه والذي يجب ألا نتماثل معه ليس العالم الذي خلقه الله وأحبه؛ وليسوا البشر الذين علينا أن نذهب للقائهم على الدوام، ولا سيما الفقراء والأخيرين والمتألِّمين. إنَّ “الاختلاط” مع عالم الألم والتهميش هذا هو، للمفارقة، أفضل طريقة “للانفصال” عن العالم، لأنه يعني الذهاب إلى هناك، من حيث يهرب العالم بكل قوته. إنّه أن ننفصل عن المبدأ الذي يحكم العالم، والذي هو الأنانية. قبل الأعمال، على التغيير أن يحدث في طريقة التفكير. وقد كان القديس بولس يحثُّ مسيحيي روما قائلاً: “لا تتشبهوا بهذه الدنيا، بل تحولوا بتجدد عقولكم لتتبينوا ما هي مشيئة الله، أي ما هو صالح وما هو مرضي وما هو كامل”.
أضاف واعظ القصر الرَّسوليّ يقول هناك أسباب كثيرة في أصل عمليّة قبول الثقافة الدنيوية وقيمها، ولكن السبب الرئيسي هو أزمة الإيمان. لأن الإيمان هو ساحة المعركة الأساسية بين المسيحي والعالم. ولأجل إيمانه لم يعد المسيحي “من” العالم. ومن الناحية الأخلاقية، يشكّل “العالم” كل ما يتعارض مع الإيمان. “هذه هي الغلبة التي غلبت العالم”، يكتب يوحنا في الرسالة الأولى، “إيماننا”. وفي الرسالة إلى أهل أفسس، هناك كلمة في هذا الصدد تستحق أن نتوقَّف عندها وتقول: “وأنتم، وقد كنتم أمواتا بزلاتكم وخطاياكم، التي كنتم تسيرون فيها بالأمس، متبعين سيرة هذا العالم، سيرة سيد مملكة الجو، ذاك الروح الذي يعمل الآن في أبناء المعصية”. لدينا اليوم صورة جديدة لوصف العمل المدمر لروح العالم، فيروس الكمبيوتر. من القليل الذي أعرفه، الفيروس هو عبارة عن برنامج مصمم بشكل ضار يخترق الكمبيوتر من خلال طرق غير متوقعة (تبادل رسائل البريد الإلكتروني ومواقع الويب …)، وبمجرد دخوله يربك العمليات العادية أو يعوقها، ويغير ما يسمى ” أنظمة التشغيل”. إنَّ روح العالم يتصرف بطريقة مماثلة. هو يخترقنا من خلال آلاف القنوات، مثل الهواء الذي نتنفسه، وبمجرد دخوله، يغير نماذج عملنا: فيستبدل نموذج “المسيح” بنموذج “العالم”. للعالم أيضًا “ثالوثه”، أو آلهته الثلاثة، أو أصنامه، التي يجب عبادتها: المتعة، والسلطة، والمال. ونحن جميعا نستنكر الكوارث التي تخلقها في المجتمع، ولكن هل نحن على أكيدين من أننا لسنا محصنين ضدها؟
وختم واعظ القصر الرَّسوليّ الكاردينال رانييرو كانتالاميسا تأمّله الثاني لزمن الصوم بالقول إن أعظم تعزية لنا، في هذا الصراع مع العالم الخارجي ومع ما في داخلنا، هي أن نعرف أن المسيح لا يزال، بعد قيامته، يصلّي إلى الآب من أجلنا بالكلمات التي ودع بها رسله: “لا أَسأَلُكَ أَن تُخرِجَهُم مِنَ العالَم بل أَن تَحفَظَهم مِنَ الشِّرِّير. لَيسوا مَنَ العالَم كَمَا أَنِّي لَستُ مِنَ العالَم. كَرِّسْهُم بالحَقّ إِنَّ كلِمَتَكَ حَقّ. كَمَا أَرسَلَتني إِلى العالَم فكَذلِكَ أَنا أَرسَلتُهم إِلى العالَم وأُكَرِّسُ نَفْسي مِن أَجلِهمِ لِيَكونوا هم أَيضاً مُكَرَّسينَ بِالحَقّ. لا أَدْعو لَهم وَحدَهم بل أَدْعو أَيضاً لِلَّذينَ يُؤمِنونَ بي عن كلامِهم”.